حازم حسين

سوريا بين خطأ الدولة وتعويم الميليشيا.. «نيو لوك» الجولانى لن يجعل الإرهاب بديلا للسياسة

الأحد، 08 ديسمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

قبل أُسبوعين فقط، لم يَكُن أحدٌ يتوقَّع ما وقع فى سوريا، والآن يصعُب استشرافُ مآلاته.. كلُّ الاحتمالات قائمةٌ، والمَقطوعُ به أنه لا عودةَ لِمَا كان، ولا للتوازُنات المُعلَّقة منذ سنوات. فوَّت النظامُ كلَّ الفُرص لإغلاق دفتر الحرب الأهليَّة، وتنتهزُ الميليشيَّات تعقيداتٌ الداخل والخارج لتحقيق ما عجزت عنه سابقًا.


أمَّا السوريِّون العاديّون فغائبون عن المشهد كما كانت العادة دائمًا، وقد لا يكونُ الفارقُ كبيرًا بين المُختصِمَيْن على خريطةٍ نازفة. السلاحُ وحده يحكمُ، والكوارثُ السابقةُ لم تُبقِ فيه بندقيَّةً وطنيَّةً خالصة؛ إنما يظلُّ من غير المنطقىِّ أن تتساوى الدولةُ بانحرافاتها، مع الإرهابيِّين مهما بالغوا فى إخفاء وجوههم القبيحة بمساحيق التجميل.


لم يَكُن الربيعُ العربىًّ بريئًا من التدخُّلات المُغرضة؛ لكنه لم يَنشأ من عَدَم. بالمنطق البسيط؛ لا يُمكن أن تنجحَ مُؤامرةٌ خارجيَّةٌ دون إسنادٍ محلىٍّ، وقد كانت صيغةُ الحُكم مليئةً بالشقوق والتناقُضات. أخطأ نظامُ الأسد فى بادئ الأمر، عندما عزلَ الغضبةَ الشعبيَّة عن مُثيراتها الاجتماعية والسياسية، فتطوَّرت إلى حربٍ أهليَّةٍ كاملة، ثمَّ أخطأ لاحقًا بالغَوص فى سرديَّة المُمانَعة؛ فضيَّع إمكانيَّةَ الحفاظ على ما تبقَّى، أو تقويض الأجندات العابرة للحدود.


كانت الخطيئةُ فى تعريف الثورة أوّلاً، ثمَّ ضبط النظرة لتقاطُعاتها الخارجيَّة، والانتقال من حيِّز السُّلطة الوطنية المُمتَحَنة بأعداء أيديولوجيين، إلى غريمٍ مذهبىٍّ يشتبِكُ فى حربٍ خارج إطار الدولة أصلاً. وحتى اللحظة، ما تزالُ المُعضلة فى التعاريف، وصراعُ الروايات أعمقَ وأشدَّ خطرًا من صراعات البنادق؛ وعليه تُدارُ اللعبةُ فى سياقٍ مُحرَّفٍ بالكُليَّة.


لم يَطرأ على المشهد ما يُغيِّرُ مُعادلاتِه القديمة. يقبعُ النظامُ فى دمشق مع سيطرةٍ على أغلب الساحل، وبعض مساحات الشرق والجنوب. الكُردُ مُستقرّون فى مناطق الإدارة الذاتية، وبقايا الجماعات الإرهابية تحكمُ إدلب وما حولها بغطاءٍ إقليمى. تركيبةٌ لا معنى لها إلَّا أنَّ ورشةَ الخراب قد أخفقت، بينما تتعطَّلُ وُرَشُ الإعمار والتسوية السياسية.


كان السياقُ يتطلَّبُ تنشيطَ الفضاء السورىِّ، وإخراجَه من حالِ الجمود لأُفق الحَلحَلة الناضجة. لكنَّ الأحكامَ نفسَها لم تتغيَّر: السُّلطة هَشَّةٌ وعاجزة، والشمالُ مُرتَكَزٌ لبقايا الإرهابيِّين، ولدى الأكراد طموحٌ فيدرالىٌّ لم يَنطفئ. ولا يُمكنُ لتحريكِ القِطَع على رُقعة الشطرنج أن يُغيِّر الحقائق الراسخة؛ بحيث تصيرُ الميليشيا فجأة لاعبًا سياسيًّا، أو وجهًا مقبولاً ضمن ترتيبات المستقبل.


تقدَّمتْ «هيئة تحرير الشام» خلال أيام لتقلِبَ الأوضاعَ تمامًا. سيطرَتْ على حلب وحماة، وتقترب من حمص وصولا لمدينة القصير، ما يعنى عزلَ دمشق عن طرطوس واللاذقية، وتطويقها مع إدارة المُحرِّكات فى درعا والسويداء جنوبًا.


الهدوء الرتيب لم ينفِ خطايا الأسد، ونجاحاتُ خصومِه حاليًا لن تمنحَهم وجهًا جديدًا يدَّعونه. نامَ قائدُ الحراكِ العنيف بكُنية أبى محمد الجولانى، واستيقظ باسمه الحقيقى: أحمد حسين الشرع؛ لكنَّه بالدماغ والتاريخ نَفسَيْهما، ولو تبدَّل الخطابُ بما يُناسبُ أحدث المحاولات لإعادة تعويم الأُصوليَّة المُسلَّحة. إنها مُشكلةُ التعريف من جديد.


لم يَكُن النظامُ طائفيًّا، صحيحٌ أنه استندَ لسُلطةٍ ترتكزُ على الأقليَّة العَلويَّة، لكنه كان مُنفتحًا على كلِّ التيَّارات بحساباتٍ سياسيَّة وعمليَّة. ومن دونِ تعسُّفٍ أو مُبالغة؛ فإنه امتزجَ بطبيعةٍ مذهبيَّة واضحة، عندما تفجّرت فى وجهه قنبلةُ الحركات السُّنيّة.


لعلَّه استعاد وقائع حافظ الأسد مع الإخوان فى حماة وغيرها، أو استشعر أنه فى حاجةٍ لدفء الشيعيَّة المُسلَّحة. المُهمُّ أنه عاندَ الشارعَ الغاضب؛ فداهمَتْه الراياتُ السودُ الطالعة من تُربةٍ مُعقَّدة التركيب، والمحمولة من وراء الحدود على رياحٍ سياسيَّة وحركيَّةٍ كانت تجوبُ المنطقةَ طولاً وعَرضًا.


صار التعريفُ من يَومِها واضحًا دونَ لَبسٍ: نظام ديكتاتورى عنيف ومُتسلِّط، وأَضف ما شئتَ من أوصاف، يُواجه مُسلَّحين مارسوا الإرهاب فى العراق قبل سوريا، وكانوا أداةً لقُوى وداعمين، قليلهم مجهول وأغلبهم معروفون بالاسم. والحلُّ على وجهه السليم، لا يُمكنُ أن يأتى بانتصارِ أحدِهما على الآخر؛ بل بهزيمتِهما معًا لصالح الدولة والشعب.


لا فارقَ بين الجولانى والشرع؛ إلَّا ما أرادَه منه رُعاتُه ومُشغِّلوه فى فَصلَىْ المسرحية. سيرةُ الرجل مليئةٌ البقع والفراغات، وإعادةُ تعويمه بنكهةٍ معدَّلةٍ أغربُ من نجاتِه طوالَ الفترات السابقة، مع وَفرةٍ فى التحوُّلات الخفيفة وغير المُبرَّرة.


عُرِفَ بالسلاح، وما يزالُ قابضًا عليه؛ لكنه يحاولُ أن يتحدَّث لُغةَ السياسة، وثمَّة أطرافٌ يُنفقون ببذخٍ شديد لتثبيت صورته الجديدة، ويعملون وفقَ استراتيجيَّةٍ إعلاميَّةٍ وَقِحَة؛ لإقناع الناس بأنَّ اللصَ المُحترِفَ قد تابَ وأنابَ، ويُمكنُ أن يُنَصَّبَ أمينًا على خزائن البلاد. الطائفىُّ صار مَدنيًّا بطرحٍ يُشبه المُواطَنَة، ولا أحدَ يتوقَّفُ أمام البُقع الظاهرة فى ثَوبِه وخطابِه، أو يسألُ عن مصالحه الشخصيَّة التى قادَتْه للتلوُّن غيرَ مَرَّة، وبطبيعة الحال مصالح من يُحرِّكونه بالخيوطٍ كعرائس الماريونيت.


«الشرعُ» إرهابىُّ عتيد. عبرَ حدودَ العراق فى 2003 لينخرِطَ مع «القاعدة»، وكان قريبًا من الزرقاوى، ثمَّ من البغدادى لاحقًا. رقَّوه وأمَّروه، وقاتلَ وسُجِنَ، ثمَّ عاد مندوبًا عن تنظيم بن لادن فى سوريا. بدّل كُنيتَه أربعَ مرَّاتٍ خلال عقدين، وبدَّل الولاء والتنظيم أيضًا.


وإذ بايعَ «الزرقاوى» لمصلحةٍ ظرفيَّة سابقًا، تمرَّد على بيعة «البغدادى» بعد شراكته فى إرساء نواة «الدولة الإسلامية فى العراق»، الذى صار «داعش» لاحقًا. لم يُفهَم هل كان مُعترِضًا على الخليفة أم الخلافة ذاتِها؛ لكنه أسَّس جماعتَه الخاصّة «جبهة نُصرة أهل الشام» وظلَّ على مُعتقَدِه القاعدىِّ.


بعدها تحوّلت الجبهة إلى «فتح الشام»، وقطعَ صِلتَه بالقاعدة، ثمَّ أخيرًا «هيئة تحرير الشام» بمزيجٍ من الميليشيات المُخلَّطة عِرقيًّا. مُتواليةٌ من عمليات التحوير وإعادة الإنتاج؛ حتى وصل إلى الصورة الأخيرة: «براندينج» بعلامةٍ تجاريَّة جديدة للحركة، و»نيو لوك» باسمٍ ومَظهرٍ جَديدَيْن للقائد.


التحوُّلات العقائديَّة والفِكريَّة لا تحدُث بتلك السرعة والتكرار. ربما لم يَكُن مُؤمنًا بأىٍّ من الأفكار الجهادية، والمسألة لم تتجاوز الانتهازيَّة ومحاولة بناء مشروعِه الخاص من أنقاض سابقيه. أو كان خفيفَ العقل والرؤية فاجتُذِبَ لمساراتٍ لا تُوافقه، وتمرَّد فى كلِّ مرَّة كان يستكملُ معارفَه ويتجاوزُ المُراهقةَ. وهذا يُثير الشكوكَ فى نُسختِه الجديدة أيضًا؛ إذ لو كان براجماتيًّا فلا معنىَ لِمَا يقولُه اليومَ، ولو كان انطباعيًّا هَوائيًّا فإنَّ شكلَه الحالىَّ لن يكون الأخير!


والحال؛ أنّه أطولُ عُمرًا من أسلافِه جميعًا، وهذا ما يكشفُ ربَّما عن مُرونةٍ، أو عن قُدرةٍ عظيمةٍ على التلوُّن والخداع. إنما المُؤكَّدُ أن داعميه عَلنًا وسِرًّا، رَأوا فيه ما لم يَروه فى الآخرين، وأَمِنوا على استثماراتهم معه، أو يُمسِكون عليه من الأوراق وخطوط الرَّجْعة ما يَسمحُ بترويضه، وضمان ألَّا يتمرَّد عليهم كما فعل مع سادَتِه السابقين.


وعلى أىِّ وَجهٍ تُقلِّبُ الصورة؛ فلنْ تجِدَ إلَّا إرهابيًّا أكثرَ ذكاءً من مُنافسيه الراحلين والباقين، وفى أفضل الأحوال هو أداةٌ جيِّدة لتلقِّى التوجيهات وتنفيذها؛ ما يجعلُ المشروعُ فى شِقَّيه الحركىِّ والسياسىِّ مُجرَّدَ جولةٍ ضمن لعبةٍ عابرة للحدود، وليس مشروعًا وطنيًّا، ولا حتى دينيًّا، صافيًا من الاستتباع والتوجيه.


تُرتَكَبُ جريمةٌ لا يُمكنُ قَبولها؛ ناهيك عن غفرانها، عندما تنحازُ بعضُ المواكبات الإعلامية لتحرُّكات الأُصوليَّة المُسلَّحة بخطابٍ مفاهيمىِّ مُلوَّث. لا معنىَ لوَصف ميليشيا بأنها «مُعارضةٌ مُسلَّحة»؛ لأنَّ حضور المُعارَضة يستدعى المُوالاة، ويُسيِّجُ الطَّرفين بحدودِ الدولة الوطنية.


ومن صِفات الدُّوَل أنها تحتكرُ العُنف، وتُدارُ صراعاتُها تحت سقف الاحتراب السلمىِّ. صحيحٌ أنَّ سوريا دخلت طَورَ الدُّول الفاشلة منذ سنوات، وتلك الحقيقةُ تُجبرُ الجميعَ على إعادة النظر للسياسة برؤيةٍ مُحدَّثة؛ إلَّا أنها لا تُغيِّرُ الركائز المفاهيميَّة الثابتة بشأن السُّلطة واختصامها، كما لا تُحوِّل العصابةَ جيشًا شرعيًّا، ولا تمنحُ الإرهابَ وَجهًا مقبولاً تحت أيَّة ذريعة.


الوَصفُ المُضلِّل تعتمدُه وسائلُ إعلامٍ عربيَّة ودوليَّة. مع ضَخٍّ كثيفٍ لتثبيت الفكرة، وتحويطِها بالحديث عن السلوك المُنضبط فى المناطق المُستولَى عليها، وعن ترحيبِ المدنيِّين بالفاتحين؛ كما لو أنهم قادرون على الاعتراض أصلاً، أو أنَّ ضِيقَهم من النظام يُمكِنُ تفسيرُه لصالح بديلِه الأُصولىِّ الصاعد، بما يُمهِّدُ البيئةَ لسُلطةٍ خارجة من رحمٍ عقائدىٍّ مُتطرَّفٍ وإلغائىٍّ.


الجولانى نفسُه خرج فى حوارٍ مع CNN قبل يومين، مرَّر فيه الرسائلَ المُعدَّة له من وَكيلِه الإعلانىِّ، وطالب بالنظر فى أفعاله لا أقواله. بدا السياقُ أقربَ لعملية تلميعٍ على طريقة شركات العلاقات العامة، واستجاب لها البعضُ، حتى فى دُوَلٍ ومنصَّاتٍ تُخاصم الرجعيَّةَ وعصاباتها المُسلَّحة، داعين للتوقُّف عن مُحاكمة تاريخ الرجل وجماعته، اكتفاءً بما آلوا إليه فى حاضرهم؛ كما لو أن انضباط أسبوعين يغنى عن انحراف عقدين، أو أنَّ صحيفةَ السوابق الطويلة قد تُشطَبُ بابتسامةٍ وعبارةٍ مُنمَّقة، ومن دون مُساءلةٍ عن جرائم ماديَّة، وعن حقوق البلاد والعباد المُهدَرة.


الاستقبالُ المُوشَّى بحفاوةٍ بالغة، يَشى بمَقبوليَّةٍ تحقَّقت للجماعة فى أوساطٍ إقليميَّة ودوليَّة واسعة. تختلفُ حساباتُ الأطراف؛ والمؤكَّد أن استفاقة ميليشيات إدلب تُحقِّقُ مصلحةً مُشتركةً لها جميعًا. من تقويض نظام الأسد، والخَصم من الحضور الروسىِّ والإيرانىِّ، إلى تأجيج المنطقة ووَضْع الإدارة الأمريكية الجديدة أمام استحقاقٍ لا يُمكن تجاوزه.


والواضحُ من حجم العملية وتكتيكاتها، وطبيعة التأهيل والتسليح، أنها سابقةُ الإعداد والتوافق بين جهاتٍ عدَّة، ولم تكن مُفاجِئةً إلَّا لدمشق وحُلفائها المُقرَّبين. ربما تلاقت الحساباتُ مع هزيمة حزب الله، وتآكُل رصيد الشيعيَّة المُسلَّحة بعدما تعرَّت فى الميدان، وعجزت عن تفعيل «وحدة الساحات»؛ لكنه التلاقِى الذى يُسرِّعُ الإيقاعَ أو يُعدِّلُ الأهدافَ فحسب، وليس مُنشِئًا لقرار التحرُّك؛ وقد توافرت ظروفُه المُلائِمَة قبل شهورٍ طويلة.


مؤخَّرًا، أخطر بايدن الكونجرسَ الأمريكىَّ، بأنه أمر بتوجيه ضرباتٍ مُباشرة لأُصولٍ وتمركُزاتٍ إيرانيَّة فى سوريا. وقد نُفِّذَتْ ضَربتان: الأُولى فى 11 نوفمبر بعدما اتَّضحت ملامح الكارثة اللبنانية، وتسارعت جهود البحث عن صيغةٍ لوَقف الحرب، والثانية قبل 24 ساعةٍ فحسب من إنفاذ الاتفاق جنوبىَّ لبنان، وبدء حركة الميليشيا من شمالىِّ سوريا، ولا يُمكن الاكتفاءُ فى التفسير بأنها مُصادفةٌ عابرة. باختصار؛ يبدو أنَّ واشنطن تطوَّعت بالتمهيد النيرانىِّ للجولانى.


كان القائدُ الميليشيوىِّ فى تحوُّلاته السابقة يلعبُ لحسابِه؛ أمَّا اليوم فيبدو أنه ينوبُ عن آخرين. كلامُه فيه ما يعجب الناس؛ لكنه يُثيرُ الانزعاجَ بالدرجةِ نفسها. فليس مَنطقيًّا أن يقولَ رجلٌ ضيَّع عُمرَه فى الارتزاق حتى دشَّن تنظيمَه الخاص؛ إنَّ «هيئة تحرير الشام» وسيلةٌ لا غاية، وسيُعلِنُ تفكيكَها بعد تحقيق الهدف المقصود، على وعدٍ بتسليم السُّلطة لهيئةٍ مُنتخَبَةٍ من الشَّعب.


المُؤكَّد أنه لن يتحوَّل عاطلاً بإرادته، كما لن يكتفى بصفة «الأب الروحىِّ» للدولة الجديدة. البديل أن يكون على رأس السلطة المدنيَّة، وتكتملُ الصورةُ بحديثِه عن دولةٍ إسلاميَّة؛ وإن ادَّعى أنها ستحترمُ الأقليَّات وترعى حقوقَهم.


الواقعُ ليس وَرديًّا تمامًا؛ فالهيئةُ مَزيجٌ من أخلاطٍ عرقيَّة وحَركيَّة، وليس مَقطوعًا بأنها جميعًا تتلاقَى على رُؤيته، فضلاً على ما يُعرَفُ بالجيش الوطنىِّ، ويعمل شرقًا بمعزلٍ عن تحرُّكات مُقاتليه، والأهمّ أنَّ المُرتكَزات الفكرية التى ينطلقُ منها لا تُبشِّرُ بمَدنيَّةٍ مُواطَنِيَّة حقيقية، وأقصى ما يُؤمَلُ منها أن تكون نسخةً مُنقَّحةً من العهود الذِميَّة.


يتحدَّثُ عن الشام لا سوريا، والمفردةُ الآتيةُ من قَعر العصور الوسطى، أو على الأقل مرحلة الخلافة العثمانية وما قبل الدول الوطنية؛ إنما تُعبِّرُ عن رُؤيةٍ ماضويَّةٍ للجغرافيا، وللبشر بالتبعية. ولأجلِ التأطير المُنضبط فلنَنظُر للحدثِ من زاويةٍ أوسع: لقد وجَّه بندقيَّتَه للنظام فى بَلدٍ مُحتَلّ، ولم تستوقفه كُنيَتُه المنسوبة للجولان أمامَ العدوِّ الإسرائيلىِّ، بل لم يَأتِ على ذِكرِه ولا أشار للأرض السَّلِيبَة، مُقابلَ أنَّ حُلفاءه فى الجيش الحُرِّ تحدَّثوا عن تطلُّعهم للسلام مع تل أبيب، دون ذكرِ الهضبة أيضًا، ما يعنى التصالح على شرط الأسد؛ بفارقِ أنه لم يتوقَّف عن توصيف الاحتلال بالصفة الحقيقية، ولو لم يُترجِمْ مَوقِفَه سُلوكًا عمليا مُثمِرًا.


والقَصدُ؛ أنَّ الهيئة وقائدَها وشُركاءها ينطلقون من أرضيَّةٍ أُصوليَّةٍ عتيقة، تُقدِّمُ العدوَّ القريب على البعيد، وترى النظامَ فى دمشق أخطرَ من الصهاينة على تخوم القُنيطرة. ولو مَدَدنا الخطَّ؛ فإنها بشارةٌ بدولةٍ لن تكون الأقليَّاتُ فيها أكثرَ من خوارجَ ضالِّين، أو ذِمِّيّين مَهضومِى الحقوق، وبهذا فلن تقلَّ رداءةً عن نظام البعث، بل ستفوقُه؛ على الأقل لناحية تقعيد الانحرافات السياسية بنصوصٍ مُقدَّسة.


ابتدعَ النظامُ بين جُملة خطاياها، ما اعتبر أنه يُمثِّلُ «سوريا المفيدة». كان هذا أوَّلَ مسمار فى خشبة التقسيم؛ لأنه اكتفى بالساحل وعُمقه الحيوىِّ وصولا للعاصمة، عن بقيَّة الدولة من شمالها للشرق والجنوب. وما دام اتّصال دمشق مع طرطوس واللاذقية قائمًا فكأنَّ المُعادلة لم تتغيَّر؛ لكنَّه يُواجه خطرَ القَطع العَرضىِّ من حمص إلى القصير. وهذا معناه خَنق النظام؛ ولو ظلَّ مُتحصِّنًا فى عاصمةٍ مَنيعة؛ لكنه لا يقضى بالسقوط الحتمى أيضًا.


نُظر لرحيل «بشَّار» على أنه واقعٌ نهائى مرَّتين: 2011 ثم 2015، ونجا منهما بالحرب الأهلية أوَّلاً، ثمَّ بالإسناد الروسىِّ. اليومَ تنشغلُ موسكو فى أوكرانيا، وهى غاضبةٌ من مكابرة حليفها والتصاقه مع إيران، والمعركة تجاوزت فاعلية الطيران الحربى، ولا سبيل لتعديل الأوضاع إلَّا عبر قواتٍ برية لا يملكها النظام، ولن يُوفِّرها الحلفاء غالبا. بينما قال رُعاةُ الميليشيا إنها ذاهبةٌ لآخر مدىً، بمعنى أنها لا تستهدفُ تعديلَ الخرائط وتحسين الشروط بالضغط؛ بل تسعى لإزاحة السلطة والحلول بدلاً منها.


حوارات الكواليس على آخرها، عبر آليَّة «أستانا» وغيرها، وبديهىٌّ أنَّ من يَمنحَ الضوءَ الأخضر، بإمكانه إضاءة الأنوار الحمراء. وبهذا يبدو التعقيد مرُكَّبًا للغاية، ويصعُب استشراف ما سيؤول إليه؛ من أوَّل بقاء الأسد فى طَوقٍ من النار، وحتى جلوس «الجولانى» على مقعد البعث، وإنهاء ثمانية عقودٍ من عُمر الدولة الوطنية فى سوريا.


يُمكن الحديث عن المُؤامرة قطعًا، اليوم ومنذ موجة الربيع الأولى فى شتاء درعا؛ لكن هذا لا يصرفُ النظرَ عن حقيقة غباء السلطة وسوء إدارتها، ولا الإخفاق الشنيع فى كلِّ المحطات التى كان يُمكن استغلالُها للإصلاح وترميم الدولة. بالضبط مثلما لا يكفى وَجهُ الجولانى الجديد عن ماضيه الأسود؛ حتى لو كان صادقا اليوم، أو لو سلَّمنا بأنه كان براجماتيًّا منذ خطوتِه الأُولى.


الملابسُ العصرية واللحية المُشذّبة، واللسان المُهذّب بمقاييس رجال الدعاية والتسويق السياسى، لن تمسحَ صورة الإرهابىِّ الكافر بالدولة ومُكوِّناتها، وميراثها المُتراكم فى بناء هويَّةٍ وطنية جامعة، تذوب فيها الطوائف والأعراق، ولا ينسجمُ تعريفها من قاموس الشام الملحق بعثمانية سقطت فى بيئتها، وصارت من الماضى الذى لا يقبل الابتعاث ولا إكراه الناس عليه مجدَّدًا.


كوارثُ النظام لا تُبرِّرُ جرائم الميليشيا، والتحاقه بالأُصوليَّة الشيعية لن يكون مُسوِّغًا مُقنعًا لاستبداله بأُصوليَّةٍ سُنيَّة. إذ الأخيرةُ يتحقَّق فيها معنى الطائفية والإلغاء بأكثر مما كان لدى البعث، وتزيد بالعمالة والإرهاب. صحيح أنها تحاول التصرُّف الآن كدولةٍ مُنضبطة؛ لكنها أقربُ لذئبٍ يتخفَّى فى فَرو خروفٍ، ولطابورٍ خامس يتقدَّم إلى عُمق الدولة؛ ليقوضها من داخلها، ولا تنفعه عمليات التجميل ولا دعايات «سَورَنة» التنظيم وعصرنة الرجعية الدينية. كما أنَّ وضعَ زعيمه مُلتبسٌ غاية الالتباس، ولو رفعته واشنطن من قائمة الإرهاب وبرنامج مكافآتها السخى.


تفاهمات الأسد مع إيران وصمة؛ لكنها لا تصبح ميزةً حينما تكون بين الجولانى والغرب، أو مع غيرهم من الجيران ذوى الأطماع، وتتعقَّدُ المسألة أخلاقيًّا وسياسيًّا بالنظر إلى أن الحصيلة تتلاقى مع حديث نتنياهو عن «شرق أوسط» جديد، بأكثر ممَّا تنقطع عن دعايات الشيعية المُسلَّحة عن المُمانَعة ووحدة الساحات.


لن تستقيم البيئةُ الهَشَّة مع أدواتٍ مُصنَّعة خارجيًّا، ومُخلَّطة عِرقيًّا، ولديها عداءٌ مَبدئىٌّ وراديكالىٌّ مع فكرة الدولة. إعادة تعويم الإرهاب لعبٌ بالنار، وخديعةٌ سترتد على أصحابها لاحقًا. وإذا كانت خطيئة دمشق أنها تجاهلت الداخل، وأسَّست حساباتها كلَّها على الخارج؛ فالهيئةُ لا تفعلُ شيئًا آخر، بل إنها آتيةٌ بكاملها من وراء الحدود أصلاً، على معنى التأسيس والرعاية وباقة الأهداف؛ ما يعنى أنه مجرَّد فصل جديد فى المشكلة، ولن تكون حلاًّ على الإطلاق.


يُمكنُ أن يبقَى الأسد بتفاهماتٍ ثقيلة تحت الطاولة، وضغوطٍ سياسية لتطويع الرُّعاة، ويمكن أن يرحل أسرع ممَّا يتخيَّل هو وداعموه؛ لكن هذا لن يُشرعِنَ «الشرع» أو يجعله بديلاً مثاليًّا.. لا مُقارنةً أصلاً بين الدولة الوطنية بكل انحرافاتها، والصِّيَغ الرعوية الأُصوليَّة المُلوَّنة طائفيًّا والمحمولة على مشروعيَّةٍ سماويَّة ونصيَّة. كان النظام رديئا؛ ولكنَّ خصومَه الحاليين أردأ. وعلينا أن نُسمِّى الأشياء بمُسميَّاتها الحقيقية، بمعَزلٍ عن التعقيدات والمآلات: إنها ميليشيا إرهابية وليست مُعارَضة مُسلَّحة، وتخوضُ فصلاً من معارك الأُصولية والحروب الأهليَّة وليس حراكًا ثوريًّا، والشيعيَّةُ المُسلَّحة سيئة، ونظيرتها السُّنيَّة أسوأ. ورعاةُ الاثنتين تجَّار عُنفٍ ودم، ولا تُبرِّرُ جريمةُ أحدهما ما فى صحيفة الآخر من جرائم؛ فلنُعِد الاعتبار للمفاهيم؛ حتى لا يكونَ السياقُ عشوائيًّا على الأرض، وسائلاً فى العقول والأفهام.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة