في صباح أحد الأيام المشئومة، دخل شاب ثلاثيني إلى قاعة المقابلات الوظيفية بالشركة التي ظل لسنوات يرغب في أن يكون جزءً من طاقمها، قلبه يعج بالحلم والرجاء بأن يحظى بتلك الوظيفة المرموقة التي طالما سعى إليها. تجول بعينيه بين المتقدمين، وإذا به يتوقف فجأة أمام أحدهم. شاب في العشرينيات، بوجهه ذاته في وقتها، عيونه التي كانت تلمع بنفس اللمعة التي طالما رآها في مرآته، وطريقة ابتسامته التي كانت تُشعره بشيء مألوف، حتى صوته عندما لبى نداء السائلين في الشركة هو ذات الصوت الذي يخرج من أحباله الصوتية، ربما كان شعورًا غريبًا، لكنه لا يستطيع تحديده.
• قصة الرجل والروبوت: كيف يمكن للتكنولوجيا أن تسرق المصير؟
توالت لحظات الارتباك قبل أن يتم الإعلان عن اختيار هذا الشخص بدلاً منه، ليتحطم حلمه أمام أنظاره، بينما تَسلَّل إليه شعورٌ غامض، كأنما اختُطف جزء من مصيره. ازداد فضوله، فلم يستطع أن يمنع نفسه من متابعة هذا الشخص بعد المقابلة. هل هو أحد أقاربه، لم ياقابله قط.. أم هو قرين آتى من الجحيم، أم أن هناك سرًا عميقًا يختبئ وراء هذا التشابه الغريب؟!.. قرر أن يكتشف الحقيقة.
وبعد أشهر من البحث والقلق، اكتشف الثلاثيني العمر الصدمة التي هزت كيانه: هذا الشخص لم يكن سوى روبوت، تم تصميمه خصيصًا ليكون نسخة محسنةً منه وأكثر علمًا، بمساعدة تقنيات متقدمة جعلت منه نسخة مثالية من شكله وصوته، وربما حتى من أسلوبه في التفكير.
كانت تلك التقنية تسعى إلى شراء ملامح الوجه والصوت، الذي قرر هو بيعهما قبل بضع سنوات لشركة تكنولوجيا في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي بمقابل آلاف الدولارات، ولم يكن يدري أن شخصًا آخر كان سيحل مكانه ليعيش حياة كان يظن أنها حقه وحده.
والآن، في تلك اللحظة المأساوية التي اكتشف فيها أن ثمن مستقبله كان مجرد بضائع في سوق التكنولوجيا، شعر وكأن خيوط وجوده قد تمزقت، وحياته التي كان يسعى إليها قد تم تزويرها لتصبح حكاية بلا معنى، وتمكنت منه مشاعر الغيرة والحقد ليعكف على التفكير في كيفية التخلص من هذا الروبوت، ولكن ياترى عندما يعرف الروبوت المتطور بمشاعر نسخته الأصلية، وأنه يشكل مصدر تهديد له، هل سيقف مكتوف الأيدي أم سيحاول هو الآخر التخلص منه بناءً على خوارزميات قد وضعت له من قبل الصناع، تتيح له قرار التصرف بناءً على ما يتنبأ به، ترى من يتفوق هنا في أن يقتل الأخرأولًا؟
• بيع الهوية: كيف يبيع الأفراد ملامح وجوههم وأصواتهم مقابل المال؟
المذكور سلفًا ليس جزءًا من رواية خيال علمي، أو حتى مشاهد من أفلام هوليوودية، وإنما هو ترقب لما هو متوقع في ظل استمرار تطور مراحل الذكاء الاصطناعي التوليدي، والذي تتمد خلاياه العصبية على جمع البيانات وترك المساحة للعقل بأن يتنبأ ويولد أفكارًا، وقبيل الوصول لمرحلة الذكاء الاصطناعي المعزز والتي منتظر أن تشهد تطورًا غير مسبوقًا تتيح له اتخاذ القرار.
قبيل أقل من عام كنا نسمع عن المؤامرات المحاكة ضد دول، تهدف إلى طمس الهوية سواء من خلال انفتاح سياسي مغرض أو عبر وسائل الإعلام والصناعات الفنية الموجهة أو حتى عبر منصات التواصل الاجتماعي، لكن يبدو إننا الآن قد تخطينا تلك المراحل وصولًا إلى عروض بيع الهوية رسميًا.
فلعل الجميع سمع عن بضع شركات تستهدف شراء ملامح الوجه والأصوات بغرض توظيفها في الذكاء الاصطناعي وصناعة الروبوتات بأشكال مختلفة، وربما خلال قرأتك لهذا المقال هناك مستخدم أخر لشبكة الإنترنت يبحث عن تلك الشركات من أجل أن يبيع ملامحه ويفوز بآلاف الدولارات، دون دراية منه، إنما هو بذلك يبيع هويته، وكون هذا يشكل تهديدًا في المستقبل القريب على البشر.
ومن أشهر هذه الشركات، حسبما ذكر موقع "Afro Tech"، شركة برومبوت المتخصصة في صناعة الروبوتات البشرية، حيث تقدم مبالغ مالية قد تصل إلى 200,000 دولار للأفراد الذين يرغبون في ترخيص وجوههم وأصواتهم لاستخدامها في الروبوتات التي تعمل في أماكن عامة مثل الفنادق والمراكز التجارية، وتستخدم هذه الروبوتات تقنيات مثل التعرف على الوجه والملاحة الذاتية.
وعلى جانب آخر – وحسبما ذكرت منصة "The Deeprief"، وكالة أور وان التي تسمح للأفراد بتقديم وجوههم لتحويلها إلى "شخصيات" مدعومة بالذكاء الاصطناعي. تُستخدم هذه الوجوه في إنشاء محتوى فيديو باستخدام تقنية "ديب فيك"، وتستخدم في التسويق والتعليم.
وتبني الشركة قاعدة بيانات متنوعة من الوجوه وتدفع للأشخاص الذين يتم استخدام صورهم من خلال مدفوعات صغيرة كلما تم استخدامها في مشروع معين.
وأيضًا من ضمن الأمثلة – وفق "futurism"، هناك شركة جيو ميك هي شركة ناشئة مقرها لندن تقدم فرصة للأفراد لبيع حقوق وجوههم لاستخدامها في الروبوتات البشرية، خاصة تلك التي ستُستخدم في رعاية كبار السن، ومن خلال هذه الصفقة، يمكن للأفراد كسب 125,000 دولار مقابل منح الشركة حقوق استخدام وجوههم في الروبوتات.
ورغم أن التفاصيل حول العقود التي تُبرم بين هذه الشركات والأفراد الذين قرروا بيع هويتهم مجهولة، إلا إنه يمكن التأكيد أن بعض هذه الشركات تضع ضمن شروط تعاقدها حقوق وحرية الاستخدام لهوية البائعين في المستقبل.
• الذكاء الاصطناعي وتحديات حماية الخصوصية والهوية مستقبلًا
ربما يكون تصوري حول مستقبل الروبوتات في الذكاء الاصطناعي مبالغ فيه ولا يصدق أو غير حقيقي بالمرة، ولكن في ظل التطور المتسارع لمراحل الذكاء الاصطناعي التوليدي، وهو ما يقرب الوصول إلى مرحلة الذكاء الاصطناعي المعزز، التي تتيح للشبكة العصبية للذكاء الاصطناعي لاتخاذ قرارات في أغلب أمور الحياة اليومية وفقًا للبيانات المخزنة والحسابات التي يقوم بها، والتي من المرجح وفقًا لتصريحات العاملين على تطوير منظومة الذكاء الاصطناعي أنفسهم، أن تكون غير مطمأنة والتي قد ينتج عنها بعض الأحداث المؤسفة.
المقصود ليس الاستغناء أو استبعاد تطوير منظومة الذكاء الاصطناعي، والحد من برمجتها، وإنما يجب التشديد على التقييد ووضع معايير ومواثيق دولية تضمن سلامة المجتمع وأمنه، وكذلك استبعاد الذكاء الاصطناعي من بعض المشروعات والأعمال التي لها أهمية استراتيجية، مثل صناعة الغذاء، وجميع عمليات التسليح بأشكالها، والتحكم في مصادر الطاقة وغيرها من أمور تمس حياة البشر وقد تشكل تهديدًا في حال السيطرة عليها، أو تعرض برمجياتها للتلف أو الاختراق.
رسالتي هنا، إلى كل قارئ لهذه الرسالة، إن أردت أن تسيطر على شيء فيجب عليك أن تتعلمه، فيلزم على الجميع أن يزيد من خبرته حول الذكاء الاصطناعي والتعرف على كل ما يطرأ فيه، من أجل القدرة على التكيف والمقاومة في حال خروجه عن السيطرة.
أقرأ المزيد
مخاوف ورسائل في عصر الـ"AI".. كيف هدد الذكاء الاصطناعي البشرية خلال أحداث لبنان؟