مها عبد القادر

الهوية والوعي الثقافي لدى الشباب: الآمال والتحديات

الجمعة، 27 ديسمبر 2024 01:09 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يُعد الشباب هم القوة المحركة لأي مجتمع، حيث يحملون آمالًا كبيرة في توكيد هويتهم الثقافية ورغم الآمال والطموحات الكبيرة، يواجه الشباب عدة تحديات في استكشاف هويتهم مثل الانبهار بالثقافات الأجنبية، ودعونا بداية نتعرف على ماهية الانبهار وتأثيره على الأفراد والمجتمعات، فالانبهار هو شعور الدهشة والإعجاب تجاه أنماط حياة جديدة أو ثقافات مختلفة، مما يدفع البعض إلى تقليدها والانغماس فيها، ورغم أن الانفتاح على الثقافات الأخرى يمكن أن يكون إيجابيًا، إلا أن هناك جانبًا سلبيًا يتمثل في التخلي عن العادات والتقاليد الأصيلة، كما تتجاوز هذه الظاهرة مجال المأكل والمشرب، لتؤثر أيضًا على الأخلاق والقيم، إذ يمكن أن تؤدي المفاهيم المستوردة إلى تعميق حب الذات وتحقيق المنفعة الفردية على حساب القيم الأخلاقية الأصيلة؛ لذلك، من المهم أن نكون واعين لهذه التأثيرات وأن نحافظ على هويتنا الثقافية وقيمنا النبيلة، فالانبهار يجب أن يكون مدروسًا، بحيث يمكننا الاستفادة من الثقافات الأخرى دون فقدان جوهرنا وهويتنا، وهذا يتطلب التوازن بين الانفتاح على العالم والحفاظ على القيم التقليدية التي تُشكل أساس هويتنا.


تُعد الهوية الثقافية ركيزة أساسية لتحقيق الانتماء وتأكيد صحة المعتقدات، وهي الأداة التي يمكن أن تقينا من الانزلاق نحو ممارسات غير مناسبة لمجتمعاتنا؛ فعندما نتمسك بهويتنا الثقافية، نكون أكثر قدرة على توجيه الأجيال القادمة نحو قيم تُشجع وتُوكد علي النهضة والتقدم، كما أن تربية جيل طموح يسعى للنجاح والارتقاء يتطلب تزويده بالمبادئ والأخلاق السليمة، وأن يتعلم هذا الجيل من التجارب الناجحة للأمم التي استطاعت النهوض بأوطانها من خلال العمل الجاد والتنمية المستدامة؛ لذا من المهم أن نغرس في نفوس الشباب أهمية العمل والالتزام بقيمهم الثقافية، مما يمكّنهم من تحقيق أحلامهم وبناء مستقبل مشرق يتماشى مع تطلعاتهم وأهداف مجتمعاتهم.


وما أشرنا إليه يبرز ويُوكد حقيقة مهمة؛ مفادها أن الوعي الثقافي لدي شبابنا لا يتم تشكيله بمعزل عن الجوانب الأخرى للحياة، فهناك ارتباط وثيق بين تنمية الجوانب الاقتصادية والتعليمية والسياسية والاجتماعية؛ لذا من الضروري أن تقوم المؤسسات بدورها الفاعل في تنمية الوعي الثقافي وأن تسعى إلى تنشئة شاملة تعمل على ترسيخ الهوية الثقافية والفهم العميق للذات في إطارها الوطني والإنساني وتُعزز من فهم الشباب لثقافتهم وهويتهم، مع توفير بيئة متكاملة تدعم هذا الوعي، ويتطلب ذلك الشراكة والتعاون بين مختلف الجهات، بما في ذلك المدارس والجامعات والمنظمات غير الحكومية، لتحقيق صورة متكاملة من الوعي الثقافي الذي يسهم في بناء مجتمع واعٍ قادر على مواجهة التحديات، يفتخر بثقافته وهويته، وفي الوقت ذاته يتفاعل بإيجابية مع العالم كركيزة أساسية للتنمية الشاملة والمستدامة.


ويمثل الوعي الثقافي حجر الزاوية في بناء الشخصية الإنسانية، فهو لا يقتصر على مجرد المعرفة، بل يمتد ليشمل قدرة الفرد على التفكير النقدي، والتفاعل الإيجابي مع بيئته، والتمسك بقيم مجتمعه، ونُدرك أنه عندما يمتلك الشاب وعيًا ثقافيًا، فإنه يستشعر مستويات من الرضا المعنوي، مما يمكّنه من القناعة تجاه القيام بواجباته ومعرفة حقوقه، بالطرائق والسبل المشروعة، وهنا يدرك الشاب مدي أهمية العادات والتقاليد المجتمعية وضرورة التمسك بها والحفاظ عليها في شتي وجميع الممارسات والتعاملات مع الغير، وهذا يُوكد لنا أن الوعي الثقافي يٌتيح لشبابنا الواعد التعامل بشكل آمن، خاصة عبر المنابر الرقمية والتعاملات الخارجية، ويجعلهم أكثر وعيًا بالحوار البنّاء، ومؤهلين للتعامل مع الآراء المختلفة بفهم ووعي صحيح، ويُنمّي قدرتهم على مناقشة القضايا الفكرية والاجتماعية بحجج منطقية تستند إلى فهم سليم، ويُحبط محاولات التأثير السلبي أو الانحراف الفكري، من خلال تعزيز التفكير النقدي والتمسك بالقيم الوطنية، ويُشجع الشباب على رفض الفكر المتطرف أو المضلل أو المستورد والمشوب، والتعامل مع مصادر المعلومات المتنوعة بحذر وتمحيص، فالوعي الثقافي لدى الشباب يُعد قاعدة أساسية للمساهمة في بناء مجتمع يتسم بالقوة والاستقرار ووسيلة فعالة لتمكين الشباب من مواجهة تحديات العصر بثقة، والإسهام في نهضة مجتمعهم بمسؤولية ووعي.


إن التحديات التي تواجه المجتمع المصري في الحفاظ على قيمه الأصيلة تُحتم علينا ضرورة مواجهة المحاولات التي تستهدف إضعاف تلك القيم، فالقيم البديلة التي تُبث بشكل مقصود تعمل على تفكيك وحدة المجتمع والتشتت الفكري وإشاعة الفوضى بين الشباب، مما يؤدي إلى تدهور الهوية الوطنية وتآكل روح الانتماء، ونحن نُدرك ما يرغب فيه أصحاب المآرب، الذين يسعون لاختراق النسيج الاجتماعي من خلال نشر الأفكار غير السوية والشائعات الخبيثة التي تهدف إلى إحداث صدع بين المجتمع ومؤسسات الدولة وقيادتها الحكيمة، وهنا نُؤكد أن مروجو الفوضى لا يرغبون في أن يتمتع شبابنا الواعد بوعي ثقافي، ولا يودون أن تتجه وتخطو البلاد نحو طريق النهضة ومرفأ الأمان، فما يسعون إليه هو إغراق الفكر في غيابات الظلام، مما يؤدي إلى تناحر وتنازع المجتمع، ويجعله فريسة للاحتلال الثقافي المستورد الذي لا يعترف بماهية الوطن وفلسفة المواطنة الصحيحة؛ لذا بات حتميًا علينا أدراك أن تنمية الوعي الثقافي لدى شبابنا ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية لمواجهة التحديات التي تهدد القيم النبيلة بالمجتمع، وذلك من خلال تعزيز الهوية الوطنية والتمسك بفلسفة المواطنة الصحيحة، حتي نستطيع بناء مجتمع قوي ومتلاحم قادر على التصدي لأي محاولة للنيل من وحدته واستقراره.


وما تقوم به الدولة من جهود تجاه تنمية الوعي الثقافي لدى المواطن يُظهر بوضوح أهمية الاهتمام الجماعي بهذا الأمر؛ فوجود توجيه صحيح يُسهم في تشكيل وجدان الفرد، مما ينعكس على ممارساته السليمة؛ فما أحوجنا إلى لحمة وطنية تدحر أي محاولات للنيل من وطننا الغالي، وإلي إدراك قويم يحفظ علينا عقولنا ومقدراتنا البشرية والمادية، حيث يفرض علينا الضمير الجمعي أن نشيد بجهود الدولة وقيادتها السياسية الرشيدة في تقديم ثراء معرفي يُزيد من الرصيد الفكري والثقافي لدى المواطن المصري، سواء كان منتسبًا لمؤسسة تربوية أو كان لديه شغفًا وحبًا للثقافة، فهناك العديد من الوسائل المتاحة لذلك؛ مثل المكتبات العامة والمتخصصة، بالإضافة إلى قصور الثقافة المنتشرة في ربوع الوطن الحبيب، التي تُسهم في نشر الفكر والثقافة، بالإضافة للأندية الثقافية المتنوعة التي تلعب دورًا مهمًا في نشر وتعضيد الفكر وتنمية الوعي الثقافي لدى الشعب المصري العظيم، مما يُسهم في بناء مجتمع مُثقف وواعٍ.

__________

* أستاذ أصول التربية

  كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة