تبحر رواية "عازفة الماندولين الإيكارية" للكاتبة أنجيل عزيز بنا في رحلة مفعمة بالمشاعر والتاريخ والتحديات. تسرد الرواية حياة أنستاسيا، الشابة اليونانية ذات السابعة عشرة، التي تحمل معها أداة موسيقية صغيرة وهي الماندولين، في رحلة محفوفة بالمخاطر من جزيرتها إيكاريا، التي كانت تحت الاحتلال النازي، إلى مدينة الإسكندرية في مصر في وقت الحرب العالمية الثانية. تسلط الرواية الضوء على جوانب متعددة من حياة أنستاسيا، التي تواجه تحديات الحروب والتهديدات المترتبة عليها، ولكنها في نفس الوقت تسعى لتحقيق حلمها بأن تصبح عازفة ماندولين مشهورة، متحدية بذلك الظروف التي فرضت عليها.
تفيد الكاتبة في سردها من استخدام تقنيات السرد التاريخي والخيالي، فتقدم لنا الإسكندرية كمدينة مزدوجة الثقافات، تحمل بين شوارعها مزيجًا من الأمل والخوف، من العلاقات الإنسانية والصراعات الداخلية. تصف الكاتبة المدينة بحيوية، لتجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش داخل تلك الشوارع التي يصفها شخوص الرواية. تُسهم التفاصيل الدقيقة مثل الأسماء والشوارع والمقاهي في تكوين صورة حية لإسكندرية الأربعينيات، تلك المدينة التي كانت قلبًا نابضًا بالتنوع والتعايش بين مختلف الجاليات من المصريين واليونانيين والإيطاليين وغيرهم.
تركز الرواية على الصراع الداخلي لشخصية أنستاسيا، حيث تمثل الماندولين أكثر من مجرد آلة موسيقية؛ إنها رمز للأمل والمقاومة في وجه محن الحياة. كما أن الرواية تقدم تصورات عن الصراع بين الحب والشرف والعادات الاجتماعية في ثقافات مختلفة، فأنستاسيا تواجه تحديات كبيرة بسبب قيم المجتمع التي تحد من حرية المرأة في التعبير عن نفسها ومشاعرها. في هذا السياق، يُطرح سؤال عميق حول مدى قدرة الإنسان على تشكيل مصيره، خصوصًا في ظل الظروف القاهرة التي تفرضها الحرب، والضغوط الاجتماعية، والجشع الذي يتجسد في شخصية الأمير الذي يسعى وراء حب أنستاسيا.
من الناحية الأدبية، يتميز الكتاب بلغة سردية ممتعة توازن بين الوصف الشعري للأماكن والمشاعر الداخلية للشخصيات، وبين الوقائع التاريخية التي تدمجها الكاتبة ببراعة. تظهر الكاتبة قدراتها الفنية في دمج الخيال مع الواقع؛ إذ تجعل من ماضٍ مرير فترة زمنية قابلة للعيش في ذاكرة القارئ، ممزوجةً بأحداث حقيقية لكنها مشحونة بالرمزية.
إن "عازفة الماندولين الإيكارية" ليست مجرد رواية تاريخية، بل هي تأمل في قدرة الإنسان على النضال والمقاومة، وهي أيضًا شهادة على عظمة الإرادة البشرية في سعيها لتحقيق الأحلام مهما كانت الظروف. إن الرواية تحفز القارئ على التفكير في الأسئلة العميقة حول القدر والإرادة، وعن كيفية مواجهة التحديات التي لا يمكن الفرار منها. كما أن الرواية تقدم نموذجًا قويًا للمرأة التي تصمد في وجه عوائق المجتمع وتواجه التحديات بثبات.
يمكن القول إن "عازفة الماندولين الإيكارية" هي رواية تجمع بين التاريخ والشعور الإنساني والفن. هي رحلة إنسانية وفكرية في عالم مليء بالصراعات والحروب ولكن أيضًا بالأمل والإرادة. إن قراءتها هي دعوة لاكتشاف الذات في مواجهة التحديات، والتمسك بالأحلام مهما كانت الطريق صعبة.