عندما تأسست جماعة الإخوان سنة 1928 راهنتْ على فكرة غرس ثقافتها الظلامية فى عقول المصريين، وعاش قيادتها وأعضاؤها وَهمَ القدرة على نشر أدبياتها ودستورها القائم على أمرين رئيسيين، الأول نشر منهج ورسائل وسيرة حسن البنا، وكأنه مرسل من السماء، والثانى، عدم الاعتداد بفكرة الوطن، وتكسير مفهوم الوطنية والانتماء للوطن بحدوده المتعارف عليها، ورايته الموحدة، ولذلك كان تدشين مصطلح العار «وما الوطن إلا حفنة من تراب عفن» وأن الهدف الأسمى بالنسبة لهم، السيطرة على العالم، تحت مسمى «أستاذية العالم»!
وفى سبيل ذلك، بذلت الجماعة جهودا مضنية لترسيخ ثقافتها على جدران ذاكرة المصريين، بشكل عنيف دامٍ، متناسية أن تنظيمًا عمره لم يتجاوز 100 سنة، فاته - نتيجة عدم القدرة على التحليل وقراءة التاريخ وإمكانياته المعرفية المهترئة - أن شعبًا وعيه وثقافته تشكلا على التنوير والحضارة، منذ أكثر من 5 آلاف سنة، لم يتأثر فيها بثقافة استعمارية واحدة وفى أى مرحلة من مراحل تاريخ مصر، وأن مصر مهما سكن الاستعمار أحشاءها سنوات طويلة، فإنها كانت تؤثر ولا تتأثر، رغم ما مرت به من مراحل ازدهار وانهيار، صعودا كان أو هبوطا، فقدت تقدمت وازدهرت فى عصر الدولة القديمة، ثم تراجعت فى عصر الاضمحلال الأول، ثم نهضت وصارت قوية فى الدولة الوسطى، ثم مرت بعصر الاضمحلال الثانى، ثم عادت غولا، وصارت إمبراطورية كبرى مترامية الأطراف، فى عصر الدولة الحديثة، واستمر الحال حتى العصر الحديث، ثم التاريخ المعاصر.
فى كل هذه المراحل، كان المصريون، يعزفون سيمفونية التنوير القائمة على الرسم والنحت والنقش والموسيقى، جنبا إلى جنب مع تقدم علمى مذهل فى الكيمياء والطب والعمارة، بينما كان العالم يئن تحت وطأة الجهل والظلام، لذلك شكلوا حضارة عظيمة الأثر، توارثتها الأجيال جيلا بعد جيل، ويقف العلم - حتى كتابة هذه السطور - عاجزا عن إيجاد وسيلة تسهم فى معرفة الإعجاز الحضارى للمصريين، وتفك ألغاز وأسرار حضارتهم، لدرجة أن أسرارها تتصدر يوميا صدر صفحات الصحف العالمية، ونشرات الأخبار فى المحطات التليفزيونية الدولية الشهيرة، وسيطرت على أفئدة شعوب العالم، المتقدم منها وما ينتمى لدول العالم الثالث، كما ألهبت عقول شخصيات مؤثرة حاليا على الساحة الدولية، من عينة الملياردير، وصاحب الأفكار والإبداع التكنولوجى، إيلون ماسك.
المصريون، بدأوا الحكاية منذ وجودهم مع وجود الكون، واستطاعوا أن ينتقلوا من الحياة البدائية والهمجية، إلى الضمير الإنسانى، قبل نزول الأديان السماوية بـ2000 سنة، وفق الشواهد الأثرية والوثائق التاريخية، وهو ما أكده عالم الآثار والمؤرخ التاريخى، الأمريكى الشهير، جيمس هنرى برستيد، فى كتابه الأشهر، «فجر الضمير»، الصادر فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى، وتوصل المصرى القديم، إلى فكرة البعث والحياة الأخرى والوحدانية، واستعد لها دينيا، عندما أقام المعابد للتعبد والصلاة، والمقابر للدفن.
هذه الثقافة الحضارية التنويرية المبهرة، قامت على أكتاف الإنسانية والقيم الأخلاقية والسماحة، وإعلاء مصلحة الوطن فوق كل المصالح، وأن الوطنية والانتماء، جوهرها، وسر عظمتها، لذلك مصر الدولة الوحيدة على سطح هذا الكوكب التى تحتفظ بحدودها منذ أن التصق وجودها بوجه وجود الكون، وأنها أدركت مبكرا ضرورة تأسيس جيش قوى، قادر على الحماية والردع، وهو ما تحقق قبل تدشين المؤسسات، والتقسيم الإدارى، أى مع بدء الوحدة، بين الشمال والجنوب، على يد الملك مينا.
هذه العقيدة الحضارية، وجوهرها الوطنية والانتماء، أعلت من شأن وحدة التراب الوطنى، ولفظت كل الجماعات والميليشيات التى حاولت أن تجد لها موطئ قدم فوق الأراضى المصرية، ولم تستطع، وظل الشعب المصرى يقف حجر عثرة لكل من يحاول أن تسول له نفسه من جماعات وتنظيمات وميليشيات مسلحة، أن تفرض وجودها، فكريا أو بالعنف والقوة، وتجلى المشهد فى التاريخ الحديث، عندما استخرج المصريون من مخزونهم الثقافى والحضارى فى 30 يونيو 2013 الكثير، لينتفضوا ضد جماعة الإخوان، ومن على شاكلتها، من الذين كرسوا كل جهودهم لغرس ثقافتهم الظلامية بالقوة، وتغيير وجه مصر التنويرى وإعادته إلى ما قبل عصور الظلام، فى اختطاف للوطن، فكان الخروج العظيم، والمشهد المهيب الذى ملأ شوارع مصر فى كل نجع وقرية ومركز ومحافظة، والتقديرات الأولية أشارت إلى أن عدد المصريين الذين انتفضوا ضد الجماعة وأفكارها 33 مليون، واعتقادى الشخصى، ووفق متابعة دقيقة حينها، فإن عدد الذين خرجوا رافعين راية العصيان، وكروت الطرد الحمراء للجماعة، تجاوز ذلك الرقم بكثير.
المصريون، دشنوا سيمفونية حضارية وتاريخية منذ آلاف السنين، ومستمر عزفها حتى كتابة هذه السطور، وسيستمر العزف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وعنوان السيمفونية: «نرفض وجود جماعات وتنظيمات وميليشيات مسلحة فوق أراضينا» وأن تراب هذا الوطن طاهر لا يمكن أن تدنسه جماعات وميلشيات ملطخة أيديها وأقدامها بالدماء، كارهة للتنوير والتقدم والبناء والازدهار.
الحضارة المصرية «بناؤها» الفكرى قائم على الوحدة والتماسك، والإبداع والتنوير وعشق الفنون بكل أنواعها، والتسامح، والانفتاح على العالم، بجانب عقيدتها الجوهرية، البناء والتعمير، وكراهية الفُرقة وتحريم القتل والخراب والدمار، وهى سيمفونية عظيمة ومستمر عزفها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.