كما تعودنا فى هذه المساحة، لا نبدى رأيا منسوجا من الخيال، ولا نحاول إيجاد مبررات غير منطقية لأى حدث، أو فعل أو قرار، وإنما رسخنا فى هذه المساحة إعلان الحقائق المجردة، وفق المعلومات وربط الأحداث بعضها ببعض، من باب التفكير والتدبير، ما يمنح مساحة كبيرة من الاستنارة وإزاحة الكثير من الجوانب الغامضة والملتبسة فى المشهد، بلغة بسيطة ودون تعقيد، انطلاقا من ذلك، نرصد الوضع فى سوريا، وفق تصريح قديم لمؤسس جبهة النصرة، محمد الجولانى- قبل أن يعود لاسمه الحقيقى- عندما أكد أن 30% من قوام تنظيمه الذى يقاتل فى سوريا من الأجانب، وذلك فى حوار كبير على قناة الجزيرة، أى أن التصريح مسجل صوتا وصورة!
ووفقا للقاعدة القانونية الشهيرة، الاعتراف سيد الأدلة، فإن اعتراف المؤسس للميليشيا الأهم، والشخصية الأبرز حاليا فى سير الأحداث على الساحة السورية، الذى استضافته أهم محطة تليفزيونية دولية الـ«سى إن إن» منذ أيام قليلة، فإن اعترافه بوجود ميليشيات أجانب يقطع الطريق أمام أى اجتهاد أو تبرير أو تشكيك بأن الذى يحارب فى سوريا أجانب، مما يقرب من 50 جنسية إلا قليلا، وفق إحصائيات مختلفة لمراكز بحثية ودوائر استخباراتية ووسائل إعلام قريبة من الأحداث المؤلمة فى سوريا.
اعتراف «الجولانى» الذى كان يظهر بكنيته وليس اسمه الحقيقى، لم يقتصر على تحديد أعداد الأجانب المقاتلين فى فصيله، وإنما حدد جنسياتهم، وقال: «لدينا مقاتلين من أمريكا وأسيا و روسيا والشيشان»، والحقيقة أن هذه الجنسيات هى التى تذكرها فى تصريحاته المتلفزة، بينما هناك جنسيات لم يذكرها، مثل القادمون من طاجيكستان وأفغانستان وأوزبكستان وألبانيا وباكستان والإيجور- والأخيرة تضم مواطنين فى منطقة شينجيانج ذاتية الحكم فى الصين- بجانب عدد كبير من المتطرفين الفارين الحاملين لجنسيات عربية.
مصادر متعددة ذكرت عدد الأجانب من أكثر من 50 جنسية، يصل عددهم بعشرات الآلاف، وهم من المقاتلين الشرسين، تركوا بلادهم وذهبوا للقتال فى سوريا، تحت عنوان مأساوى، وهو «تحرير سوريا»!
اعتراف مؤسس جبهة النصرة التى تغير مسماها إلى «هيئة تحرير الشام»، والمحرك والقائد الفعلى لما يحدث فى سوريا الآن، محمد الجولانى، بأن مقاتليه من الأجانب، يدحض فكرة ما يسمى بالثورة والثوار والمعارضة الوطنية، فلا يمكن القول إنه يأتى منتخب العالم للإرهاب، مما يقرب من 50 جنسية، تركوا بلادهم ليقاتلوا فى وطن غير وطنهم، ثم مطلوب منا كشعوب أن نعترف بل ونصدق أنها ثورة ومعارضة!
هنا يجب تصحيح المفاهيم، ولا يمكن أن نقع فريسة لجريمة انتهاك أنساب المفاهيم، فما يحدث فى سوريا حربا بالإنابة تقودها ميليشيات مسلحة، دستورها القتل والدمار والخراب، لا يعنيها سوريا كوطن متماسك موحد قوى، ولا السوريين كشعب له حق أن يحيا أمنا مستقرا فوق تراب بلده، وأن هذه الميليشيات تقتل لمن يدفع بسخاء، ولديها استعداد أن ترتمى فى أحضان الشيطان من أجل المال، ولمن يحاول قلب الحقائق والتأكيد على أن ما يحدث فى سوريا ثورة، فهو كاذب أشر، ولا يقل خطورة عما يقاتلون من ميليشيات ومرتزقة.
الدليل الآخر على أن المقاتلين فى سوريا من الميليشيات المسلحة الأجنبية، أن هناك الملايين من السوريين الذين فروا من بلادهم ولاجئين فى معظم بلاد الدنيا، وأن المتبقين من المغلوبين على أمرهم ومتمسكين بالوجود، ومن فاتتهم فرصة الهروب من نيران الميليشيات.
الأخطر، أن ما يحدث فى سوريا حاليا أزال الخطوط الفاصلة بين مسمى الميليشيا والدولة، وزادها غموضا والتباسا، بجانب أن وصولوها إلى العاصمة دمشق وخلال أيام قليلة، وأن تسقط البلاد فى يد هذه الميليشيات أمرا يدعو إلى ضرورة اليقظة والانتباه بأن هناك تحول نوعى فى طريقة عمل هذه المليشيات والجماعات والتنظيمات.
الميليشيات فى سوريا عادت فى شكل جديد، مختلف، متجملة بقناع الاحتواء والمدنية ورجال الدولة، وليس إرهابيين متطرفين، فهى تقدم الخدمات العامة، وتسيطر على الأمن، وتوفر الموارد التى تخلق شعورا بالطمأنينة.
والواضح أن هذه الميليشيات تلقت تدريبا عالى المستوى، فى تغيير النهج واستراتيجية التعامل، على يد من يحركهم باحترافية، ولا يمكن أن تأتى هذه التغييرات إلا على يد دول محركة لها، فالأداء احترافى عالى المستوى.
ملخص الحقائق الثابتة الواضحة المستخلصة من الأحداث فى سوريا، أن الاستعانة بأى أجنبى فى الشأن الداخلى للأوطان، مرفوض، وتندرج تحت خانة «الخيانة» وأن محاولة تجميل الاستعانة بأجانب من ميليشيات مسلحة، بأنها ثورة ومعارضة، هو تجميل وقح وأكثر فجاجة من مصطلح الخيانة!
وفى الأخير لا بد أن نشير إلى حقيقة استراتيجية جوهرية، مفادها أن ما يحدث فى سوريا تحريكا خفيا لرقعة الشطرنج الإقليمية، مع إعادة التأكيد بأن فى السياسة أحيانا كثيرة ما يُعطى باليد علنيا، يُسترد فى الخفاء وبأضعاف مضعفة، وأن المنطقة بأثرها على فوهة بركان وربما حممها تحرق الأخضر واليابس، ولا يوجد دولة بمنأى عن هذه الأحداث الخطيرة، وعلى الشعوب أن ترفع مستوعى الوعى لديها، وأن تقف داعمة لجيوشها ومؤسساتها بقوة، ماذا وإلا فإن البديل كارثى!