حين تقترب أذنك من القرآن بصوت الشيخ محمد صديق المنشاوي، تجد نفسك على شرفة الروح، تتلمس ضوءًا يتسلل من قلب السماء إلى وجدانك، ذلك الصوت الذي لا يشبهه صوت، كأنه رسالة حانية تهمس في أذن القلب أن الحياة رغم صخبها، تحتمل في داخلها هدوءًا مقدسًا.
وُلد الشيخ محمد صديق المنشاوي عام 1920 في قرية البواريك بمحافظة سوهاج، وكأنه اختير ليكون جسرًا بين الأرض والسماء، بين تراب البشر ونقاء الملائكة.
تربى في كنف عائلة عاشقة للقرآن، فأبوه، الشيخ صديق، وأخوه أحمد كانا من القراء البارزين، لكنه كان المتميز الذي صنع له طريقًا في قلوب الناس قبل مسامعهم.
كان المنشاوي يحمل في صوته عبق الريف المصري، بنقائه وصدق إحساسه، وحين تسمع له تلاوة، تشعر كأنك تتذوق حبات الندى الأولى في الصباح، رطبةً، حيةً، ومتجددة.
لم يكن مجرد قارئ؛ كان راويًا لحكايات الأنبياء، مبعوثًا ليعيد إلى الآيات طزاجتها الأولى، حيث تشعر أن كل كلمة تنبض بالحياة كما نزلت أول مرة.
تميز المنشاوي بأسلوبه العذب الذي يجعل المستمع ينصت بقلبه قبل أذنه، كان صوته يطوي الآلام ويلفها برداء الطمأنينة، وينساب كالنيل الذي احتضن نشأته، يحمل معه بركات الأرض ورقة السماء.
في تلاواته، لم تكن الكلمات مجرد حروف، بل جداول تفيض، تغمر السامعين بالسكينة، لكن وراء تلك الهالة من القداسة كان هناك إنسان، عانى ما يعانيه البشر، واجه مرضًا أنهك جسده، لكنه لم ينل من روحه، ظل الشيخ صامدًا حتى رحل عن عالمنا عام 1969، تاركًا خلفه إرثًا لا يُمحى، وحضورًا لا يغيب.
لقد كان المنشاوي قارئًا ليس فقط لآيات الله، بل أيضًا لقلوبنا، كان يجيد قراءة الحزن في مآقينا، واليأس في زوايا أرواحنا، فيرد علينا بتلاوة تقيم أودنا، وتمنحنا قوة نستمدها من إيمان عميق بأن القرآن حياة لا تعرف الفناء.
في صوته، تجد مصر القديمة بحضارتها، وصعيدها بتواضعه، وإسلامها بنقائه، كان المنشاوي صوتًا لا يعبر الزمن، بل يحتضنه، ويبقى خالدًا كآيات الله التي أحبها وعاش لها.