يُسلِّم 2024 المنطقةَ غيرَ ما تَسلَّمَها تمامًا، وقد لا تكونُ فى العام الجديد كحالِها اليوم. التوازنات الجيوسياسيَّة تبدَّلت، والجغرافيا تتسابقُ مع التاريخ، والنزواتُ التى حاكَت فى صدورِ أفرادٍ، تضخَّمت؛ حتى أنها تبتلعُ دُوَلاً ومُجتمعاتٍ بكاملها.
يُرسَمُ الشرقُ الأوسطُ من جديد؛ لا على ما أراده الأمريكيِّون قبل عقدين، أو تطلَّع إليه السنوار وتمنَّاه نتنياهو؛ إنما بتظهير التناقُضات وتضخيمها، وإبطالِ السياسة لصالح القوَّة العارية، وإدخال اللاعبين جميعًا إلى الساحة دفعةً واحدة. كلُّ الأطراف مُرتبكون، وكُلُّهم عاجزون عن الحَسْم، ولا أحدَ يضعُ التراجُعَ بين باقة الخيارات.
يصعُب الوقوف على حسابٍ ختامىٍّ للعام الآفل؛ إذ ما تزالُ الملفَّات كُلُّها مفتوحةً على آخرها. المُعادلات الجيوسياسيَّة موضوعةٌ على طاولة التشريح، وتوازُنات القوى تفكَّكت ولم يُعَد تركيبُها بعد، وسؤالُ الاقتصاد صار رفاهيةً، بينما تنشغلُ البُلدانُ فى امتحان الأمن، وتتدفَّقُ عليها أسئلتُه من خارج المناهج المُعتَادة.
وإن شِئنا أن نمنحَه اسمًا، على سبيل الإشارة الاستدلالية، لا الإحاطة الجامعة بالتأكيد؛ فإنه عامُ السيولة والنار: سيولة البلاد والأفكار والقِيَم، ونار الأُصوليَّة والجنون والخيارات الحارقة.
فى الجُوار القريب، ما تزالُ غزَّة أسيرةَ الهولوكوست الصهيونىِّ، على ثابتِ نتنياهو الأوَّل فى الإبادة وابتلاع القضية. الرتابةُ تُهيمن على المجال الليبىِّ غربًا، بما لا يُبشِّرُ بتسويةٍ تُلملِمُ فوضى ثلاث عشرة سنةً، والعدَّاد دوّار.
الحربُ فى السودان طازجةٌ كيَومِها الافتتاحىِّ، وتتصاعدُ مخاطرُ التقسيم، مع اتِّجاه «ميليشيا الدعم السريع» لاختراعِ حكومةٍ مُوازيةٍ، بتَوافُقٍ عجيبٍ مع قطاعٍ من القوى المدنيَّة المدعومة خارجيًّا. وإلى الشرق منها يُعكِّرُ الحُوثيِّون مياه البحر الأحمر، وتتلمَّظُ تل أبيب لاستكمال وَجبَتِها الإيرانية فى صنعاء. كانت الأكلاتُ الشهيَّةُ تُطبَخُ على نارٍ هادئة، وصارت تُعَدُّ على عَجَلٍ فوق فوَّهات البراكين.
يحملُ كلُّ فريقٍ خسائرَه على كاهلِه، ويُعبِّئُ حنجرتَه بسرديَّات النصر. الحماسيِّون يُكابرون فى أنهم أنزلوا بفلسطين ما يَفوقُ طاقتَها، ويتجاوزُ كلَّ نكباتها القديمة، والشيعيَّةُ المُسلَّحة تأبى الاعترافَ بالهزيمة، وقد انطفأت فى ساحةٍ، وسلَّمَتْ رايتَها لأُصوليَّةٍ سُنيَّة بديلةٍ فى غيرها.
يزهو «الجولانى» بانتصارِه الخاطف؛ وقد أطاحَ نظامًا أَسَديًّا عِلّتُه العِصابيَّةُ والاستتباع، بينما يُبشِّر المنكوبين من عقود البَعث؛ بأنّه سيَحكُم مُنفردًا لأربع سنواتٍ مُقبلة، من دون دستورٍ، ولا دولةٍ أصلاً.
داخليًّا، أنجزَتْ مصرُ انتخاباتها الرئاسيَّة، واستكملت جولةً ثانية من حوارها الوطنىِّ. تقاومُ تحدِّياتها المحليَّة بيَدٍ، وتصدُّ بالثانية لفحَ النار من الخارج.
ورشةٌ دبلوماسيَّةٌ لم تهدأ لإنجاز الهُدنة فى غزَّة، وإحباط مُخطَّطات إسرائيل للتهجير وتصفية القضية. ومُواكبةٌ حثيثةٌ للملفَّات الساخنة على امتداد الشرق المنكوب.
من قمَّة القاهرة للسلام فى مطلع العام، إلى مُؤتمر العقبة بشأن سوريا فى خاتمته، وبينهما استضافة الفرقاء الليبيين والقوى المدنيَّة السودانية، ورعاية المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، وتطبيع العلاقات مع تركيا، وجولات مكّوكية بين عواصم الدنيا، ووفودٌ لا تنقطعُ عن القاهرة.
عشراتُ الفعاليَّات السياسية هُنا وهُناك، ولا غايةَ إلَّا إسناد الجُدران الإقليمية المُتدَاعية، والعبور بالدولة من موسم النوَّات والأعاصير. وكالعادة؛ مصرُ مسمارُ المنطقة، وطالما أنها بخيرٍ؛ فكُلُّ الأعطاب قابلةٌ للإصلاح، أو على الأقلّ لن يفوزَ المُتربّصون، أو تكتملَ مُخطَّطاتُهم السوداء.
إسرائيلُ غولٌ جائعٌ، كما كانت فى العام السابق، وستكون فى أىِّ عامٍ مُقبلٍ. استثمرَتْ فى «حماس» سابقًا لخَنق السلطة الوطنية وما تبقَّى من أوسلو، وتستثمرُ فى الميليشيَّات السُّنيّة اليومَ لاستبدالٍ غريمٍ بغريم.
لن تتوبَ الضباعُ الصهيونيَّةُ عن غريزة الافتراس؛ إنما يتعيَّنُ على الفرائسِ أنْ تتوقَّف عن تقديم نفسِها صيدًا سهلاً، وعن غرامِها المحموم بالبطولات الوهميَّةِ والفناء المجّانىِّ.
ومقالةُ رائد النهضة الصينية، دينج شياو بينج، تصلحُ للسياسة والحرب كما فى الاقتصاد؛ إذ لا يَهمُّ ما إذا كانت القطَّةُ بيضاءَ أم سوداء، طالما أنها تصطادُ الفئران. والأُصوليَّةُ بدَّدت ولم تُجدِّد، ولا اصطادت فأرًا أو أفلَتت من مصيدة. وبالقَطع؛ فلن تُحسَمَ الجولةُ بالبندقيَّة ذاتِها؛ لمُجرَّد صَبغِها بلونٍ مُغاير، أو إحلالِ عمامةٍ محلَّ أُخرى.
يعودُ «ترامب» إلى البيت الأبيض، مُتَوِّجًا مرحلةً هائجةً من انتعاشِ اليمين المُحافِظ وخطاباته القوميَّة الحادّة. العالمُ ينقضُّ على العَولَمة بفأسِ الهُويَّات الزاعقة، ومنطقتُنا تُدمِنُ وظيفةَ الانفعال بالآخرين، وربما تردُّ على اللَوثة بأسوأ منها. انكسرَتْ الشيعيَّةُ المُسلَّحة؛ لتبدأ الأُصوليَّةُ السنيَّة صحوةً جديدة.
ورعاةُ الأخيرة لديهم فائضٌ فى الأطماع، ومُقدِّماتٌ تكفى لتحفيزهم على تكرار التجارب الفاشلة. ما يعنى أنَّ المخاطر فى أَوجِها، والعِلَلُ ستتكالبُ على الأبدان بأضعاف ما كانت، والجميع مَدعوُّون للوقاية بكلِّ السُّبل، والتَّدَاوى بالعاقير المُرَّة، قبل أن يكون آخر العلاج الكَىّ. الحصانةُ من الذات، ومَناعةُ المُجتمعات لا تقلُّ أهميَّةً عن التحوُّط من العدوى.
أُهدِرَت الفُرَصُ؛ فكان الاستنزاف. الفصائلُ الغَزيَّة اختصمَتْ الغريبَ قبل أن تتصالحَ مع القريب، فتفجَّرت الأزماتُ دون وِفاقٍ على الحلول. «الأسدُ» ضيَّع كلَّ المواعيد لإنقاذ سوريا من داخلها؛ فامتدَّت الأيادى لتعبثَ بالشام، من باب الأمل القليل بعد يأسٍ عارم.
إنه عامُ الأحلام التى انقلبت كوابيس، والكوابيس التى تُزهِرُ أحلامًا، ستُبدِّدها اليقظةُ عمَّا قريبٍ أو بعيد. وكلٌّ يُغنِّى على لَيْلاه، بالأيديولوجيا حِينًا، ولمُجرَّد الكَيد والمُزايدة والنكاية فى الآخرين أحيانًا.
قُتِلَ «هنيَّة» فى طهران، وحسن نصر الله فى الضاحية، والسنوار فى غزَّة، وطابورٌ من قادة الحرس الثورىِّ فى دمشق. اختلفَتْ الأَمكِنَةُ وتطابقت المآلات، وما زالت الدعاياتُ الكُبرى تُوقِعُ أصحابَها فى فخاخٍ سهلة.
وما كان وَبالاً على الفلسطينيِّين، يفتحُ بابَ الأمل لدى اللبنانيِّين فى أن يستعيدوا دَولتَهم من الضياع، أمَّا السوريِّون فيتأرجَحون للأسف بين الاحتمالين. انكسرَتْ الصَّفَويَّةُ المُعمَّمة لتتقدَّم العُثمانيّةُ الجديدة بقناعٍ علمانىٍّ وأدواتٍ رجعيّة، ولُعبة العقائد نفسُها حاضرةٌ بقوَّة فى تلِّ أبيب.
تخلَّصَتْ إسرائيلُ تمامًا من رواسب اليسار المُؤسِّس، وخلعَتْ قناعَ المَدنيَّة لتستعيد ملامحَها التوراتيَّةَ الفاقعة. وفى الحرب كما فى الدين؛ بدَّلَتْ عقيدةَ جابوتنسكى وبن جوريون عن «الجدار الحديدىِّ»، وصارت مفتونةً بالمعارك الطويلة فى أراضى الآخرين، وباستثارة الخصوم وإتيانهم من مأمنهم.
واليومَ، لم يَعُد مُمكنًا النظرُ إليها من الزاوية القديمة، ولا استشراف سياساتها تحت سقف البلد الصغير المُحاط بحلقةِ نار؛ إذ يبدو أنه استفادَ من الأُصوليَّة الإسلاميّة بأكثر مِمَّا أفادَتْ نفسَها، ووظَّف فائضَ قُوَّتها ليَتعَملَقَ عليها. اختلّت المُعادلةُ أضعافَ ما كانت، والجولاتُ السابقةُ بكلِّ خسائرها، قد تُصبحُ نُزهةً بالقياس لِمَا هو آتٍ.
القاهرةُ وبقيّةُ عواصم الاعتدال، تُعالجُ أخطاء لم تصنَعْها، وتتحرَّكُ على حبلٍ مشدودٍ بين طَرَفَين مَخبولَيْن. اختُرِعَت الحروبُ لإزعاجها، واستُخدِمَتْ القضايا لابتزازها والمُزايدةِ عليها، وتُستخدَمُ الأصوليّةُ لتعويقها عن إطفاء الحرائق. تتلقَّى السهام، وتلعبُ دورَ الدرع للمنطقة، وتُناورُ الحَمقَى من الجانبين فى كلِّ الأحوال.
افتُتِحَ العامُ بنكبةٍ مُستمرَّة فى فلسطين، واختُتِمَ بنشوةٍ مُخاتِلَةٍ فى سوريا. الشامُ القديم يُنتِجُ المآسى والأفراح، ويتعثَّرُ فيهما، مَرّةً مع الفُرس، والثانيةُ مع التُرك، وكلتاهما بشراكةٍ إسرائيليّةٍ واضحة.
إنها شهورُ الوعود الكاذبة والمُقايضات الفجَّة. دُفِعَ الغَزِّيون للمحرقة بوَعدٍ، وحُبِسوا فيها بمُقايضةٍ. المُمانَعةُ قدَّمتهم طُعمًا لصيدٍ أكبر، وحماس استعاضَتْ عن أرواحهم بالعاطفة والدعايات. وما يصحُّ لوصف القطاع، يصدقُ على لبنان وسوريا واليمن، وعلى إسرائيل وإيران بطبيعة الحال.
تآكلَتْ أُصولُ فارس، بينما تتضخَّمُ أرصدةُ الأناضول. يتبقَّى للأُولى جَيبٌ ضئيل فى أطراف الجزيرة العربية، وجدالٌ غير محسومٍ فى بلاد الرافدين، ولدى الثانية كراكيبُ إسلامويَّةٌ فى خزانة الماضى.
نجاحُ مُغامرة «الجولانى» وابتلاعه لتَرِكَة الأسد، قد يُغرِيان بمُحاولة ابتعاث الربيع العربىِّ من مقبرته السحيقة، وإنعاش الأُصوليَّة الإخوانيَّة ببديلٍ ناعمٍ عن خشونة تجاربها السابقة؛ إنما تظلُّ المنطقةُ حُبلَى بالمفاجآت، وعصيّةً على السيناريوهات سابقة التجهيز.
ما أثبَتَه العامُ أنَّ فكرةَ الدولة غير مُتجذِّرةٍ فى أغلب الشرق. والساسةُ التقليديِّون عاجزون فى كثيرٍ منها عن توفير بدائل آمنةٍ ومُقنعة. وهى حالٌ مُزريةٌ، ومُغريةٌ باستمرار إزهاق السياسة لصالح القوَّة، وبالإيغال فى حقول الألغام؛ إلى أن تتفجَّر فى الراكضين، أو تنقَلِبَ فوضَى الأُصوليَّة على صُنَّاعها والمُستثمرين فيها.
دخلنا فى مصر 2024 بأزماتٍ وتحدِّيات، ونخرجُ بمثلِها أو يزيد؛ إنما ما نزالُ ثابتِين على مبادئنا، وقادرين على حراستها. وما كان فى السابق سيتضاعَفُ فى اللاحق؛ إذ لن تتوقَّف قوافلُ النار، ولن يُقلِعَ المُزايدون عن لعبة التسخين وتأجيج المشاعر.
الثابتُ الوحيد؛ أنَّ من أجَّجوا الحرائق لن يُطفئوها.. تتبدَّلُ شعاراتُ الميليشيا وعناوينها، ولا تتغيَّرُ مُمارساتها ونتائجُها. وإذا كان مُرشَّحًا فى العام الجديد أن تتوقَّفَ الحربُ فى غزَّة، فالاحتمالُ قائمٌ باندلاعها فى ساحةٍ أُخرى.. سيُجرِّبون كُلَّ الخيارات الخاطئة، قبل أن يعودوا للاحتكام إلى الدُّوَل الوازنة مُجدَّدًا، وإلى العقل اضطرارًا أو اختيارًا.
الجُغرافيا ماكرةٌ، والتاريخ أكثر مَكرًا. 2024 قد يتفوَّقُ فى السّوء على ما عشناه؛ لكنه ليس الأسوأ بين ما تختزنُه ذاكرةُ الشرق. الأُصوليَّةُ تُجدِّفُ ضدَّ الزمن، والصهيونيّةُ أيضًا. سيظلُّ الصراعُ قائمًا؛ لكنه سيأكلُ أطرافَه قبل أن يقضِمَ من الآخرين.
لا أحدَ يتمنَّى تكرارَ التجربة؛ حتى مَنْ يَزعمون الانتصارَ فيها. الجميعُ يُشيِّعون العامَ، ولسانُ حالهم عبارةُ اللبنانيِّين خفيفةُ الإيقاع: «ينذِكر ما يِنعَاد»؛ لكنهم ذاهبون لِمَا لا يَقِلُّ مرارةً بالتأكيد.
لقد كان فاصلاً رديئًا ومَمجوجًا؛ لأنَّ الأغبياءَ تسلَّطوا عليه، لكنه ينقضى أو يستطيلُ تاركًا الحقائق الكُبرى على حالها: دُوَل العقل آمنةٌ، حواضنُ الميليشيَّات من نزيفٍ لآخر. الاحتلالُ يسرِقُ لحاضرِه ما يُعَقِّدُ مُستقبلَه، والفلسطينيِّون باقون ما بَقِى الزعتر والزيتون.
جولةٌ ساخنةٌ للغاية؛ لكنها ليست جديدةً تمامًا. اختبرناها سابقًا، وعبَرنا ما هو أشرس منها. يتقدَّم الزمن بالناس، بينما يتأخَّرون فى الوعى للأسف.
الصهاينةُ يستعيدون ذكرى يونيو 1967، والعثمانيِّون يتطلَّعون لِمَا قبل سايكس بيكو ومُعاهدة فرساى، والصَّفَويِّون لم يُغادروا حلبةَ الخُصومة الأُمَويّة قبل اثنى عشر قرنًا، والإخوان وأشباهُهم طامعون فى العودة إلى العام 2011.
لا أحدَ منهم يملكُ آلةً زمنيّة، ولا يُمكِنُ أن تتلاقَى تواريخُهم على موعدٍ واحد.. سيَشتبكون إلى أن تنفَدَ طاقاتُهم؛ ولن تتجسَّد أجنداتُهم، أو تَدِينَ لها الدنيا. إنها خُلاصةٌ واحدةٌ لكلِّ التجارب الشبيهة: تبقى الخرائطُ دائمًا، وتُجَّارُ النار غالبًا ما يرحلون وحدَهم بثيابٍ مُهلهَلَة ووجوهٍ مُحتَرِقة.