حازم حسين

نار الأُصولية إذ تأكل نفسها.. عن لعبة ثلاثية تستبد بالإقليم ويكسبها الأعداء دائما

الإثنين، 30 ديسمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أربعٌ وعشرون ساعةً فقط استحوذت فيها فلسطين مُنفردةً على اهتمام العالم. أطلقت حماسُ «طوفان الأقصى» صبيحةَ السابع من أكتوبر قبل الماضى، ومن اليوم التالى بدأ حزبُ الله مُغامرةَ الإسناد والمُشاغَلة، أو بالأحرى المُنازعة مع غزَّة على صدارة المشهد.


دخل الحُوثيِّون على الخطِّ بعدها كثورٍ هائج، يتقافز ولا ينطحُ، ثمّ بعض ميليشيات الحشد الشعبىِّ المُوالية لإيران، وإيران نفسها بمناوشاتٍ مُباشرة مع إسرائيل، وصولاً لانفراد سوريا بالساحة الإقليمية خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة.


ما توقَّفت المَقتلةُ فى القطاع؛ لكنَّ وهجَها انطفأ، وانزوَتْ المأساةُ وراء خِفَّةٍ أُصوليَّةٍ من جانب المُتاجرين بالقضية، أو بأثرِ أجندةٍ صهيونيَّةٍ أُعِدَّت بَمكرٍ وحشىٍّ، وأُدِيْرَت بدهاءٍ عظيم، واستفادت من غباء الآخرين، بأكثر مِمَّا أفادَها ذكاؤها أو قُوَّتُها المُفرطة.


أخفقَ «السنوار» فى حساباته، أو أجاد نتنياهو فى الالتفاف عليها. لا فارقَ؛ إذ المُحصِّلةُ واحدةٌ فى الحالين: تقدَّمت فلسطين فى العاطفة وتأخَّرت فى الإنجاز، وعادت القضيَّةُ العادلةُ عقودًا للوراء، ولا أُفقَ لانتشالها مِمَّا أَلَمَّ بها على صعيد الخسائر الوَقتيَّة الداهمة، أو لإعادة وَضعِها على الطريق الصحيحة فى أىِّ مدىً قريب.


ضيَّعَتها الحاضنةُ الأيديولوجيَّةُ تحت شعارات المُمانَعة ودعايات وحدة الساحات، وضيَّعت هى وِحدَتَها الداخليَّةَ بما تشملُه من مُوازنةٍ بين السياسة والسلاح، ومن إمكانيَّةٍ لإطلاق مشروعٍ تحرُّرىٍّ يتساندُ إلى أجندةٍ جامعة، كما أرهقَتْ مُحيطَها العربىَّ بتداعياتٍ تُهدِّدُ بأكبر مِمَّا عُرِفَ منذ النكبة الأُولى.. كان الاختيارُ بين ثباتٍ وبُطء؛ وصار بين انكسارٍ أو ارتداد.


لا يُمكِنُ بالحسابات العقليَّة المُجرَّدة، افتراض أنَّ ما أتاه الحماسيِّون فى طوفانهم كان خالصًا لوجه فلسطين، أو حتى لصالح الحركة، وسُلطتها الشُّموليّة المُهيمنة على القطاع. فوارقُ القوَّة تقطعُ بأنها غير قادرةٍ على المُنازلة التى افتتحتها؛ فإمَّا أنها كانت تنتحرُ مع علمٍ بالمآلات، أو تلقَّت وعودًا مُسبقَةً بتصعيد الصراع واقتسام كُلفته؛ قبل أن تتعرَّض للخديعة والخذلان من الحُلفاء، وتدفع الفواتير وحدها، أو تُدفِّعها لمنكوبى القطاع قسرًا.


والحسابُ هُنا ليس عن الواقع الذى كان غَيبًا قبل الهجوم؛ إنما على الماضى الذى لم يَكُن خافيًا عن الفصائل بكل تلاوينها، واختبرَتْه كثيرًا من جهة الاحتلال فى عشرات المُواجهات السابقة، ومن جهة الشيعيَّة المُسلَّحة التى تسيرُ على طريق القدس منذ عقود، فلا وَصَلَت، ولا أطلقَتْ رصاصةً واحدة باتِّجاه العدوّ.


أخفاقٌ فوق إخفاق؛ وإنما يُختَزَلُ نجاحُ الجمهورية الإسلامية وتوابعها فى إذكاء الصراعات الطائفيَّة، وفى الهيمنة على أربعِ عواصم عربيَّةٍ، وإسناد الصهيونية من طَرَفٍ خَفِىٍّ، فى طُموحِها لتفكيك المنطقة وإعادة ترسيمها على ما كان قبل التقسيم والانتداب، وقبل سقوط الاستعمار العُثمانىِّ واختراع الدُّوَل الوطنيّة من ركام المَاضويَّة المُغرِقة فى الإثنيَّة والتطييف تحت رايةِ امبراطوريَّةٍ باهتة.


جَردةُ العام 2024 تبدأ من الطوفان، ولعلَّها تنتهى إليه؛ لِجِهة معناه اللغوىِّ على الأقل، بوَصفِه حالةً فوضويَّةً لا تُبقِى ولا تَذَر، وتُدَمِّرُ كلَّ ما تَمُرُّ عليه دون فرزٍ أو تصنيف، وبغَضّ النظر عن نقطةِ انطلاقها، أو مُسبِّباتها الموضوعيّة؛ اللهم إلا أن تمتلك سدًّا منيعًا أو تأوى لجبلٍ عالٍ، وكلاهما لم يتوافر لحماس وحُلفائها، وأُتيح لإسرائيل بفارق القوّة، وانحياز الغرب، ووقوفها اليوم على شُرفة جبل الشيخ مُتطلّعةً نحو عملية الإحلال والتبديل بين الأُصوليّات فى دمشق.


الأزمةُ فى الاحتلال قَطعًا، وستظلُّ قائمةً ما لم يَحصُلْ الفلسطينيِّون على حقوقهم؛ إنما لا يُمكِنُ أن تظلَّ الحقيقةُ قيدًا على أصحابها، أو عمياءَ عن تعقيدات الواقع وتوازُناته، كما لا يُمكِنُ الاكتفاء بالعناوين الشريفة؛ ولو أَوصَلَت لوجهاتٍ خاطئة.
يصحُّ ما سبقَ مع الفصائل الغَزيَّة، ومع السلطة الوطنية فى رام الله أيضًا، مثلما يَصدُق على الحزب وبقيَّة الميليشيات الشيعية، وعلى السلطة الجديدة فى سوريا راهنًا؛ وقد تبدَّى منها أنها تكتفى بقَدح النظام الزائل بدلاً من السعى لبناءِ بديلٍ مُفارق، وتستبدلُ استتباعًا بآخر، وتنقلُ الرايات من راعٍ أُصولىٍّ صارخ النبرة، إلى وَصىٍّ يحملُ العِلَّة ذاتَها، مع قدرٍ أكبر من الإتقان فى المُداراة وتجميل النوايا والخطابات.


كان رهانُ «السنوار» على العاطفة لا العقل، وبدلاً من مُؤاخاة السلطة لصدِّ الاحتلال، اختار الانفرادَ بمُواجهته لأجل أن يزيح رام الله بصِفَتها الشرعية الثابتة بالسبق واعتراف المحتلّ قبل العالم، وأن يُعمِّمَ ولايتَه على القضية باعتباره سيِّدَ قرارها، وفاعلَها الوحيد.


وهذا بالضبط ما فعلَه الحزب سابقًا فى لبنان؛ إذ بعدما انسحبت إسرائيلُ من الجنوب فى العام 2000، وظَّف فائضَ قُوَّته تجاه الداخل، وأوصلَتْه النزاعاتُ إلى اختصام المُكوِّن السُّنىِّ بأردأ الصُّوَر المُمكِنَة، عبر رسالةٍ قُوامها طِنُّ من المُتفجِّرات أَردَت رفيق الحريرى، وعمَّدت حسن نصر الله حاكمًا للدولة تحت ظلِّ السلاح والترهيب، قبل أن يقتحِمَ العاصمةَ بالبنادق، ويفرض الثُّلثَ المُعطِّل على الجميع، ومن وَقتِها لم يَجِد فى نفسِه حاجةً للطائف ولا ميثاقيَّة العَيش المُشترك.


وعلى ذات المنوال، يسيرُ «الجولانى/ الشرع» فى دمشق، وقد اعتبرَ إسقاطَ بشَّار وعائلة الأسد رصيدًا خاصًّا لجماعته، المُولَّدَة بالاحتيال من أفكار داعش وتكتيكات القاعدة.


تختلفُ المذاهبُ والمَرجِعيَّات، وتبقى سُلوكيَّاتُ الأُصوليَّة واحدةً، لا ترى لَونًا غيرَها، ولا تعترفُ بالشراكة إلَّا على شروطِها، وإنْ اضطرَّت فإنها تعود للاحتيال بعدما تتبدَّد الفُرص، وتتآكل العقارب فى ساعاتها الصَّدِئَة.


تذهبُ «حماس» اليومَ مُجبرةً إلى التوافق، أو تُلوِّحُ بالذهاب. ويقولُ الأمينُ العام الجديد للحزب، الشيخ نعيم قاسم، ما لم يَدُر فى ذهن سَلَفِه التاريخىِّ صاحب العمامة السوداء، عن نزولهم تحت سقف الكيانيَّة اللبنانية الراسخة منذ زمن الاستقلال، والمُعمَّدة فى ميثاق الوفاق الوطنى، بدماء آلاف الضحايا مِمَّن ذهبوا لحربٍ أهليَّة كاسرة، أو فُرِضَت عليهم بإملاء محلىٍّ وعابر للحدود.


أمَّا «الجولانى» فإنه ما يزالُ فى شَوطِه الأوَّل على الطريق، ما قبل «طوفان السنوار» وإسناد نصر الله، تأخذه نشوةُ النصر وتتسلَّطُ عليه مطامعُ الاحتكار، وعَمَّا قريب قد يعودُ إلى خطاب التلاقِى مع بقيَّة المُكوِّنات السورية المُستبعَدة حاليًا؛ إنما الخَشيةُ كلُّها من العودة بعد فوات الأوان.


تراثُ الرَّجعيَّة الدينية لا يُبشِّر بالخير أبدًا. تعيشُ بيننا وتُفكِّرُ بأدمغة الأسلاف؛ لهذا تتعالى الحواجزُ وتختلفُ المواقيت دائمًا. لا فارقَ بين تجربة الإخوان التى غَيَّبت العقلَ وضيَّعت الفُرَص طوال ثلاثة عقود من حُكم السودان، ونُسختِهم التى تخطَّت الثوابتَ الوطنيَّةَ وفَوَّتَت إشارات الشارع المصرى لسنةٍ كاملة، أو تربَّحت من المَدنيَّة التونسيّة لتنقضَّ عليها، بأستاذية حسن البنا المُضمَرة فى وعى الغنوشى.


والهَمُّ نفسُه يَسرحُ فى شرايين الشيعيَّة السياسيَّة والمُسلَّحة؛ أكان مع تيَّاراتٍ تختصمُ فى هُويَّة العراق ومصالحه لنحو عقدين، أو ميليشيا تُفتِّتُ اليمنَ وتردُّه إلى مرحلةٍ بين الإماميَّة والبداوة، وكلاهما صورةٌ من بدائية الإدارة والمعاش.


ويبدو أنَّ الدودةَ فى أصل الشجرة، مهما تلوَّنَتْ العمائِمُ وتبدَّلت المنابعُ الفِقهيَّة. يعتبرُها طرفٌ حربًا «حُسينيَّة يَزيدية» دائمة، ويثأرُ الثانى من الخوارج بعقليَّةٍ أُمويَّةٍ لا تنطفئ حرائقُها، يتحالفان حِينًا ويختلفان أحيانًا، ويتبادلان الرِّبحَ والخسارة بين وقتٍ وآخر، بينما تخرجُ الخرائطُ مَهزومةً فى الحالين، وفى كلِّ مَرَّةٍ دون استثناء.


تاجَروا جميعًا بفلسطين، وتربَّحوا على حسابها بقَصدٍ مُسبَقٍ أو بانتهازيّة مُفرِطة للفُرَص السَّانِحة. صحيحٌ أنَّ القضيَّةَ خسرت تحت راية العروبة؛ لكنَّ خسائرها مع الأَسلَمَة أفدح، والعِلَّة مُجدَّدًا فى الأُصوليَّة، أَرَفَعَتْ رايةً قَوميَّة أو تلبَّسَت عباءةً أُمَميّة.


انقلابُ حماس على السلطة بعد انتخابات 2006 أضرَّها أكثرَ من مَضَارّ انقلاب إسرائيل على اتفاق أوسلو، وإطلاقُ «الطوفان» أعادَها لِمَا قبل الانتفاضة الأُولى، ويُوشِكُ أنْ يَرُدَّها لأبعد من تأسيس مُنظَّمة التحرير؛ لو أنجز اليمينُ الصهيونىُّ المُتطرّفُ غايتَه، بإسقاط السُّلطة، وتعرية الدولة الضائعة من وجودِها الرمزىِّ الخافت.


قاومَ الحزبُ استحقاقات الداخل بمزاعمِ النضالات الأَبَديَّة، وبينما لم يُبرِّر للبنانيِّين ذهابَه إلى سوريا طرفًا فى حربٍ أهليَّةٍ لا تخصُّهم، ويجب ألَّا يُهلِّل لها بلدٌ انكوى بنارها سابقًا؛ فإنه لم يَكُن فى حاجةٍ للتبرير أصلاً بشأن نزوتِه التالية للطوفان، إلى أنْ نزلَ نتنياهو بحمولاتِ غضبِه على الضاحية ورأسِ سيِّدها؛ فعاد لاعبًا بين مُتساوِين، يستميتُ لاستثمار ما تبقَّى من قُواه لأجل استبقاء الهيمنة على الداخل.


والصاعدُ الجديد فى دمشق، يُبشِّر لا يُنفِّر؛ لكنه يقول من دون فعِلٍ، أو يفعلُ العكس يتدرُّجٍ محسوب، ويتسرَّبُ بطيئًا مثل السُّمِّ فى الدورة الدموية للشام. ربما يكونُ الرابحَ الوحيد من «طوفان السنوار»؛ باستثناء زعيم الليكود وحكومتِه طبعًا.


ولولا ما أنزلَتْه المُقامرة غير المحسوبة على رأس الشيعيَّة المُسلَّحة؛ ما تمكَّن بدَفعٍ من الأناضول، أو تحفيزٍ وغَضٍّ للطَّرف من جانب تل أبيب، أن يتقدّم إلى عاصمة الأُمَويِّين، وينهى جولةً من الحرب الأهلية، تمهيدًا لابتلاع الشام، أو افتتاح جولتها التالية.


لم يَنزَلِق اسمُ فلسطين على لسان «الجولانى» مرّةً واحدة؛ بل يُهادِنُ إسرائيل فى السرِّ والعلن، ويطلبُ واليه على العاصمة من واشنطن أن تتوسَّط فى السلام بين الضحيّة والجلاد.


المُؤكّد أنه لم يتخلّ تمامًا عن ثوابتِه العقديَّة، ولا يُسلَّم مُشغّلوه بنَهَم الدولة العِبريَّة، كما لا ينظرُ لمَسرَى الرسول على أنه فائضٌ عن الحاجة، أو خارجُ اهتمام واجباتِه الرساليَّة لإعادة الدين إلى بلادٍ تخلّت عن الدنيا منذ زمنٍ بعيد.


مُجرَّد تقسيمٍ للأهداف؛ الأهم فالمهمّ، وكلُّه آت على موعِده. الأرجحُ أنها التقيّةُ لا أكثر، والمُفارَقُة أنها أداة الغريم الأوَّل لإضمار النوايا وتغطية الأهداف؛ فكأنهما يخبزان الكعكةَ بالمقادير نفسِها، ويتقاتلان عليها بأسلحةٍ مُتشابهةٍ؛ إنما تحت راياتٍ شتَّى.
غرامُ الأُصوليِّين أنْ يعودوا للتاريخ. لا يستشعرُ المُرشِدُ الإيرانىُّ حَرَجًا فى القول إنها مُواجهةٌ مفتوحة منذ أربعة عشر قرنًا، ويَردُّ «الجولانى» بأنَّ البقاء تحت رحمة الماضى صورةٌ بائسة من سُخرية القدر، بينما يشبكُ أطرافَ لحيته المُشذّبة حديثًا بمشروعٍ عُثمانىٍّ مُستَدعَى من أردأ قُيوح الذاكرة، وفى النفس أُمنياتٌ وشأو إلى ما هو أبعد، على منهاج الخلافة الراشدة، التى بايعَ «البغدادى» لأجلِها، وانقلَبَ عليه طمعًا فيها!


وبالمادة نفسِها؛ لماذا لا يتوقَّفُ الصَّفَويِّون أمام أنهم امتدادٌ لمَلكِهم الفارسى كورش، الذى أعاد اليهودَ من السَّبى إلى فلسطين، ومكَّن لهم فيها، وعَمَّر هياكلَهم، وإليه يُرَدُّ الفَضلُ فى حقبةٍ يَزهون بها من تاريخِهم الباهت القصير؟!


ولماذا يَغُضُّ العُثمانيِّون أبصارَهم عن قرونِ البطش والتنكيل بالمنطقة كلِّها، وعن أنهم رَعَوا فى ولايتهم هجرات اليهود، وصَمَتوا على تنظيم مُجتمعاتهم ومعاشهم خارج ولاية السلطنة، وامتلاكهم ما يُشبِه الدولةَ أو الحُكم الذاتىَّ قبل زمن الانتداب وبعده؟!


باختصار؛ لماذا يعودُ الفُرس للكوفة لا الدولة الإخمينية، وينتخِبُ التُركُ سليم وسليمان ومراد، ويتغافلون عن عبدالحميد والمحمدين الخامس والسادس؟ يُحاسِبُنا الصهاينةُ على التاريخ، ويختصِمُنا الفُرَس والتُرك فيه، وجميعهم يُلوِّثون الحاضرَ بشعاراتٍ مُضلِّلة، وحكاياتٍ عتيقة يعجزون عن تكرارها، وكلّها أُصوليَّاتٌ تتبادَلُ الأقنعةَ، وتتخادَم قصدًا أو اعتباطًا!
لن تتحقَّقَ إسرائيلُ الكُبرى إلَّا فى المُخيِّلة؛ بل لن تَدِينَ لهم البُّقعة التى يراها ترامب صغيرةً بين النهر والبحر. وبالمِثل؛ فلن تستعيدَ الجمهوريَّةُ الإسلاميَّةُ أمجادَ العِرق تحت راية الدين، ولن تعودَ الامبراطوريَّةُ العُثمانية ماديًّا أو مَعنويًّا، وقد هُزِمَتْ فى وعى أهلها ونفوسِهم، قبل أن يَهزِمَها خُصومُها من الخارج.


يختلفُ محورا الإسلام السياسىِّ: الشيعيَّةُ المُسلَّحة، والأُصوليَّة السُّنيّة، فى كلِّ شىءٍ تقريبًا، ويتَّفقان على اختصام المنطقة، وتضييع فُرَص التطبيع مع العصر، وإنهاء حقبة انقطاعها الحضارىِّ الطويلة. ومن أَسَفٍ أنهما اتفقتا لمرّةٍ جديدةٍ على فلسطين، وكلاهما حاضرٌ بشكلٍ أو آخر داخل غُرفة القيادة الحماسيَّة.


بقصدٍ واضح، شاغَبَتْ عائلةُ المُمانَعة وأثارتْ الغُبارَ فى فضاء غزَّة؛ فغطَّت وحشيَّة الصهاينة وأعمَتْ العيون عن مأساة القطاع. ومع بواعثَ مُختلفةٍ، حقَّقت الميليشياتُ السنيَّة نتيجةً مُطابقةً من جهة الشام.


وليس القَصدُ قطعًا أن تتخلَّى طهران عن ثأرها ولا تردّ الضربات، أو أن يُفوِّت السوريِّون فُرصةَ الخلاص من «الأسد» ولو جاءتهم من الشيطان؛ إنما أن يكونوا أكثر اتساقًا فى التصريح بأهدافهم، وعدم تغطيتها بشعاراتٍ طوباويّة تستلبُ العوام، وتهزِلُ فى مواضع الجدّ.


القصدُ أن يُخَلّوا سبيلَ القضيِّة، ويُحرِّروها من الاستقطاب والاستتباع، ومن التجارة الرديئة والمُزايدات الفجَّة، ويتركوها خالصةً لأهلها؛ بعيدًا من التوظيف الدعائى، ومن استثمارها لإحراز المكاسب الجيوسياسية، وإثارة القلاقل فى المنطقة، وتأجيج المشاعر للتحريض على دُوَلِها المُستقلّة.


من أجلِ غايةٍ تخصُّ صاحبها، كثيرًا ما يُضَحَّى بمصالح الآخرين وحيواتهم. أراد «السنوار» أن يُنشِّطَ قضيَّتَه أو يخدمَ تيَّاره؛ لكنه وضعَ الإقليمَ فى عَين العاصفة. وسَعَتْ الجمهوريَّةُ الإسلاميَّةُ لإسناد العدالة أو استعراض قوَّتها؛ فغرَّرت بالقطاع وساهمت فى تدمير سوريا ولبنان.


اختصمَتْ العُثمانيَّةُ الجديدةُ جارتَها الفارسيّة وتابعَها البَعثىَّ؛ فوَضعَتْ الشامَ أمام مستقبلٍ غامض، وسلَّمَته لسُلطةٍ من خارج ثقافة الدولة، وبجغرافيا مَبتورةٍ بضِعْفِ ما كانت عليه، وقد لا يعودُ المَقضومُ منها فى الجنوب، ناهيك عن قَضْمٍ مُوازٍ من الشمال.


لم يَكُن الصمتُ فى أرض الزيتون حَلاًّ، ولا الإشعالُ أفضى لشىءٍ إلا التهلكة. وكان على «الأسد» أن يترجَّل عن الركب السورىِّ المُضيَّع داخليًّا وفى أرجاء العالم؛ لكنَّ سُلوكيَّات الوارثين لا تُبشِّرُ بانقطاعٍ عن خطايا المُوَرِّث، ولا بإرساء دولةٍ من خارج أجندة اللعب بالعواطف، والاحتماء بالدعايات الصاخبة أو النصوص المُقدَّسة.


وفى لبنان؛ ما زال الحزبُ ذاهلاً عن أشراط الزمن الجديد، بينما تُغرى الوقائعُ خصومَه بالإجهاز عليه، ولَصْق ظهرِه بالجدار، وكلاهما يقودُ لاحتدامٍ قد يُجدِّدُ ذكرى الطائفيَّة ونزاعاتها المَقيتَة.


رضخَتْ «حماس» للمُصالحة اضطرارًا، وتوافقت على لجنة الإسناد المجتمعىِّ فى غزة؛ لكنها أجَّجَتْ بيئةَ الضفَّة الغربية؛ تشغيبًا على الاتفاق، أو سَعيًا لإنتاج نسخةٍ ثانية من انتكاسات الطوفان.


والجولانى ينتقلُ من الثورة إلى الدولة فى صالونات قصر الشعب، وتندلعُ الحرائقُ من حوله فى كلِّ النواحى، ورجالُه يُنكِّلون بخصومِهم الظرفيِّين من فُلول النظام، وكلما تزايد الخصوم مُستقبلاً؛ سيتصاعَدُ التنكيلُ بالضرورة.


السينما الإيرانية حادّةٌ ولاذعة، والدراما التركية طويلةٌ لدرجة المَلَل، وغالبًا ما لا تكون من جزءٍ واحد. وحدَها فلسطين تُركِّزُ على الأفلام القصيرة، مثل تجربة رشيد مشهراوى وعياله الشباب فى ذهابهم المُقبل إلى الأوسكار؛ لأنه لا طاقةَ لديهم لإنتاج الحكايات المَمجوجة، ولا نفسَ مَلحميًّا لرواية القصة؛ بعدما سرقَها الآخرون من أصحابها الأصليِّين، أو الوحيدين بالأحرى.


سمحَ التشغيبُ الإقليمىُّ لنتنياهو بأنْ يُهندِسَ خطَّتَه الإباديَّة فى غزّة، ويواصلُ تنفيذَها بدأبٍ لا يَرُدَّه العالمُ عنه، ويُعينُه عليه صراع الأُصوليَّات فى المنطقة، بينما يَسرِقُ اللحظةَ من المَنكوبين الحقيقيين، ويُعيد إنتاجَ النكبة الفلسطينية فى بقيَّة الشام القديم، مع فارقِ المذهب المُقاوم فى لبنان، وفارق العقيدة الاحتلاليَّة فى سوريا.


الانفرادُ بغزَّة لم يمنَحْ «حماس» الشرعيَّةَ المفقودة، والبقاءُ على أطلالها لن يضمنَ لها نفوذًا ضيَّعته اختيارًا. الضاحيةُ مُلزَمَة بالتزحزُح ناحية بيروت، والتَدَفّى بها، أو أن تُنزِلَ على العاصمة ونفسِها ما يَفوقُ طاقةَ البلد الصغير.


وثِقَلُ الميراثِ الأَسَدىِّ فى دمشق، لن يُمرِّر اختراعَ قائدٍ مُلَفَّقٍ من خارج إطار الدولة وقِيَم المواطنة الحديثة. إمَّا أن تتواضَعَ الأُصوليَّات أمام الجغرافيا والزمن، أو تتناحَر معًا إلى أنْ تهزِمَها الوقائع، أو تفترسَها أُصوليَّةٌ صهيونيَّةٌ تترصَّدُ الجميعَ بالتساوى.


الإكراهُ جزءٌ من فلسفة الدولة فعلاً؛ لكنْ لا حماس ولا الحزب ولا هيئة تحرير الشام لهم صِفَةُ الدولة، أو يَقومون مقامَها، ورُعاتُهم يمتنعُ على العقل التسليم بأنهم يصلحون ظهيرًا للدُّوَل، بينما يتخطَّون ثوابتَها العُليا: حصانة الإقليم، واستقلال القرار، وتجانُس الشعب وامتزاجه فى بوتقةٍ واحدة.


الإكراهُ مَطلوبٌ؛ إنما بعد الوِفاق، وهو يبدأ من إنزال حماس عن عَرشِها الموهوم، ورَدِّ الحزب عن ضلالِه القديم، وإيقاظ الجولانى من سَكرةِ النصر، إلى فكرة أنه لا يُمكنُ بناء نظامِه من ركام البعث، وبالمادة والذهنية والمُنطلقات ذاتِها؛ ولو تلوَّنت العمامة وتبدَّلت نقوشُ المنبر.. والأهم قبلاً وبَعدًا؛ أن يعودوا لوطنيّتهم الصافية، لا إلى مذهبٍ وطائفة، ولا لأجندة أو مشروعٍ امبراطورىٍّ.


يُوشِكُ العام أن يُلملِم دفاتره، والجميع ينظرون لأنفسهم من زاوية النصر المُطلَق: المُمانَعون يتشدَّدون فى أنها لم يُهزَموا ولو تبدَّدت الخرائط أو تآكلت تحت أقدامهم. العثمانية مُنتشية، والفارسية على أطراف أصابعها، والجولانى يحسَبُ أنها دانت له، ولن يُخذّل من الرعاة كما خُذِل الأسد.


وحده نتنياهو يدخل غرفة العمليات لإزالة البروستاتا، بعدما أزال جمهرة من خصومه فى الطوفان، ويُشرف على اشتباك الباقين مع بعضهم، ولعلّه يُرتِّب جولةً جديدة، تُفتَتح كالعادة من خطأ أصولىٍّ يراه أصحابه نضالاً، ولا يُقرّون بخسائره اتِّساقًا مع النفس، أو من باب الاعتذار والندم على الأقل.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة