في بعض المجتمعات، وفي بعض الفترات، تظهر وتصعد ظواهر تحت مسمّى الفن أو الإبداع ..تطفو على السطح، ثم تتوارى بسرعة أو ببطء (بمنطق "الصرعات" أو "الموضات" المتغايرة من سنة لأخرى، ومن فصل لآخر).. ولعل هناك أسبابا كثيرة جدا، ومتنوعة وربما معقدة، لتفسير هذه الظاهرة التي لا تعجب بالطبع قطاعات كبيرة من "المجتمع".. فبعض هذه الظواهر، المنسوبة إلى الفن والإبداع، أو المحسوبة عليهما، قد تكون بعيدة عن روح الإبداع الحقيقية.. ويجب، ابتداء، التمييز بين مثل هذه الظواهر وتجارب إبداعية أخرى، حقيقية، اختبرت الأعراف والمواضعات الأخلاقية السائدة في بعض المجتمعات، واصدمت بها، وواجهت لفترة قصيرة نوعا من الرفض وأحيانا العقاب، ولكن في فترة تالية تم التعامل مع هذه التجارب بمعايير أخرى، وإعادة الاعتبار إليها (ومن ذلك رواية "عشيق الليدي تشاترلي" للكاتب البريطاني ديفيد هربرت لورنس التي نشرها في العقد الثالث من القرن الماضي).
كثيرون الآن، في مجال الموسيقي مثلا، يشعرون بالضيق الشديد، أو غير الشديد، إزاء موجة صعدت في بعض الأغاني التي حملت ما حملت من "إسفاف"، وارتبط بعضها بنوع من إثارة الغرائز تحت غطاء الفن..
وقد رأت كثرة من هؤلاء أن هذا ليس سوى نوع من "القبح" الذي يطارد الجمال.. ومنهم من ذهب إلى أن هذه الظاهرة ربما تتصل بظواهر أكبر، أو أكثر اتساعا، وأنها ترتبط بذائقة منتشرة أو متفشية تجد تمثيلات لها في التعامل مع تصميمات المباني وتنسيق الشوارع والميادين.. إلخ. ونحن نعرف حقائق عن تماثيل وضعت في بعض الميادين ثم أزيلت، أو واجهات تم تشويهها وتم إصلاحها.. إلخ..
والسؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: كيف تتوقف الآن هذه "الموجة"، أو كيف توقفت من قبل فيما كان يشبهها من موجات سابقة؟
والحقيقة أن هذه الموجة أو "المويجة" ليست جديدة تماما، إذ لها ميراث وتاريخ ممتد.. فهناك، في مجال الغناء والموسيقي، مثلا، موجة شبيهة تصاعدت في العقود الأولى من هذا القرن، مع أغان لم تكن بعيدة عن "الفجاجة" أو "الإباحية".. وإن كان هناك تفاوت بين الموجة القديمة والموجة القريبة الجديدة.. وجزء من هذا التفاوت مرتبط بأن هذه الموجة الجديدة مصحوبة ومقترنة بأدوات حديثة، تتخطى حدود التعبير بـ"الكلمات الخارجة" أو "السوقية" إلى توظيف مشاهد الصور والفيديوهات، وأنها تتدعم بوسائل توصيل سريعة وواسعة يصعب السيطرة عليها، وأنها ترتبط بمسميات ومعالم جديدة، منها ما يسمى بـ"الترند"..
وخارج مجال الموسيقي والغناء، في فترات تاريخية أسبق، كان هناك صعود لظواهر قريبة أو مماثلة، كان من نماذجها المتأخرة، خلال القرن التاسع عشر، بعض رقصات "الغوازي" و"العوالم"، وقد واجهن بعض العقوبات في فترة حكم محمد علي.
والحقيقة أيضا أن مثل هذه الموجات والظواهر التي تصعد في وقت عابر يمكن أن تهبط، لأسباب كثيرة مرتبطة بتغير السياقات، في أوقات أخرى.. فموجة "الغناء المسفّ" التي صعدت في العقود الأولى من القرن الماضي سرعان ما تراجعت بحضور مغنين ومغنيات وموسيقيين كبار القيمة... لا نزال نحب أغانيهم وموسيقاهم لا نزال نستمتع بها حتى الآن.
والسؤال، مرة أخرى، بتفصيل أكبر: كيف يمكن مواجهة مثل هذه الموجات؟.. هل هذه المواجهة تقتصر على جهود من مؤسسات الدولة، أم من الأفراد، أم من الأفراد الذين تحولوا إلى ما يشبه المؤسسات..
المقاومة من مؤسسات الدولة لها أمثلة واضحة.. ونحن نعرف جميعا، في مجال الغناء مثلا، حقائق عن ملاحقة بعض المغنين والمغنيات (أو المحسوبين والمحسوبات على الغناء) أكثر من مرة، خلال السنوات الماضية، وخلال فترات أسبق، وتوجيه الاتهامات إليهم وإليهن، فضلا عن معاقبتهم ومعاقبتهن لأسباب مرتبطة بانتهاك "أخلاق المجتمع"..
والمقاومة من الأفراد لها أمثلة كثيرة، وهي تتخذ شكالا متعددة من التعبير، منها الرفض، أو طرح الآراء الرافضة، أو حتى التجاهل، حول تلك النماذج التي يراها كثيرون بعيدة عن الذوق أو عن الأخلاق أو عن الجمال..
والمقاومة من "الأفراد/المؤسسات" لها تمثيلات عندنا، مع بعض الرعاة والمؤسسات التي تنظم بعض المسابقات المهمة، وترعى الجوائز الثقافية والفنية الجادة.. ولها تمثيلات أكثر وضوحا في الغرب.. ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك هناك، ما حدث بعد تراجع موسيقي "الريف الأمريكي"، حيث سعى بعض الرعاة، مثل "هنري فورد" صاحب الشركة الاقتصادية الشهيرة، إلى حماية هذه الموسيقي، بتنظيم المسابقات وبتقديم الجوائز الضخمة، وبـتأسيس مؤسسات الرعاية الفنية...إلخ .
طبعا كل هذه الأشكال من المواجهة أو المقاومة لها تأثيرها أو جدواها.. ولكنها جميعا تظل بحاجة إلى "استكمال"..
وأتصور أن هذا الاستكمال يتصل ببث روح الجمال، وبإشاعة وتنمية الذوق الفني، في المجتمع كله، بكل أطيافه، وفي كل مدنه وقراه.. وهذا يعني العناية بكل ما هو جميل، في ميراثنا، وفي تعليمنا، وفيما نشهده ونراه ونسمعه، وفي كل ما نقوم به ونفعله.. وباختصار، في أوجه حياتنا جميعا..فهذا كله يقود إلى حضور الجمال فيما نقوم به، وفيما نتعامل معه، وفيما نقدمه من إبداعات ومن أعمال تنتسب إلى الإبداع.
و لعل الجمال، في مسيرة التاريخ، ظل هو النهر الأبدي.. ولعل تمثيلات القبح أو الإسفاف كانت مجرد موجات أو "تموّجات" سطحية عابرة..