بورتريهات الفيوم هي واحدة من أعظم الكنوز الفنية والثقافية التي تركها لنا قدماء المصريين خلال العصر الروماني، وهي لا تمثل مجرد أعمال فنية مذهلة فحسب، بل أيضًا نافذةً فريدة لفهم المعتقدات، والهوية الثقافية، والحياة اليومية في تلك الفترة الزمنية.
وفى هذا السياق قال عالم المصريات الدكتور حسين عبد البصير، كانت هذه اللوحات الجنائزية المدهشة التي كانت تُرسم على ألواح خشبية وتُعلق على وجوه المومياوات تهدف إلى تخليد صورة الشخص المتوفى وضمان التعرف عليه في العالم الآخر، وعلى الرغم من أن هذه البورتريهات وجدت للمرة الأولى في منطقة الفيوم بمصر، فإن العديد منها تم اكتشافه في مناطق أخرى أيضًا مثل هوارة وأخميم، ما يعكس انتشاره في العديد من الأماكن في مصر.
وجوه الفيوم
تظهر البورتريهات هي في الأساس لوحات جنائزية الشخص المتوفى كما كان في حياته. وكان الهدف من هذه اللوحات أن تبقى صورة الشخص حية بعد وفاته، ليس فقط كرمز لتخليد الذكرى بل أيضًا لضمان التعرف على الروح في العالم الآخر. ولهذا، كانت اللوحات تُرسم بأقصى درجات الواقعية، مع التركيز على ملامح الوجه وتفاصيله الدقيقة، كان الفنانون في ذلك الوقت يحرصون على نقل هذه التفاصيل بدقة شديدة، سواء في ملامح الوجه أو في الملابس والإكسسوارات التي كانت تشير إلى الوضع الاجتماعي للشخص المتوفى. كانت هذه البورتريهات تعكس قدرة الفن على تخليد شخصية الفرد، وتوفر نافذة إلى العالم القديم بكل تفاصيله المعقدة.
وحول التقنيات الفنية لبورتريهات الفيوم، أضاف الدكتور حسين عبد البصير، استخدم الفنانون تقنيتين رئيسيتين في رسم هذه اللوحات: الأولى كانت تقنية الرسم بالشمع الساخن أو ما يُعرف بـ"الرسم بالإنكاوستيك"، والتي كانت تتطلب مزج الألوان مع الشمع الساخن وتطبيقها على الخشب باستخدام أدوات معدنية أو فرشاة. كانت هذه الطريقة تُنتج صورًا غنية بالألوان ومتنوعة التفاصيل، وقد سمحت لهذه البورتريهات بالبقاء سليمة لآلاف السنين. التقنية الثانية كانت الرسم بالألوان المائية أو التمبرا، التي كانت تستخدم الصمغ كمادة لاصقة لخلط الألوان، وكانت تمنح اللوحات ملمسًا ناعمًا ومظهراً هادئًا. بغض النظر عن التقنية المستخدمة، كان الهدف هو خلق صورة حية تبقى واضحة الملامح على الرغم من مرور الزمن.
وتابع، لكن أكثر ما يلفت الانتباه في بورتريهات الفيوم هو طريقة رسم العينين، نلاحظ أن العينين في كثير من هذه اللوحات كانت تُرسم بشكل مبالغ فيه، بحيث تظهر أكبر من الحجم الطبيعي، وهو ما يضفي عليها بعدًا روحيًا عميقًا. قد يعتقد البعض أن هذا التفصيل كان مجرد اختيار فني أو تجميلي، لكن في الواقع، يعكس هذا التفصيل فهمًا عميقًا لمعتقدات المصريين القدماء حول العلاقة بين الجسد والروح. فالعين في الثقافة المصرية القديمة كانت تُعتبر نافذة الروح، وكانت تحمل قوة رمزية كبيرة في ربط الشخص بالعالم الآخر. بذلك، كانت العينان في هذه اللوحات تُعززان من قدرة الشخص المتوفى على التواصل مع الحياة بعد الموت، كما كانتا تمثلان علامة على الروح الحية التي تستمر في الحياة الأخرى.
بورتريهات الفيوم
لم تكن البورتريهات التي تعود للعصر الروماني في مصر مجرد تعبيرات فنية عن الأفراد، بل كانت أيضًا سجلًا حيويًا لتاريخ مصر في ذلك الوقت. في تلك الفترة، كانت مصر تحت الحكم الروماني، ويمكن ملاحظ هذا التأثير بوضوح في الفن الذي ساد في تلك الحقبة. فإذا نظرنا إلى الملابس التي كان يرتديها الأشخاص في البورتريهات، سنجد أنها تتراوح بين الزي المصري التقليدي والملابس الرومانية. بعض الشخصيات تظهر مرتدية الملابس الرومانية مثل التونيك والستولا، بينما يظهر آخرون وهم يرتدون الملابس المصرية التقليدية، وهو ما يعكس التفاعل بين الثقافات في تلك الحقبة. أما الشعر، فغالبًا ما كان يُرسم مع تسريحات دقيقة تظهر تفاصيل فروق الطبقات الاجتماعية، فالأشخاص من الطبقات العليا يظهرون بتسريحات معقدة أو بتاج ملكي، في حين كانت طبقات أخرى تظهر بتسريحات أبسط.
وأوضح الدكتور حسين عبد البصير، كانت هذه البورتريهات غالبًا ما تتضمن لمحات من المعتقدات الدينية والمفاهيم الثقافية السائدة في ذلك الوقت. فعلى الرغم من التأثير الكبير للثقافة الرومانية، كانت المعتقدات المصرية القديمة حول الحياة والموت والبعث ما تزال تُظهر حضورًا قويًا في هذه اللوحات. في العديد من البورتريهات، كان الفنانون يرسمون رموزًا دينية مثل القرابين أو تماثيل الآلهة التي كانت تُرافق الشخص المتوفى في رحلته إلى الحياة الآخرة. كما كان بعض اللوحات حمل آثارًا من الطقوس الجنائزية المعروفة في مصر القديمة، مثل وضع الأثاث الجنائزي أو بعض الأدوات الشخصية إلى جانب الشخص المتوفى.
على الرغم من أن بورتريهات الفيوم تمثل لحظة خاصة في تاريخ الفن المصري، فإنها أيضًا تقدم لمحة فريدة عن الحياة الاجتماعية في تلك الحقبة. فقد كان يتم تصوير أفراد من جميع الطبقات الاجتماعية، بدءًا من الأثرياء والنبلاء وصولاً إلى الأشخاص الأقل مكانة. كما أن هذه اللوحات كانت تُظهر أنماطًا حياتية متعددة، بما في ذلك أزياء الزفاف أو الملابس اليومية، وهو ما يعكس تنوع الحياة الاجتماعية في مصر الرومانية. على الرغم من أن الفنانين كانوا يهتمون بتصوير الشخصيات الرئيسة في اللوحات بدقة، فإنهم كانوا أيضًا يسلطون الضوء على التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية، مثل الأثاث أو الأدوات الشخصية، مما يعكس مدى اهتمامهم بتوثيق الحياة بكل جوانبها.
وأشار "عبد البصير"، إلى أنه تم اكتشاف بورتريهات الفيوم لأول مرة في القرن التاسع عشر، وكانت هذه الاكتشافات بمثابة ثورة في عالم الآثار والفن. فقد جلبت هذه اللوحات الضوء على فنون العصر الروماني في مصر، وأظهرت التقنيات الفائقة التي كان يتمتع بها الفنانون في تلك الحقبة. واليوم، تُعد هذه اللوحات واحدة من أبرز التحف التي تعرض في المتاحف العالمية مثل المتحف البريطاني ومتحف المتروبوليتان في نيويورك. كما أنها تُمثل مصدرًا مهمًا لفهم التفاعل بين الفن والثقافة والمعتقدات في مصر القديمة.
بورتريهات الفيوم ليست مجرد لوحات فنية قديمة، بل هي شهادات حية على هوية وحياة أناس عاشوا في مصر قبل آلاف السنين. إنها تمثل مزيجًا فنيًا رائعًا من التأثيرات الثقافية والدينية، وتتيح لنا الفرصة للتواصل مع أرواح هؤلاء الأفراد الذين عاصروا فترة متميزة من تاريخ العالم.