كانت الفردانيَّةُ خشبةَ النعش لحُكم الأسد، وصراعات النظام الداخلية أوَّلَ مسمارٍ فيه. وقبل أن ينكشِفَ الحاكمُ العتيد فى درعا وغيرها، تعرَّى فى دمشق؛ رغم أنها آخر ما سقط من قلاعه الحصينة.
قُرئت اللحظة الاحتجاجية على معنى مُضلِّل؛ ففَرضَتْ الضلالاتُ على صانع القرار ما قاده إلى انتحارٍ بطىء. أُعيدَ تركيبُ السُّلطة على وجهٍ أشدّ شموليَّةً وشراسة، وتتابعت الضربات بالانقسام أو بإبعاد الأصوات العاقلة.
ومثلما تسلَّط شيطانُ النَّفس على بشّار؛ فإنَّ أكبرَ امتحانات الجولانى الآن فى التغلُّب على هواه، والبُعد بكلِّ السُّبل المُمكنة عن إنتاج مأساة سلفه، من حيث يتصوَّرُ أنه على عداءٍ معه، أو فى قطيعة كاملةٍ مع تراثه الثقيل، من خِفّة الرؤية وسوء التقدير والإدارة.
«البعثُ» فكرةٌ بأكثر من كَونِه أَبنيةً ومُمارسات، والأفكار بطبعِها قابلةٌ للتحوُّر وتغيير ملامحها، وقادرة طوالَ الوقت على استلاب ضحايا جُدد.
لم يكُن العنفُ مُبرمَجًا فى بِنيَة الأسد الابن؛ بل الأرجح أنَّ طبيب العيون الشاب لم يتخيّل لنفسه ما صيّره إليه الواقع. صعد على جثة شقيقه «باسل» دون اختيارٍ منه، ولا جاهزيَّةٍ وتأهيل مُحكَمَين من جانب الأب.
وافتتح عهدَه شابًّا فى الخامسة والثلاثين، لَفّوه فى بِزّة عسكرية ليُناسِبَ ثوابت الدولة البعثية، ولم ينزع عن كتفيه وشاح الحياة الأوروبية وأحلام الفتى المُدلَّل.
عبَّر عن آماله المُبكّرة فى «ربيع دمشق»، واجتذبته حاشية السوء ليقلب أجواء الشام بين أصيافٍ ساخنة وشتاءات عاصفة. كأنه دخلَ من جانب المنظومة حالمًا، وخرج من الآخر وحشًا كاسرًا.
البداياتُ الجميلة ذاتُها تُرافِقُ الجولانى؛ إنما العِبرةُ بالمآلات. شَبِع السوريون كلامًا عن الديمقراطية وما رأوها، وعن الصمود والمُمانَعة والاستقلال، بينما تتآكلُ الجغرافيا ويتوحَّشُ البطش والاستتباع. وحاجتهم اليومَ إلى مَنْ يُعيد الانضباط لعقارب الساعة، لا أن يُجمِّدَها أو يديرها عكسَ مسار الزمن.
عداوةُ العائلة الأَسَديَّة أفرزت الثورةَ عليها؛ ويجبُ ألَّا تَحكُم مسار الخروج منها. صحيحٌ أنها شوَّهت كثيرًا من المفاهيم النبيلة؛ إنما لا يُمكن القصاص منها بمُواصلة التشويه، ولا بالارتداد عن النُّبل عقابًا له عمَّا أصابه فى عهدٍ ظالم، دون التفاتٍ لمَكرِ التاريخ ونكاياته، واحتياطٍ لأنَّ الضحية كثيرًا ما تُعاقب نفسَها، فى الوقت الذى تتوهَّمُ أنها تنتقمُ من الجلَّاد.
الردُّ الجليل على حقبةٍ ظالمةٍ؛ ، أن تُنتزَعَ القِيَمُ السامية من تحت ركامها، وتُدَاوى، ويُمسَح عن وجهها كلُّ ما اعتراها من قُبحٍ وتحريف. كانت الدولةُ عصابيَّةَ الطابع لعقودٍ؛ والحلُّ أن تُنتَشَل وتُرَمَّم، لا أن تُستبدَل بها القَبليّةُ أو الفوضى، وكذلك الديمقراطية والمدنيّة والمواطنة، وكلّ القِيَم الرديفة لبلدٍ لا يُخاصم عصرَه، ولمجتمعٍ حىٍّ أو يسعى لاستعادة الحياة من الموات والخراب العميم.
الحربُ ليست على الدولة، بل نظام تشغيلها، والخصومةُ يجبُ ألَّا تنصرف إلى الأُصول الاستراتيجية والنظامية؛ إنما تقتصر على نمطٍ وحيد من تمثُّلاتها فى المجال العام.
صراع السوريين مع السلطة القديمة بالأساس؛ إنما قد ينسحب على أى بديل يُكرِّر خطاياها أو لا يُعوِّض غيابها، بمعنى العوض الحقيقى لا الإحلال على سابق العلّات.
أمَّا صراع السلطة الجديدة فمع نفسها فى المقام الأول، وتحدّه قدرتها على الخروج من حال الثورة للسياسة، ومن انفلات الميليشيا إلى انضباط الدولة. وهى مسألة مُركَّبة تركيبًا شديدَ التعقيد؛ إذ تتّصل بالحركى وسُبل هندمته وتنظيمه، وبالفكرى ومسارات تطويعه لفضاء العمل المُؤسَّسى والشرعية الشعبية.
قضت الظروفُ بأن يُدار الانتقال تحت راية «هيئة تحرير الشام»، وأن تُختزَل الهيئةُ فى صورة الجولانى. والرجلُ مشدود بثلاثةِ حبال: التزامات الشارع عليه، وواجباته تجاه دائرته وداعميها، وطموحه الشخصى قبل الأمرين.
وسواء قُدِّم للواجهة بصلاحية حقيقية، أو انتُدِبَ لها نائبًا عن مصالح خفيّة؛ فالمُؤكَّد أنه لا يُريد أن يبقى دُميةً فى أيدى الآخرين، ولا أن يُطَوَّع من بيئته بدلاً من تطويعها لخدمة مشروعه.
قُدرته على الخطابة قد توفّر لها هامشًا أوسع من المناورة؛ إنما لن يَعبُر المرحلةَ الملغومة من دون اقتدارٍ على سياسة نفسه أوّلاً، ثم على المُواءمة بين فروض الخارج واحتياجات الداخل، وبين خضوعه للرعاة، ونزوعه إلى الاستقلال.
كثيرًا ما تأكلُ الثورات السلميَّةُ أبناءها، والخطر أعلى مع الحروب الأهليّة. إرضاءُ الجميع غايةٌ مُستحيلة، وإغضابُ بعض الأطراف قد يُعجِّل بالنهاية.
سيسعى للمُوازنة بالتأكيد؛ لكنه بين سندان الجمهور، ومطرقة القوى الساعية لتعبئة سوريا فى قالب مُسبَق التجهيز، قد يتورَّط فى التحامُل على جانب أو مُداهنة الآخر.
ولو قُدِّرت له النجاةُ من الفخاخ، وتخطَّى غابةَ الخناجر المُستبِقَة على لحم الشام وعظامه؛ فإمَّا أن يصير حاكمًا أقلَّ من طموح المحكومين، أو غريمًا يرميه أصدقاءُ الأمس بالخيانة والتنكُّر. واحتمال الإزاحة الخشنة واردٌ دومًا.
يُريد الناس منه بلدًا مُعافىً وعادلاً بين أبنائه، ويَطلبُ الداعمُ العثمانىُّ جانبًا من تركة الامبراطورية الزائلة، ومُرادُ الغرب أن يكون أليفًا مع إسرائيل، وبركانًا هادرًا فى وجه الجمهورية الإسلامية، وعلى مشروعها لتسليح الأجندة الصفوية بالثورة العابرة للحدود، وتذخيرها بالمذهب وشعارات المقاومة الدائمة.
أمَّا استحقاق الانتهازيين من تيّاره عليه؛ فأنْ يُمكِّنهم من الجاه والمال، ويُعوِّضهم عن سنوات الشَّظف الجهادى، بعقودٍ من الرفاهية والدّعة. وطموحُ العقائديين الثابتين منهم، أن يُترجِم أدبيَّات الأُصوليَّة فى تجربةٍ سُلطويّة ترعاها السماء، ويحرسُها تراثُ الفقهاء ومُنظّرى الداعشيّة، وأن تكون دمشقُ فاتحةً لانفجار الخرائط؛ كما كانت فى زمن الأُمويِّين.
وطنٌ وميليشيا وغُزاةٌ خارجيِّون. لا سبيلَ للتوفيق بين ثلاثتهم، ولا أُفقَ لتغليب واحدٍ منهم على الباقين. وحيلَتُه أن يُوزِّع العطايا بالتساوى؛ إنما بالعموميات دون تفاصيل، وبالقَول فى غيبةِ الفعل والرؤى المنضبطة.
وإلى الآن، يتحدَّث الجولانى عَمَّا لا يُريده، أو ما لن يسيرَ إليه؛ لكنه لم يُقارب عَمليًّا ما يبتغيه أو يتطلَّع لإنفاذه. للمنكوبين يُصرّح بأنه سيُرسى عقدًا اجتماعيًّا ودستورًا، ولا يُحدِّد الملامح والميقات. ويرفضُ فيدراليَّةَ الكُرد وسلاحَهم إرضاءً لراعيه المُباشر، من دون اقتراح البديل.
وأخيرًا؛ يسترضى بعض الميليشيات لتحلَّ نفسَها وتنخرط فى الجيش، ومثلها أو أكثر ما يزالون خارج الوفاق، ولا يُعرَف على أىِّ وجهٍ سيُديرُ اشتباكَه مع بنادقهم الساخنة!
فُسحةُ الفرح تُوشك أن تنقضى، وكلُّ دائنٍ سيُطالب بما له من مُستحقّات أو أطماع. الشوام على أكتافهم أثقالُ عقودٍ يشتهون التحرُّر منها، والمستثمرون فى القائد الجديد يبحثون عن جدوى المشروع وأرباحه، وإخوة العقيدة لن يخلعوا عباءةً ألبسَهم الله إيَّاها.
الدولةُ لن تقبل الميليشيا ولا المُحتلَّ، وهُما لا يقبلان شعبًا يبحثُ عن الاستقلال والقبض على زمام الأمور. «الأسد» جمَّعَهم معًا تحت رايةٍ واحدة، وها هُم يعودون فرادى، وقُطعانًا مُنعزلةً ومُتناطحة، بعدما تبدَّدت حجّة العدوّ المشترك.
حاجةُ القائد للميثاقيَّة أكبرُ مِمَّا يحتاجها العوام. وعليه أن يُحدِّد موقعَه من الجُملة أوّلاً، قبل أن يسعى لتعميمها على المجالس والمُنتديات. لا يُمكن أن تبنى نظامًا على مقاس الجميع، وجَبر التناقضات يفرضُ الربح فى جانب، واحتمال الخسارة فى آخر، والاتِّساق فى البدء والمُنتهى.
إدانةُ التغوَّل الفارسى السابق لا تستقيمُ مع إحلال بديلٍ عثمانىٍّ راهن، والمُطالبة باستعادة الجغرافيا المقضومة يتساوى فيها الجنوب والشمال، والعهد البائد إن كان مرفوضًا بالكُليَّة؛ فالرفض يشمل ما فيه من نظامٍ وفوضى، ومن شبّيحةٍ بَعثيِّين، وعصاباتٍ أُصوليّة أيضًا.
فجوة الخطاب الراهن؛ أنه أرسى مظلّةً من لون واحد، ويُرتِّبُ المواقع من تحتَها بادّعاء البداية من نقطة الصفر. الدولةُ ليست سُلطةً ودستورًا وصندوقة اقتراعٍ فحسب؛ بل مُؤسِّسات تنتظم وتُنظِّم غيرها قبل النصِّ وبعده، وفى السيولة مثلما فى الصلابة.
وعليه؛ فإنَّ احتكار الإدارة العُليا وما تحتها من صِيَغٍ تنفيذية استباقٌ قد لا يكون حميدًا؛ ولو بدا ضروريًّا بحُكم الظروف. وإدماج المُقاتلين خارج القواعد المُرسَاة جماعيًّا ليس من أعمال البناء التشاركى، والحديث عن عقد اجتماعى بين الدولة ومواطنيها لا من المنطق ولا أدبيات التقويم السليم.
عقود الاجتماع وحدتُها المواطن فى فردانيَّته؛ أى أنها بين أفرادٍ وجماعات، ومنها تنبعُ الدولة لا العكس. إنشاؤها تحت ظلِّ السلطة يُحوِّلها إلى عقود إذعان، ناهيك عن توجيهها بقوّة الأمر الواقع، وبتوظيف الأبنية المُؤسَّسية فى الانقلاب على فلسفتها العميقة.
تُبنَى العلاقاتُ قاعديًّا وإلى أعلى، أمَّا ما يفعله الجولانى فإنه بناءٌ من قمّة الهرم إلى قاعدته، ما يجعلُ الذروةَ المُتغيّرة ثابتًا حاكمًا، والمُرتكَزَ الباقى فرعًا على أصلٍ؛ كأنَّ الشجرة تُقلَبُ رأسًا على عقب؛ فلا تتغذّى الجذوعُ فيها ولا تُثمر الغضون!
نِيّته لتجييش الميليشيا قد تنقلبُ لحالةٍ من «مَلشَنَة» الجيش؛ والفارقُ عميق وبعيد للغاية. أوّله أنه لن يُبنَى على عقيدةٍ وطنية صافية، ثم تأتى تناقُضات النسيج نفسه.
سؤالٌ عميق عن المقاتلين الأجانب؛ فإنْ مُنِحوا الجنسيّةَ فإنه الانقلاب على الوطن، وإن مُنِعوا منها فانقلابٌ على المُعتَقَد.
الانتماءُ والانسجامُ والولاء أسئلةٌ كُبرى؛ مثلما سؤال الإخلاص والموثوقية من جانب الزعيم. إذ لو احتوى الغريبَ فقد يجورُ على ذَوى القُربى، ويُصرِّح بتأخير الدولة عن الطائفة، وإن أبعَده فخطرُ التشظِّى، وشكوكُ الانقلاب على العهود، ويحقُّ للمدنيِّين هُنا أن يخافوا كما يخافُ المسلَّحون.
القلقُ الأكبر اليومَ ليس على وثيقةٍ تُعيدُ هيكلةَ بلدٍ مُتداع؛ إنما على البلد نفسه. انحرفَتْ فكرةُ الوطن لدى العائلة الأَسَديَّة، أو حقبتها الأخيرة على الأقل؛ رغم الانطلاق من شعاراتٍ بدت أنها تُحاربُ العالم من أجل الدولة.
والدرس المُستفاد؛ أنَّ الدعايات لا تصنعُ ميثاقًا، ولا تعصم من الانجراف إلى ما دون البداوة. هل يفهم الجولانى المسألةَ السورية كما يفهمها بقيّة شركائه فيها؟! وإذا كان لديه وعى مُختلف بها؛ فكيف يُصار إلى قاعدةٍ واحدة مُجرَّدة يحتكم إليها الجميع؟!
الثورة إذ استضاءت بتجربتى مصر وتونس فى اندلاعها؛ فإنها ابتعدت عنهما كثيرًا فى إفرازها الأخير. أُزيح النظام فى التجربتين واستُبقيت الدولة الوطنية، وساعدت استدامة المؤسسات على تحصين الانتقال من أن يقتل الدولة بينما يُحاول أن يتخطَّى آلية تشغيلها القديمة.
والسياق الشامىّ الآن نقل العداوة من المظهر للجوهر، ويُفكِّك نقاط التلاقى الممكنة، بحثًا عن احتمالات لا تُؤمَنُ الطريق إليها. الشارع طموحه فى السماء، والشَّرع يعتبرُ السماء نفسها ملكيّته الخاصة.
والناس هناك إذ يُراهنون على أن يضربوا مثلاً نموذجيًّا فى الخروج من المستنقع، وأن يتجاوزوا تجربتى الأصولية مع محمد مرسى وراشد الغنوشى؛ فالقيادة الجديدة ربما تُراهن على أن حنظلة الماضى، تُغطِّى على صبارة الحاضر.
والمعنى؛ أن المصريين والتوانسة جاءوا من أنظمةٍ مدنيَّة انحرفت فى قليلٍ أو كثير، وتعاظمت تطلّعاتهم إلى استدراك ما فاتهم، والوصول إلى المعيارية الكاملة.
أمَّا السوريون فآتون من طائفية مقيتةٍ، وأبدٍ أسدىٍّ كان يُقرَأ عليهم فى المناهج والطرقات، ومن حربٍ أهليّة ألجأتهم إلى المنافى، ووطَّنت نفوسَ بعضهم على أنَّ «مَنْ مات نَجَا»، ولعلَّهم يرتضون بالردىء؛ لمجرَّد أن السابق كان أشدَّ وحشية ورداءة!
التأسيسُ على فرضيّة انخفاض سقوف الآمال لا يُحجِّم مدى البناء فحسب؛ بل يُهدِّد بسقوط السقف نفسه لمستوياتٍ لم تَدُر فى خيال الذين خرجوا على البعث قبل ثلاث عشرة سنة، وابتهجوا برحيله قبل ثلاثة أسابيع.
وإذا كان الخروج من عرين الأسد إلى انفساح الوطنية الجامعة صعبًا؛ فأصعب منه الانتقال من ظُلمة الميليشيا إلى أنوار الدولة، ومن انغلاقية الجماعة النقيّة عقائديًّا، إلى انفتاح المواطنة التى لا تَزِنُ الناس بإيمانهم، ولا تفرز مَنْ يحفظ القرآن، مِمَّن لا يُحسن الوضوء.
بُنِيَت الجدارة البعثيّة على أصلب نقطة فى الخطاب القومى، وكان الترقِّى فيها بالمزايدة والإفراط. والآتون الجُدد يقرأون فى كتابٍ أقدم، وبلغةٍ أشد خشونة.
فكرة أن الجولانى صُعِّد باختيار البغدادى أو الزرقاوى، لا تختلف عن أنَّ الأسد حملته الخَطابةُ والنياشين العسكرية، ومن صُلبه خرج الابن بالأمراض نفسها.
والعودة مثلما كانت مُكلِّفة للجنرالات؛ فإنها باهظةٌ على الشيوخ أيضًا، وإذا استنكفها السابقون تغليبًا للمصلحة، فلا ضمانةَ لأن يتواضَع أمامها اللاحقون.
من طيِّب الكلام الذى يقوله القائد الجديد، أن الثورة انقضت بإسقاط النظام، وعلى الخطوة السريعة يأتى الانتقال للدولة. دغدغةٌ لطيفة للمشاعر قطعاً؛ لكنها مُفخَّخة من داخلها.
الثوارت استثناء على الأصل؛ لكنها حالة شاملة أكبر من الهدم، ولا تُتِمَّ فروضها إلا باكتمال البناء. والحال؛ أنها أنجزت تفكيكَ القديم، ولم تُؤصِّل ركائز الجديد، وعليه لا يكون الانتقال من نظامٍ لنظام، بل من فوضى لفوضى، ومن إرادة أسدية مُطلَقة، إلى إملاء جولانى لا رادّ له.
ومهما كانت الإرادة صادقةً فى الانقطاع عن الحقبة الآفلة؛ فإنها لن تذوى لمُجرَّد الرغبة، ولا على ميقات المشاعر المُتأجِّجة. يُطِلّ النظام برأسه من ثنايا المشهد، ليس لقوّة فيه على الإطلاق؛ إنما لأن الدول لا تفقد ذواكرها بكبسة زِرٍّ، ولا تمّحى تقاليدها لأن عِمامة أُورِثَت مقعد قبّعة عسكرية.
يحتاج المجتمع عقودًا ليخرُجَ من تُراثه العتيق، وينبغى أن تُعينه السلطةُ المُؤقَّتة ويُعينها، وأن يتعاوَنَا فى إنجاز صيغةٍ قابلة للإنفاذ، وصالحةٍ للبقاء، ولا تُهدِّدُ بالخروج من قيودِ شعار وذهنية، إلى أشرس منهما، ولا بموجاتٍ تالية من الغضب.
القوّة الصلبة عمود ارتكاز الشام ومحور دورانه، وليس من اليوم؛ بل انطبعت بها من زمن الأُمويِّين. كان الجيش مركزيًّا، وتبدّى مع حَلِّه وحديث الانصراف عن التجنيد الإلزامى أنه سيُهمَّش، ثم عاد للبؤرة بالاتفاق على دمج الميليشيات، أو سيعود.
لا يُمكن الخروج من السرديَّة الموروثة دون إنتاجِ بديل عنها، ولا يُمكن تحويرها والتحسُّب لمخاطرها، بمعزلٍ عن تفكيك كلِّ الخطابات الكُبرى، والعمل على بناء السياق الجديد للدولة من أشدِّ نقاطها هشاشة، أى الفرد الأعزل ضمن أقليَّةٍ مُهمَّشة، يعرف سوريا وطنًا نهائيًّا، ويحقُّ له التنافس على أعلى مواقعه، من دون أن يقفز حدودَ الجغرافيا، ولا أن يحتمى بتحالفاتٍ وشبكات مصالح.
بِيْعت للجمهور دعائيَّةُ «قلب العروبة النابض»، أو بِيْع الجمهور لها. المهمّ أن البلد وُضِعَ على حدِّ السكين قهرًا، وعاش مُقاتلاً فى حروب الآخرين، ولم يَخُض حربَه الخاصة قطّ.
إبطال الشعارات القديمة لن يكون باختراع بديلٍ عنها، ويتعيَّن الجزم عَلنًا وبأوضح الطرق الممكنة بأنها مثلما لن تعود قلبا لأحد غير نفسِها، فلن تكون رديفًا لأجندة خارجية، ولا عاصمةً لتمكين الأُصوليَّة، وتفجير الخرائط بمَدٍّ سُنىٍّ؛ بعدما أرهقتها اللوثة الشيعية.
والتحدِّى هنا مع إقناع الصاعدين على صهوة السلاح، وليس تنويم المقتولين به أمس/ الخائفين منه اليوم وغدًا، وعلى الدوام.
حكم سوريا الآن امتحان لا جائزة، ويجب ألَّا يكون ورشةَ تنكيل جديدة بالسوريين، وبعضُ البطش تُحدِثُه المُماطلة وتضييع الأحلام.
بدأت التجربة الأسدية من القوميَّة باتِّضاح معالمها الجغرافية، ورافقتها العِلَلُ والعثرات؛ لكنها تضخَّمت كثيرًا بالانتقال إلى الشيعية المسلحة، بكلِّ ما فيها من هِيولِيَّةٍ فى الحدود والغايات.
وما انتهى إليه السابقُ، يبدأ من عنده اللاحق. بمعنى؛ أنَّ الجولانى يشربُ من نَبعٍ أُمَمىِّ الطابع، وليست الشام وغيرها فى تلك النظرة أكثر من نَسيلةٍ بين أنياب الضباع، كما كانت لدى الأسد بعِمامته الصفوية السوداء.
على الجديد إثبات أنه ليس كالقديم، وعليه أن يُبرهِنَ على الانتقال من المطلق للنسبى، ومن الأسطورة لأرض الواقع، قبل أن ينتظر إقرارَ المواطنين بالانتقال الذى يُدبّره للوطن.
الوطنيَّةُ ليست فكرةً أصيلةً ولا مُتجذّرة لدى الأُصوليّات الدينية، والبيّنةُ على من ادَّعى أنه خرج من عداوتها؛ ليدخُلَ راضيًا ومُقتنعًا فى دينها. التأسيس الفكرىُّ فى حاجةٍ للمُراجعة، والبِنيةُ الحركيَّة أيضًا، واحتكارُ السلطة ومشهد التمهيد للعهد الجديد.
الحوار الوطنىُّ المبشَّر به يجب أن يكون جامعًا بمقتضيات الندية والتكافؤ، كما يجب أن يترافق دمجُ الميليشيات مع احتواء الجيش بتراثه المُؤسَّسى وخبراته النظاميَّة.
ويتعيَّنُ ألَّا يُفرَضَ التجنيسُ على العقد الاجتماعى الجديد، خارجَ وفاقِ الدستور وموضوعية القانون، وألَّا تُنتقَدَ الميليشيا فى شرقىِّ الفرات، وتُرخَى حبالُها فى الغرب، ولا يُهجَى احتلالُ الجنوب، ويُغَضّ النظر عن سَميِّه فى الشمال.
سوريا تُولَد من جديد؛ إنما ليس من العَدَم. شىء يُشبه خروج الفينيق من رماد سَلَفه. وعدم الوعى بالاستمراريّة قد يُسدِّد ضرباتٍ لا تحتملها الدولة، والتوهَّم بإمكانية ابتلاع التجربة سيأكلُ صاحبه؛ لكنه يُهدِّدُ بإضاعة مزيدٍ من أعمار الناس والبلد.
بديهيَّات فاتت على الأسود لخمسة عقودٍ من البطش بالغابة؛ ولا يُمكِن تدارُكها الآن إلى بمصالحة الضباع على الحِملان، وتلك مهمّة الشام التى تُلامس أطراف المُعجزة.