لم يجد أحمد زكي نفسه أبداً في مهنة "الحدادة" الذي أنهى تعليمه بدبلوم متوسط زراعي فى مدينة الزقازيق، كان طلاق الأم، ثم تخليه عن استكمال الرحلة ضياع بالنسبة له، وجد زكي في فن التمثيل خلاصه الوحيد من مصير موحش وبيئة ظالمة.
في قصر ثقافة الزقازيق انفتحت أمام الشباب الصغير نوافذ إضاءة لظلمة "اليتم" والفقر والوحدة وعدم اليقين.. أفلام سينمائية وعروض مسرحية ومكتبة متواضعة خلقت أمامهم عالماً بديلاً لمن لم يكن أمامهم سوى (الفرار) إليه بأي شكل وبأي تضحيات..
تقدم أحمد زكي إلى اختبارات المعهد العالي للفنون المسرحية سنة 1968.. وضعوه في الترتيب الأول طبقاً لاسمه (أحمد زكي عبدالرحمن).. وتقدم نحو لجنة (مخيفة) ليؤدي اختبار القبول.. كان الاختبار يقضى بأن يؤدي الممثل مشهداً من مسرحيتين إحداهما باللغة العربية الفصحى والثانية بالعامية المصرية، وكان على رأس اللجنة الدكتور (على فهمي) العبقري الذي كان يدرس الطب في بريطانيا، ثم عاد إلى مصر أواخر الأربعينيات ليصنع فيلماً سينمائياً تم وأده لانتقاده النظام الملكي، فأنهى مشواره الفني بأن أصبح أستاذا لفن الأداء التمثيلي بالمعهد الذي أنشأه ثروت عكاشة في الخمسينيات.
وجاء الحوار بينهما:
- أنت منين يابني؟
- من الزقازيق.
- وليه عايز تبقي ممثل؟
- مش عارف.. عايز أمثل وخلاص.
- طب هاتمثل لنا إيه دلوقت؟
- هاأعمل دور (شيلوك) في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير.
- ياه.. طب مش كنت اخترت حاجة أبسط وأسهل.
- إن شاء الله هعمله كويس ياباشا..
- طب اتفضل.
يتقدم الشاب أحمد زكي الذي يرتدي ملابس شديدة التواضع، وحذاء بلا جوارب، ليعتلي خشبة مسرح المعهد لتبدأ رحلة "الإعجاز".. أعضاء اللجنة المذهولون لموهبة استثنائية تفاجئهم في أول اسم يتم اختياره، ينظرون لبعضهم في اندهاش (جه منين الواد ده؟).. الدكتور على فهمي لم يتحرج في إبداء الإعجاب رغم السرية المفترضة ويطلب منه الانتظار خارج القاعة.. وبعد انتهاء اليوم يخرج د. على فهمي إلى الشاب المنتظر وسط فضول وسخرية الطلبة من السنوات السابقة.. ويطيب خاطره ثم يعطيه خمسة عشرة جنيهات (كان وقتها مبلغاً مهولاً).. وعندما أبدى أحمد خجلاً في قبول المبلغ وقال له (عشان تعرف تسافر الزقازيق وترجع تاني يوم الامتحان الشفوي.. واعتبر المبلغ سلف وأنا متأكد إنك هترجعه لي.. وبسرعة)!!
قبل أحمد زكي عبدالرحمن في المعهد وبدأت رحلة لم يتخل فيها د. على فهمي عن دعم الشاب الموهوب، بأن خصص له مبلغاً شهرياً طوال مدة دراسته، واعتبر نجاح هذا الشاب القادم بلا سند أو واسطة مسئوليته الشخصية، فأوصى به كل زملائه، لكي يضمن له مكاناً في الأعمال الفنية، حتى لو كانت أدوراً صغيرة أو "كومبارس" فكان يعمل في كثير من المسرحيات ومنها (موال من مصر) العرض المسرحي الذي أخرجه زكي طليمات بمناسبة مرور 1000 سنة على بناء القاهرة.
وبسرعة صادق الشاب الريفي الكثير من زملاء الدفعات السابقة محمد صبحي، وهادي الجيار، ونبيل الحلفاوي، وسامي العدل، ورمزي العدل، إضافة إلى دفعته التي كان بينها أحمد عبد الوارث، وشهيرة وغيرهم.. وبدأت رحلة (الصعلكة) في عزف متواضعة في وسط البلد حيث دوائر المثقفين والنقاد وصغار الممثلين يلتقون في (لا باس) ويدعون الشاب الريفي على (النسكافية) الذي ذاقه للمرة الأولى مذهولاً (كما حكى لي شخصياً) وبدأ الانفتاح على عالم السينما ونوادي السينما والمسارح مع الأدوار الصغيرة التي كنت تكفي بالكاد لمعاشه ومأكله.
وجاء مشروع تخرج أحد زكي تعبيراً عن اختيار شديد الدلالة على مشواره السابق واللاحق، فاختار مسرحية (الإمبراطور جونز) ليوجين أونيل، وهي مسرحية من فصل واحد، تمت معالجتها عبر كثير من الكتاب، منهم بريشت وكونتي كولن وجان جينيه، وتحكي عن صعود شاب أمريكي من أصول أفريقية من قاع سلم المجتمع إلى النجاح في تكوين إمبراطورية كاملة.. كان اختيار هذا العمل مفتاحاً لفهم أحد أسرار اختيارات أحمد زكي لأفلام مثل "النمر الأسود" و"الإمبراطور" وغيرهما، حيث ظل هاجس الصعود من القاع إلى القمة هدف الشاب الموهوب، ليوجه موهبته نحو إبداع متجدد.