حسين عبد البصير

"أنتَ تُشرق.. أنتَ تضيء: رحلة في عوالم التاريخ والفن والذاكرة"

السبت، 28 ديسمبر 2024 12:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

صدرت عن دار الشروق العريقة بالقاهرة رواية الكاتبة المصرية المبدعة رشا عدلي بعنوان "أنتَ تُشرق... أنتَ تضيء"، التي تأخذنا في رحلة سردية ممتعة عبر الزمن والمكان، لتنسج بين خيوط الرواية فكرًا نقديًا وجماليًا يعكس الصراع بين التاريخ والحاضر، وبين معالم مصر القديمة ورموزها في مواجهة الحضارة الغربية الحديثة. برؤية فنية تميزت بالعمق والاستنطاق، عادت الكاتبة إلى سحر الفيوم، وأسلوب العمارة المتفرد، لتكشف عن تاريخها من خلال شخصيات الرواية التي تعيش وتتنفس هذا التاريخ.

بنية الرواية والتقنيات السردية

تحمل رواية "أنتَ تُشرق... أنتَ تضيء" في طياتها تقنيات سردية متعددة ومتنوعة تمزج بين الحكاية التاريخية والحكاية المعاصرة. تحكي الرواية عن شخصيتين رئيسيتين تنتميان إلى زمنين مختلفين؛ الأولى تعود إلى القرن الأول الميلادي، والثانية تمتد من أواخر القرن العشرين إلى القرن الواحد والعشرين. تقدم هذه الثنائية الزمنية مزيجًا من التوترات والرموز، مما يعكس عمق التحولات التي شهدتها مصر عبر العصور المختلفة. وعلى الرغم من الفجوة الزمنية بين الشخصيتين، فإن السرد يلتقي عند النقطة التي تتداخل فيها الأزمان والأماكن، حيث يتشابك الواقع المعاصر مع الماضي الغابر في محاولات لفك غموض تاريخي قديم.

إحدى النقاط الأكثر بروزًا في الرواية هي طريقة استخدام الكاتبة للفضاء المكاني. فعلى الرغم من أن السرد يتنقل بين زمانين مختلفين، فإن الأماكن تظل تشكل وحدة عضوية تؤطر الأحداث وتساهم في تشكيل هويات الشخصيات. في هذا السياق، تأتي الفيوم كإحدى أهم الأماكن المحورية في الرواية، حيث تنقلنا رشا عدلي إلى جمال العمارة والآثار المصرية الضاربة في عمق التاريخ، وتحمل هذه الأماكن معنى رمزيًا يحمل دلالات متعددة، كالتاريخ، والهوية، والذاكرة الجمعية. كما أن الكاتبة لا تقتصر على تقديم صورة عاطفية أو جمالية لهذه الأماكن، بل تقدمها كجزء من مشروع بحثي يستهدف الكشف عن تاريخ وحضارة قديمة كانت قد ضاعت في طيات الزمن.

الشخصيات وتطورها

الشخصية المحورية في الرواية هي "رنيم"، الباحثة المصرية المتخصصة في دراسة فنون الحضارات القديمة. رنيم ليست مجرد شخصية عابرة أو تقليدية؛ فهي تعبر عن التقاء الثقافات، وعن سعي الإنسان إلى فك ألغاز الماضي. تنضم رنيم إلى فريق بحثي مخصص للكشف عن مومياوات الفيوم، وقد وجدت نفسها أمام لوحة نُزعت من وجه مومياء، تكشف عن جمال ساحر ومبهم لامرأة شابة. ومن خلال هذه اللوحة تبدأ رحلة رنيم البحثية التي تتوازى مع رحلة عاطفية وفكرية لكشف لغز الهوية والماضي. رنيم ليست فقط باحثة في التاريخ، بل هي أيضًا شخصية منخرطة في تأملات عميقة حول ماهية الحقيقة، وكيف يمكن لقطعة فنية قديمة أن تحمل في طياتها أسرارًا وشهادات على تاريخ مجهول. إن تعاطي رنيم مع اللوحة ومع مومياوات الفيوم لا يقتصر على الجانب العلمي البحت، بل هو أيضًا رحلة ذات أبعاد وجدانية وعاطفية.

الشخصية الأخرى التي تبرز في الرواية هي شخصية المومياء نفسها، التي لا تتنحى عن الرواية على الرغم من كونها في حالة "الغياب". هذه المومياء ليست مجرد جسد محفوظ في وقت معين، بل هي رمز للحياة والموت، وهي عنصر أساسي في تحريك الصراع بين الماضي والحاضر. هنا، تطرح الكاتبة تساؤلات فلسفية عميقة حول الهوية، والذاكرة، والانتماء.

التاريخ والذاكرة: من البحث عن الجمال إلى كشف الأسرار

تعتمد الكاتبة في روايتها على فكرة رئيسة تتعلق بمفهوم "الذاكرة"، سواء كانت ذاكرة تاريخية، فردية أو جماعية. تتفاعل هذه الذاكرة مع الحاضر بشكل معقد، فتاريخ مصر لا يقتصر على كونه مجرد ماضٍ ضاع بين يد الزمن، بل هو حاضر مستمر في أشكال متعددة، تتراوح بين الرموز الفنية والآثار المكتشفة. يأتي البحث عن هوية السيدة صاحبة المومياء كمحور رئيس لهذه الرواية، ليعكس همومًا فلسفية تتعلق بمفهوم الحقيقة والتاريخ. فهل تمثل هذه المومياء جزءًا من تاريخ مجهول؟ وهل يتم استنطاق تلك الذاكرة لتكشف عن قصص لم تُروَ بعد؟

إن الصراع بين الشخصيات والتاريخ في هذه الرواية هو صراع مع الذاكرة، في محاولة لإعادة صياغة الوجود الإنساني من خلال ما تركه الأسلاف. الرواية تتأمل في الكيفية التي يمكن أن يتحول فيها التاريخ إلى مادة خصبة للبحث والفهم، بعيدًا عن الجمود والتوثيق السطحي.

الأيديولوجيا والتوظيف الفني

تتسم الرواية أيضًا بتوظيفها للأيديولوجيا الثقافية، حيث تستند الكاتبة إلى فكرة استعارة الماضي لتفسير الحاضر. فالرواية لا تقتصر على السرد التاريخي أو البحث عن الجمال في الفنون القديمة، بل تمزج بين مختلف الأدوات الفنية لتقديم سؤال فلسفي معاصر: كيف يؤثر الماضي في الحاضر؟ وكيف نعيد تشكيل هوية وطنية تتقاطع مع الهويات الغربية في عالم معولم؟

إن عمل رشا عدلي في "أنتَ تُشرق... أنتَ تضيء" يمكن قراءته كدعوة للتأمل في علاقة مصر بتاريخها المعقد، واستحضار الذاكرة من خلال كل من الفنون والعلم. فالفن هنا ليس مجرد عملية جمالية، بل هو أداة لفهم الذات، والتفاعل مع الحضارات الأخرى، ومواجهة الأسئلة الوجودية التي تطرحها الكاتبة.

تقدم رشا عدلي في "أنتَ تُشرق... أنتَ تضيء" رواية ذات بعد فني وفكري، تعيد التفاعل مع التاريخ المصري من خلال استحضار الذاكرة والحوار مع المومياوات، وتطرح تساؤلات مهمة حول الهوية، الذاكرة، والفن. الرواية ليست مجرد سرد لحكاية تاريخية أو معاصرة، بل هي بحث مستمر في عالم من الأسرار التي تتشابك مع حاضرنا في محاولة لفك رموز الماضي.







مشاركة



الموضوعات المتعلقة




الرجوع الى أعلى الصفحة