في قلب مدينة المحلة الكبرى، حيث يلتقي التاريخ بالصناعة، تنهض قلعة الغزل والنسيج من سباتها العميق، معلنة عودة مجد غزل القطن المصري، الذي طالما كان رمزًا للجودة والإبداع، من هنا، حيث اختار طلعت حرب أن يغرس بذور النهضة الصناعية عام 1927، تعيد الدولة اليوم إحياء هذه الصناعة التي شكلت شريانًا اقتصاديًا نابضًا لأجيال.
مصنع "غزل 1"، الواقع على مساحة 62 ألف متر مربع، ليس مجرد مصنع عادي؛ بل هو الأكبر في العالم بطاقة إنتاجية تصل إلى 30 طنًا من الغزل يوميًا، هذا المصنع، الذي يمثل المرحلة الأولى من مشروع قومي ضخم يمتد عبر ثلاث مراحل بتكلفة تتجاوز 56 مليار جنيه، هو الشاهد الأول على جدية الدولة في إعادة صياغة مستقبل صناعة الغزل والنسيج.
تصريحات مفعمة بالأمل والتفاؤل قالها الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، خلال زيارته التفقدية الأخيرة للمحلوة، بأن هذا المشروع ليس مجرد تطوير تقني؛ بل هو استثمار استراتيجي في الهوية المصرية، "غزل المحلة" لن يكون مجرد مركز إنتاج، بل قصة نجاح تروي كيف يمكن للتاريخ أن يلهم الحاضر والمستقبل.
لم يكن التطوير مقتصرًا على الآلات والخيوط فقط، بل امتد ليشمل البنية التحتية، محطة كهرباء جديدة تم إنشاؤها في وقت قياسي لتلبية احتياجات المصانع، لتؤكد أن الإحياء الحقيقي يبدأ من توفير مقومات النجاح.
ما يميز مشروع إحياء صناعة الغزل والنسيج ليس فقط الأرقام الكبيرة أو التوسعات الهائلة، بل الروح التي تضيء المكان، هذه الصناعة، التي لطالما اعتمدت على القطن المصري "طويل التيلة"، تعود لتخدم السوق المحلية بالكامل، في خطوة تعكس حرص الدولة على تحقيق الاكتفاء الذاتي والحد من الاستيراد، بل وتحقيق عوائد من العملة الصعبة من خلال التصدير.
إعادة إحياء صناعة الغزل والنسيج ليست مجرد مشروع صناعي، بل هي رسالة إلى كل مصري، إنها دعوة لإعادة الثقة في قدراتنا الوطنية، وللعودة إلى الجذور حيث تلتف خيوط القطن لتروي قصة وطن يصنع مستقبله بيدي.
في مدينة المحلة الكبرى، لا تنسج الآلات مجرد أقمشة، بل تطرّز فصولًا من التاريخ، منذ عقود، شقت منتجات "غزل المحلة" طريقها إلى أسواق العالم، معلنة أن "صُنع في مصر" ليس شعارًا، بل هوية يُفتخر بها، على شواطئ أوروبا، تتمايل الفوط القطنية الناعمة، تحمل معها عبق الأرض المصرية وتروي حكايات العمال الذين أداروا الماكينات بعرقهم وإخلاصهم.
ولكن القصة لا تقف عند الفوط، في عام 1973، أهدت "غزل المحلة" للوطن إحدى حكاياتها التي لا تُنسى، بعد نصر أكتوبر المجيد، وجد الأسرى الإسرائيليون أنفسهم يرتدون "بيجامات" تحمل توقيع غزل المحلة، وكأنها تذكرة أن النصر لا يُكتب فقط بالسلاح، بل بصناعة تُرسّخ الكرامة الوطنية.
وراء هذه النجاحات تقف أجيال من العمال، رجال ونساء، وقفوا خلف الماكينات لساعات طويلة، يحاربون الزمن ويُطوِّعون الخيوط، ليصنعوا منتجاتٍ تنافس العالمية، عمال المحلة، بأيديهم الخشنة وقلوبهم التي تنبض بالحلم، كانوا ولا يزالون قلب هذه الصناعة النابض.
غزل المحلة ليست مجرد مصنع؛ إنها ملحمة مصرية تتشابك فيها الخيوط مع التضحيات، وتُنسَج فيها الحكايات لتبقى شاهدة على أن الإبداع والعمل الجاد يمكن أن يعبرا الحدود ويغزوا العالم.
في المحلة الكبرى، لا تدور فقط آلات الغزل؛ بل تدور عجلة التاريخ، لتعيد رسم ملامح صناعة كانت وستظل جزءًا أصيلًا من نسيج الهوية المصرية.