تمر، اليوم، ذكرى بدء محاكمة الزعيم أحمد عرابى وأصحابه الذين وقفوا فى مواجهة الخديوى وعساكر الإنجليز، وفي ضوء ذلك نستعرض كواليس المحاكمة، حسب ما جاء على لسان المسيو برودلي المستشار القضائى للحكومة، كما ذكرها كتاب "أحمد عرابى الزعيم المفترى عليه" لـ محمود الخفيف، والذى يقول تحت عنوان "مهزلة المحاكمة"..
أنه فى صباح 3 ديسمبر سنة 1882 بدأ تمثيل المهزلة، فتأهب رؤوف باشا رئيس المحكمة العسكرية بملابسه الرسمية ووسامه المجيدي الأكبر، وتأهب بقية القضاة بأوسمتهم وملابسهم الرسمية كذلك في حجرة مجاورة.
ودخل قاعة الجلسة بعض الإنجليز من العسكريين، والمدنيين، وبعض الأوربيين وعدد صغير من الأوربيات وفريق من مراسلي الصحف الأجنبية، كالتيمس، وستاندارد، والديلي نيوز، والديلي تلغراف، والنيويورك هرالد، والجرافيك، والألستراسيون وغيرها، ولم يكن شهود الجلسة أو الملهاة يزيدون في مجموعهم عن أربعين.
قال برودلي: - المسيو برودلي المستشار القضائي للحكومة- "ودنا مني إسماعيل أيوب باشا وفي يده ورقة وقال: إنه يأمل ألا أعترض على قراءته من أجل بعض المظاهر فقط، عبارة من وضعه، فأجبته في غير التواء: إن له أن يفعل ما يقضي به رأيه، ولكن إذا استعملت أية رقعة غير الرقعتين اللتين اتفق عليهما فسيعلن عرابي أنه غير مذنب… فتنهد تنهيدة طويلة في هدوء ودس رقعته تحت المنشفة ولم يعرف عنها شيء بعد"…
أما الرقعتان المتفق عليهما ففي إحداهما عبارة قصيرة وقع عليها عرابي هي "إني بإرادتي وعملًا بنصيحة محامي أقر ما يتلى علي الآن من اتهام" وفي الثانية يتعهد كجندى أن يبقى فى المكان الذى تحدده له الحكومة الإنجليزية وفقًا للحكم الذي يتلى عليه.
وكان مراسلو الصحف المصورة يرسمون القاعة ومن فيها تاركين موضع القضاة في أوراقهم خاليًا حتى يحضروا وكذلك موضع المتهم، وقد أعد الذين لم يبلغهم نبأ المهزلة أوراقًا كثيرة وأقلامًا يحسبون أنهم سيملأونها بالأوصاف والأنباء…
يقول برودلي: «وفي الساعة الثامنة دخل القضاة التسعة قاعة الجلسة، وجلسوا على كراسيهم ذات الظهور المخملية الحمراء، وجلس السير شارلز ولسن وراء قمطر يواجه هذا المكان، وكانت المنصة المخصصة لممثل الاتهام خالية…
وبعد دقائق رأيت عرابى من الباب المفتوح يقطع الفناء ومعه نابيير في ردائه التقليدي وعثمان شريف وحارسان شركسيان، ودار عرابي حول مؤخرة القاعة، وبعد أن مر بمقعد طويل كان مخصصًا لجلوس نحو 20 شخصًا على الأقل، جلس بجواري، واتخذ المستر نابيير كذلك مكانه إلى جانبي، وساد الصمت العميق هنيهة، وكان يبدو على عرابي بعض الاضطراب العصبي أول الأمر ولكنه ما لبث أن تمالك نفسه، وتناول رؤوف باشا ورقة وتلا ما بها وهذا نصها:
"أحمد عرابي باشا… أنت متهم الآن أمامنا بناء على قرار لجنة التحقيق بجريمة عصيان سمو الخديو، مخالفًا بذلك المادة 96 من القانون العسكري العثماني والمادة 59 من قانون العقوبات العثماني، فهل أنت مذنب أم غير مذنب؟
وقد نهض عرابي بمجرد أن أخذ رؤوف باشا يتلو هذه العبارة، فلما فرغ منها أجاب عرابي قائلًا: "إن محامي سوف يرد عني".
ونهضت وتلوت الترجمة الفرنسية لاعتراف عرابي وأبرزت الأصل العربي وعليه خاتمه وقرأه كاتب كان يجلس على مقربة من الرئيس، ونظر رؤوف باشا إلى عرابي متسائلًا، فأومأ برأسه علامة الموافقة، فأعلن الرئيس تأجيل الجلسة إلى الساعة الثالثة بعد الظهر...
وفي الموعد المحدد ازدحمت القاعة بشهود الجلسة وحضر عدد غير قليل من السيدات، وكانت بينهن زوجة نابيير، وكان الطريق أمام الدائرة السنية مزدحمًا بالناس، وانعقدت المحكمة، فناول رؤوف باشا كاتب الجلسة نص الحكم وأمره بتلاوته، فتلاه.. وبعد فترة قصيرة من السكون ناوله ورقة أخرى واتجه إلى عرابي قائلًا: "أحمد عرابي.. ستسمع المرسوم الصادر من سمو الخديو، وتلا المرسوم المذكور..".
وكان الحكم يقضي بالموت على عرابي، والمرسوم يستبدل به النفي المؤبد، وانفضت الجلسة بعد عشر دقائق وأُسدل الستار على المهزلة..
وتقدم المهنئون إلى عرابي، وتزاحم عليه مراسلو الصحف مصافحين إياه في حماسة، وقدمت له بعض السيدات الأوربيات باقات من الزهور فتقبلها شاكرًا.
ويذكر مستر برودلي أن زوجة زميله المستر نابيير كان أمامها باقة من الزهور صغيرة كانت أعدتها لترسلها إلى عرابي بعد المحاكمة، فأخذها أحد الجالسين من غير شعور ووضعها في يد عرابي، ولقد أثار هذا كثيرًا من اللغط وخاصة من جانب أعوان الخديو؛ إذ عجبوا أن تفعل ذلك سيدة على مرأى من الناس، ولكن هذا اللغط ما لبث أن ذهب بظهور حقيقة ما حدث.
وأعيد عرابي إلى السجن ليبقى فيه ريثما ينفذ الحكم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة