حازم حسين

حفرة الأسد ومستنقع الشرع.. مفترق طرق بين إنقاذ سوريا وإنتاج نسخة مُعمَّمة من البعث

الإثنين، 09 ديسمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تخطَّت سوريا سؤالَها الأسهلَ فى امتحان المستقبل، وتتبقَّى أمامَها الأسئلةُ المُعقَّدة، ومن دون منهجٍ مكتوب أو وصفةٍ للأجوبة النموذجية، والقَول السابق لا يُقصَدُ منه التهوين فيما يخصُّ المحنة التى عاشها السوريِّون لثلاث عشرة سنة، ولا حتى التهويل من سياقٍ لا يزال فى علم الغيب؛ إنما المُقدِّمات تشى دومًا بالنتائج.

الغضبةُ الشعبيَّةُ التى أُرِيد لها أنْ تكون ثورةً مَدنيَّة، تحوَّلت سريعًا فى أيدى أصحابها إلى حربٍ أهليَّة كاملة الأوصاف. كان النظامُ جزءًا من المُشكلة، أو أغلبَ أجزائها؛ لكنَّ اللاعبين من الخارج فتحوا الملفَّات على بعضها، وخَلطوا الأوراق؛ حتى تداخلَ السياسىُّ بالعسكرىِّ، والمدنىُّ بالدينىِّ، وتظهَّرت التناقُضاتُ العِرقيَّةُ والمذهبيَّةُ على صورةٍ فجَّة وشديدة الإزعاج.

لعلَّه ميراثُ «البعث» كاملاً، أو يتقاسمه خصومُه المحلِّيون والإقليميون مِمَّن وظَّفوا الدينَ فى الصراع؛ لكنَّ الخُلاصةَ أنَّ بشار الأسد لم يَعُد محورَ الارتكاز فى الأزمة، والخشية ألَّا تكونَ إزاحتُه بدايةَ الطريق إلى الحلِّ.

انهارتْ التجربةُ البَعثيَّة فى فاتحة عقدها السابع، يبدو أنها شاختْ منذ زمن طويل، والسبب الذى أطال عمرَها هو نفسُه ما أزهقَ أنفاسَها اليومَ. كان «الأسدُ الأبُّ» بارعًا فى المناورة وبناء التحالُفات وتحويرها والإفلات من ضغوطها، وبقَدر ما اقترب من الجمهورية الإسلامية لم يَسقُط بكاملِه فى مشروعها، وأبقى صِلتَه بالدولة السوفيتية وتحوُّلاتها اللاحقة بعد نهاية الحرب الباردة، وفاز من الولايات المُتَّحدة بتثبيت وصايته على لبنان.

كانت له سابقةُ صدامٍ بعيد مع الإسلاميين، حسمَه فى «حماة» بفاتورةٍ باهظة؛ لكنه قوَّض أجندةَ الإخوان فى الشام لأربعة عقود تالية، أكثر من نصفها بعد رحيله، لكنَّ الابن على ما يبدو لم يمتلك الكفاءةَ ذاتَها، ولا كان ماهرًا فى الرقص بين حقول الألغام.

الخروج على النظام فى 2011 كان من محاصيل الذاكرة الغائرة فى الزمن والمواجع. صحيحٌ أنَّ الرئيسَ الجديد ورث السلطةَ بطريقةٍ عائلية أوتوقراطية؛ لكنه كان واعدًا فى سنواته الأُولى، لدرجة أنَّ قطاعاتٍ من النُّخَب والمُثقَّفين أسمَوا مرحلتَه المُبكِّرة «ربيع دمشق»، وتفاءل آخرون بانفتاحٍ يُرمِّمُ شقوقَ الماضى، ويستحدثُ سرديَّةً وطنيَّةً مُغايرة لأزمنة الشموليّة والانقلابات.

غزوُ العراق كان هاتفَ رُعبه الأوَّل، واتِّهامُه بقَتل الحريرى ثمَّ إخراجُه من لبنان أجهَزا عليه تمامًا. إنما فى كلِّ الأحوال، لم تكن تتوافر فيه شروطُ الرتابة وانقطاعِ الأمل المُتحقِّقةُ فى أنظمةٍ عربيَّة محيطة؛ فكأنَّ إلحاقَه بالربيع العربى كان مُغامرةً عارضةً من أطفال درعا، أو يدًا خَفيَّة تدخَّلت لهندسة المشهد؛ لكنه وَضعَ المؤامرةَ فوق القراءة الاجتماعية والسياسية الناضجة، والخشونةَ قبل محاولات الاحتواء، وبهذا سقطَ فى خطيئة سوء التقدير، ولعب مع الغاضبين ضدَّ الدولة.

شرارةُ الجنوب كان يُمكن ألَّا تتجاوزه إلى بقيَّة الأرجاء؛ لكنَّ غيابَ الحصافة وسَّع دائرةَ النار. استشاط الناسُ غضبًا، ووجد آخرون الفرصةَ المثاليَّةَ للعب فى التوازُنات الحَرِجة، وسريعًا دخل «الإخوان» على الخطِّ برايةٍ مذهبيَّةٍ واضحة، وانقلبت حركة حماس عليه، بعدما تنعمَّت طويلاً فى حمايته وعطاياه، وعبرَتْ قوافلُ الإرهابيِّين رحلتَها العكسيَّةَ من العراق لسوريا.

أخطأ الرجلُ قديمًا عندما فتحَ حدودَه للميليشيَّات السُّنيّة نكايةً فى الأمريكان، وصَمَتَ أو شجَّع شبابَ الحركات الأُصوليَّة على الاختصام فى تركة صدام حسين، ضمن ورشةٍ عريضةٍ وقتَها لتوزيع الأنصبة، كان يستهدفُ منها أن يضع قدمًا فى بلاد الرافدين، وأن يُعزِّز أجندة طهران فى عاصمة العباسيِّين.. والنارُ التى لعب بها؛ ارتدَّت عليه لاحقًا، كما تقضى مُفارقاتُ الحوادث دائمًا، وينظرُ التاريخُ ساخرًا لِمَن لا يستوعبون دروسَه المُؤلمة.

وإذا كان النظامُ المُتمسِّح بالاشتراكية؛ فوَّت حكمة ماركس اللامعة عن أنَّ «التاريخ يُعيد نفسَه، مأساة فى المرَّة الأُولى ومهزلةً فى الثانية»؛ فإنَّ حُلفاءه وأعداءه الآتين من أردأ التصوُّرات الأُصوليَّة لا يستوعبون حركيَّة الزمن، ولا يُؤمنون بالارتداد بعد التمكين. هكذا توهَّمَتْ الشيعيَّةُ المُسلَّحة أنها حصَّنت امتدادَها المادىَّ والجيوسياسىَّ، عندما وسَّعتْ محورَ المُمانَعة، ووَصَلَتْ الجغرافيا من فارس إلى لبنان مُرورًا بالعراق والشام.

والخطيئةُ نفسُها يرتكبُها الخارجون على «بشَّار» وسُلطته؛ إذ يتخيَّلُ المُسلَّحون أنهم قطعوا أصعبَ الأشواط على طريق الدولة الإسلامية، ويعتقدُ المدنيِّون أنهم قادرون على استخلاصها من أيديهم، بعدما أُطِيْحَ عدوُّهم المُشترك.

الراحلُ والوافد مَدعومان من جهاتٍ مُتشابهة، وقوَّتهما من الآخر لا من الذات. وإذا كان الخلاصُ من «نظام بشار» قد تطلَّب سنواتٍ وبحرًا من الدم؛ فالخروج من ولاية الإرهابيين سيحتاج فاتورةً أكبر فى الوقت والأرواح، ما لم تتدخَّل القُوى الداعمة من الخارج، لترشيد خيارات الميليشيا وضَبط مواقعها المُستقبلية ضمن بِنيَة النظام الجديد.

إنَّ تفعيل الميليشيات الأخير لم يتولَّد عن برنامجٍ سياسىٍّ واضح، بقدر ما كان مدفوعًا بأجندات وإملاءات خارجية، ما يعنى أن المسار المُقترَح سيكون مَوصولاً بمصالح الأطراف الخارجية وجوبًا. والمسألةُ الكُرديَّة فى الشرقِ فاصلٌ أساسىٌّ بين عناصر النزاع، مثلما العلاقة مع إسرائيل والولايات المُتَّحدة. الاحتواء ضمن نظامٍ مُوجَّهٍ يُحقِّقُ الوِفاقَ المطلوب، أمَّا الديمقراطية الكاملة فتُهدِّدُ الأهدافَ الموضوعةَ للحِراك؛ ناهيك عن أنها سيِّئةُ السُّمعة ومَرفوضةٌ أصلاً من الأُصوليِّين.

إعادةُ إنتاج زعيم هيئة تحرير الشام؛ ليصيرَ أحمد الشرع لا الجولانى، إشارةٌ إلى خطَّة تصعيديَّة يُرادُ منها أن يكون واجهةَ المرحلة المُقبلة، أو فى الحدِّ الأدنى أن يصيرَ مُرشدًا أعلى للثورة، وأبًا رُوحيًّا للدولة المأمولة، ومع صعوبة تمريره من صناديق الانتخاب؛ فإمَّا أنْ تُطَوَّع البيئةُ الاجتماعية الواسعة بالقوَّة أو بالاحتيال.

والمعنى؛ أنَّ البديلَ المطروحَ قد لا يتجاوزُ النسخةَ اليمينيَّة من البعث، بكلِّ مساوئ العائلة الأسديَّة، مُضافًا إليها ثِقَل الرجعيَّة الدينية ووحشيَّة العُنف المُقدَّس، فالغرض ليس تحرير سوريا؛ بقدر ما ينحصر فى إخراجها من الحلف الإيرانى، وتقليم أظفارها بما لا يُزعج الجيران الآخرين، والمشهد فى جوهره أقربُ لاجتياحها من سليم الأوَّل قبل خمسة قرون.

فرحةُ السوريين بسقوط النظام لا يُمكنُ حِسابُها على الانخراط فى المشروع الأيديولوجى المعروض على الخريطة، ربما هى أقربُ إلى كراهة زيد لا محبَّة عمرو، وأنها حالٌ تُشبه النشوة بالقصاص من غريمٍ قديم، ولو تحقَّق بخنجرِ عدوٍّ أخطر وأشدّ شراسة.

هكذا أفهمُ الاحتفاءَ السورىَّ العريض بإنهاء حقبة الأسد؛ ما يُرشِّحُ أن يقعَ الصِّدامُ قريبًا مع الفاعلين الجُدد، عندما تتكشَّفُ نواياهم، أو يأخذون البلد فى مسارٍ يتناقض مع هُويَّته الراسخة، ومع مُحدِّدات التعايش القاضية بالاتزان فى تخطيط المجتمع وبناء مرافق السلطة.

وبهذا؛ فإمَّا تصطدمُ الحركةُ الأُصوليَّة باستحقاقاتٍ تفوقُ طاقتها على الإدارة الراشدة؛ فتنقلب سريعًا إلى سيرتها الأُولى، وتُسفرُ عن وجهها الحقيقىِّ دون مساحيق التجميل، أو أن تحتالَ على التناقُضات العميقة بابتكار صيغةٍ من الطائفية المُقَنَّنة، ومناطق الإدارة الذاتية، وهو مسارٌ أقرب للتقسيم، فضلاً على أنه يصطدمُ مع مصالح الراعى الخارجى.

عندما قرأ «بشَّار» مشهدَ الانتفاضة العارضة فى درعا وريفها، باعتباره استهدافًا من الخارج، كان عليه أن يرتدَّ للداخل، ويُحصِّن بيئتَه من أعماقها. وما حدث كان العكس تمامًا؛ إذ أسَّس دعائمَ إدارته على حِسبةٍ خارجية، واستعان بالحرس الثورىِّ ثمَّ باليد الروسيَّة الطُّولى. وها قد تبدَّلت الحسابات، وانشغلوا عنه، فغرق سريعًا مثلما عوَّمه سريعًا.

وإذا استفادت الميليشيا الصاعدة على أطلاله من الدرس؛ فستجدُ نفسَها أمام استحقاق التمرُّد على الماسكين بخيوطها من وراء الحدود، أو مُطاوعتهم اضطرارًا بما يَضعُها فى مواجهةٍ مع عديد القوى الإقليمية والدولية، ومع شارعها الموَّار بالأفكار والتطلُّعات العالية.

تطميناتُ «الشرع» لم تسدّ الفجوات العظيمة فى سيرته، ولا قدَّمت أجوبةً منطقية مُقنعة عن تحالفاته، وحدود حركته، والأجندة المفروضة عليه والمُلزَم بتطبيقها. كان الخروج على شاشة CNN محاولةً لمُغازلة الغرب أو استمالته؛ لكنَّ تكثيف الضربات على المحور الكُردىِّ بعد ساعاتٍ من رحيل الأسد، واقتراب السيطرة على «منبج»، يُقدِّمان صورةً أكثر واقعيةً عن المسار الجديد.

والدولة السورية الضائعةُ لن تُبنَى على مُطاردة الماضى، كما لن يبنيها الذين شاركوا فى هَدمِها. أى أنَّ البداية السليمة تنطلقُ وجوبًا من التصالح على واقع الحال، والسعى لإصلاح أعطابه بمُشاورةٍ جادَّة ووفاقٍ كامل. اقتحامُ السفارة الإيرانية فى دمشق لم يَكُن مِمَّا يُحمَل على العلاج لا إفشاء المرض؛ إذ مهما قِيْل فى سلوكيَّات طهران، تظلّ المقرَّات الدبلوماسية مُحصَّنة بمُوجَب القوانين والأعراف الدولية.

سلامةُ الإجراء مع الخصوم تَنُمُّ عن الطبع والرؤية أكثر من مُعاملة الإخوة والأصدقاء، ومن الأحاديث المُنمَّقة سابقة التجهيز. والخوفُ من أنه لا فارقَ على الإطلاق بين التصويب على سفارةٍ من الأرض، أو قصفها جوًّا كما فعلت إسرائيل. هذا سلوكُ ثأرٍ لا مُصالحة، ونَفيرُ حربٍ لا رسالة سلام.
تربَّى القائدُ الجديد لنصفِ عُمره فى بيتٍ قومىٍّ ناصرىِّ الهَوَى، وربّاه الإرهابُ فى النصف الآخر. لا يُمكِنُ الجَزمُ برُسوخ مُعتقَده فى الإصدار الجديد، كما لم يَصدُر عنه اعتذارٌ واضح عن القديم. وتظلُّ العلاقةُ بالقاعدة وداعش، وما تورَّط فيه من جرائم مَوصوفة فى العراق أو سوريا، قناديل لامعة فوق رأسه العارى من العمامة السوداء.

وإن سُمِحَ له بالخروج للمجال العام؛ فالواجب أن تُعَمَّم القاعدةُ على الجميع، بَعثيِّين وكُرد وشيعة وغيرهم، وأن تُغلَق دفاترُ الثارات القديمة مع البشر والجغرافيا على السواء. والصِّدقيَّة هُنا تبدأ من النظر للجولان والشريط الحدودى مع تركيا، قبل النظر فى شرقىِّ الفرات ومناطق قوات سوريا الديمقراطية، وأن يُنزَعَ سلاحُ العصابات الإسلامية وغير الإسلامية، مع رَفع شعار الاستقلال وإجلاء القوَّات الأجنبية منذ اليوم الأوَّل؛ حتى لو تعذَّر إنفاذُه على وجه السرعة، أو تطلَّب مُهلةً زمنيَّة للاتفاق وضَبط العلاقات.

عند مرحلةٍ مُعيَّنة، تحوَّل «الأسد» من رئيسٍ كامل الأهليَّة والصلاحيات، إلى مندوبٍ عن أطرافٍ خارجية فى لُعبة الأُمَم.. والجولانى وهيئتُه لا يزالون تحت الصِّفة نَفسِها، أمَّا توطينُ الصراع وابتكارُ حلولٍ سورية خالصة له، فلا يبدأ إلَّا من إبعاد اللاعبين جميعًا، والانقطاع عن المحاور والتحالفات من دون استثناء.
المسألةُ ليست هُويَّة الجالس على مقعد الحكم فى دمشق، بقَدر ما تتصل بشرعيَّته الشعبية، والقُوى التى يُمثِّلها وينوبُ عنها، وصفاء إرادته الوطنية من الإملاء والتدخُّلات. وما دون ذلك؛ سيكونُ إحلالاً لبندقيَّة بدلَ أُخرى، واستعاضةً عن مشروعٍ شِيعىٍّ صَفَوىٍّ، بعُثمانيَّةٍ جديدة تحت رداءٍ سُنىٍّ باطش كسابقيه؛ إنما بمنطق العصابة وتحت ستار تخريجاتٍ فقهيَّة مُلوَّنة.

سُرِقَ العربُ فى سوريا مَرَّتين، وكان «الأسدُ» مُعاونًا للصوص فى كلتيهما: الأُولى عندما تجاوز الشارع إلى ميدان القتال، راهنًا كلَّ أوراقه لدى قاسم سليمانى وميليشياته، والثانية عندما تقاعس عن قراءة التطوُّرات، وأبطأ فى التجاوب معها؛ ففتحَ البابَ لاستبداله بعصابةٍ أُصوليَّة محمولةٍ على دباباتٍ خارجيَّةٍ أيضًا. بينما جَردةُ الحساب السابق، لا تُبشِّرُ العوامَ الفَرِحين بأىِّ خيرٍ فى اللاحق.

نُزِعَتْ بطاقةُ التعريف الفارسية عن قصر الحُكم، وتُوشِكُ أنْ تُلصَقَ غيرُها بلُغةٍ أُخرى، والدولة مُتشظِّية فى الحالين، والعدوُّ الأصيل يربحُ لفتنةِ الطرفين بتقديم الغريم القريب على البعيد. لهذا استعارت إسرائيل فلسفة إسحاق شامير فى تمنِّى النجاح لعَدوَّيه المُتصارِعَيْن، وحصلت على تطميناتٍ من الجيش الحُرّ، وقال إعلامُها إنه فتحَ خطوط اتصالٍ مع هيئة تحرير الشام، وبعدما نزع «الجولانى» كُنيتَه لا يُؤمَلُ منه النظر للهضبة المُحتلَّة أصلاً.

الرابحُ الوحيد من دون تداعياتٍ يكتمُ ابتسامتَه فى تل أبيب. صحيحٌ أنه يُعبِّرُ عن القلقِ بين وقتٍ وآخر؛ لكنه على الأرجح مُطمئنٌ إلى أنه ليس ضمن أولويات الميليشيا السُّنيَّة، ولو ساءت الأوضاع فالحربُ الأهليَّةُ الثانية كفيلةٌ بأن تصرِفَ أنظارَ الجميع.

والقَصدُ هُنا ليس أنَّ «بشار» كان مُمانِعًا حقيقيًّا، أو يناضلُ لاستعادة الأرض، ولا أنَّ السوريين كان عليهم الامتناع عن طلب حقوقهم المشروعة، تأسيسًا على اعتباراتٍ جيو-استراتيجيَّة مُعقَّدة وعالقة؛ إنما المُراد أن يتحسَّب الذاهبون لورشة البناء الوطنى من الثغرات، وألَّا يمنحوا المُنقِذَ بطاقةَ إبراء ذِمَّة لأنه أطاح الديكتاتور، دون فحصٍ لأجندته ونواياه ومُحرِّكيه، ودون صلابةٍ فى مواجهة نقاطها الملغومة.

عمليًّا؛ كان الأسدُ ساقطًا بالفعل منذ سنوات. دخلت سوريا فى حزام الدول الفاشلة، ونصف الجغرافيا لم يكن تحت سلطته، كما أنه لا يحتكر العنف المُقنَّن ولا يُحكِمُ قبضتَه على حدودٍ تمتد لقرابة 1900 كيلو متر مع العراق والأردن وتركيا.

الساقطُ الحقيقى اليومَ مشروعُ إيران فى المنطقة، وما تبقَّى من خطاب المُمانَعة ودعايات وحدة الساحات. وعلى قدر الضرَر الذى أحدثته فى فلسطين وأربع عواصم عربية؛ فإنَّ إخراجها من دون بناء بديلٍ مدنىٍّ سليم، أو بإحلالِ وصايةٍ من لونٍ آخر؛ كأنها تضرُّ وتنفعُ أطرافًا غير سوريا، بينما تظل هى نفسُها فى حيِّز الاستقطاب والاستتباع وتهديد الوجود، حاليًا أو على المدى البعيد.

لعبت حماس ضد الأسد فى أول الحرب الأهلية، واليوم ربما يُنسَب سقوطُه إلى السنوار فى ثلاجة الموتى الإسرائيلية. وليس من قبيل التبسيط على الإطلاق، القول إنَّ «طوفان الأقصى» كان رصاصةً فى قلب أصحابه.

هُزِمَتْ الحركةُ ولم تَعُد غزَّة صالحةً للحياة، ونُكِّلَ بحزب الله فى لبنان، وتقطَّعت أطراف الشيعية المسلحة، ومنه أيضًا دارت مُحرِّكات الجولانى ومُشغِّليه، ولولا انشغال المُمانَعة بالقطاع والضاحية والصِّدام مع إسرائيل؛ ما تجرَّأت هيئة تحرير الشام على مُقارعة ميليشيات الحزب مع «فاطميون وزينبيون» فى حلب ونواحيها. فكأن الصهاينة قدموا خدمةً للمُسلَّحين السوريين، عفويةً أو مقصودة، وسيحصدون مُقابلَها فى كلِّ الأحوال.

كان سؤالُ التهدئة فى لبنان يدور على سلاح الحزب، وقَطع إمداداته اللوجستية من جهة إيران، وتتابعت الأفكار بين الرقابة الأمريكية، أو الضمانة الروسية، أو التحركات الإسرائيلية المباشرة. اليوم لم تعد طهران موجودةً فى الشام كله، وقُطِعَت الخطوطُ تمامًا، وسيختنق الحزبيون بَرًّا، وإن اكتمل الحصارُ من الجو والبحر فلا أملَ فى الإنعاش.

هذا مكسب كبير للدولة اللبنانية؛ لكنه يصبُّ فى صالح إسرائيل أيضًا، والفاصل بين الربح والخسارة فيه أن يُفيد سوريا؛ لا أن يتَّخذها فاصلاً طُبوغرافيًّا بين أذرع المُمانَعة، ويُبقيها حقلَ شوكٍ وألغامٍ إلى الأبد مع احتماليَّة أن تتصاعد الأطماع، من الشمال والجنوب، وقد تُبادر إسرائيل لإلغاء اتفاقية فضّ الاشتباك، والبحث عن مقعدٍ على طاولةِ التسوية الجديدة.

لستُ مع القائلين بضَياع سوريا؛ لأنها لم تكن موجودةً أصلاً فى أعوامها الماضية، إنما لست من القائلين أيضًا بأنه ليس بعد القاع قاع؛ إذ حتى فى النوازل الثقيلة يختلفُ ضياعٌ عن ضياعٍ. كان «الأسد» رديئًا من دون شَكٍّ؛ لكنَّ حملةَ السلاح من خصومه أسوأ وأشد رداءة. وما فعلوه صار واقعًا على الجميع استيعابه؛ إنما ليس عليهم التسليم به كيفما يريده الفاعلون بالحديد والنار.

نظام الأقلية العَلويَّة لن يُصبحَ أكثريَّة لو حلَّت ميليشيا سُنيَّة بدلاً منه؛ إذ تنضبط علاقاتها بالانتماء والبيعة، وعليها رَدمُ الحُفرة العميقة فى أفكارها بين الديمقراطية والشورى، وبين السلطات المنتخبة وأهل الحل والعقد. والفيدراليةُ أو التقسيم الجارح لن يختلفا عن الوضع القائم، ومُمالأة العثمانية الجديدة لن تكون أفضل من الاصطفاف مع صفوية مُمَذهَبة. طريقٌ واحدةٌ تقود للتحرُّر الحقيقى الكامل، وألفُ طريقٍ غيرها تنتهى إلى إعادة إنتاج بشار الأسد، أو بالأحرى نسخة مُشوَّهة منه وأشد سوءًا وغطرسة.

لا تثريبَ على الناس فى فرحتهم بانقشاع سحابة الأسد؛ إنما اللوم كله لو استكانوا لغيوم الجولانى، أو سلَّموا قيادهم لفصيلٍ آتٍ من الماضى، ويحملُ كلَّ أمراض النظام القديم، مُعزَّزة بالأُصوليَّة المقيتة، وبأجندةٍ طائفية تتحقَّق فيها صِفتَا العمالة والإرهاب.

واجبُ «اليوم التالى» يقعُ على عاتق السوريين جميعًا، وفى مُقدّمتهم النُّخَب والمؤمنون بالهُويَّة الوطنية الجامعة؛ بينما لا تُستوفَى شروطُ المدنيَّة بلحيةٍ مُهذّبة، أو لسانٍ يُسرفُ فى الوعود بينما يقبضُ صاحبُه على السلاح، ولا يُفرِّط فى ترسانةِ الخطابات الداعشية المُؤسِّسة لحضوره ومشروعيته من المبتدأ للختام.
اجتمعَ «مسار أستانا» فى الدوحة قبل يومين، ثم التقى خمسَ دولٍ عربية، وأصدر الثمانية بيانًا مشتركًا يدعو لمسارٍ سلمى نحو الحلحلة والحلّ. قِيْل ضمن ما أُشِيعَ من تفاصيله؛ إنه يُثبِّت الأوضاعَ الحالية، ويدفعُ لتشكيل حكومة وفاقٍ وطنىٍّ، على أن يُفوّضها الأسدُ فى صلاحياته، وتدعو لانتخاباتٍ رئاسية وبرلمانية مفتوحة فيما بين ستّة وتسعة أشهر، وبعدها تكشَّف أن الاتفاق أُبرِم فى اللقاء الأوَّل، وكان السقوط السهل للعاصمة، إشارةً إلى أنَّ «بشار» أُمِرَ على الأرجح بالمغادرة.

لعلَّها مُصادفة أو خديعة مقصودة؛ إنما فى النهاية تُشير لترتيباتٍ أغلبها لا يزال تحت الطاولة. طُبخت الحكاية بكاملها خارج الحدود، ولا تزال حتى اللحظة تُدارُ من وراء ظهور الشوام. قد يكون السوريون أقلَّ الناس إسهامًا فيما يخصُّ سوريا، والفاصل ضئيلٌ جدًّا بين أن يُشركهم القادةُ الجُدد فى المشهد، أو يُصادروا منهم ما تبقَّى من آمال.

مسؤوليةُ الجميع اليومَ أنْ يُواكبوا السياق الجديد بيقظةٍ واعتدال، وأن يُحصِّنوا البلدَ ومستقبلَه من صراعات الأُمَم وتوافقاتها الرمادية. وأوّل الواجب يبدأُ من الضغط لئلا يكونَ «الشرعُ» بديلاً عن «الأسد»، ولا أىّ شَبيهٍ من العَيّنة نفسها، حتى لا يخرجوا من حفرةٍ إلى مُستنقع. البندقيَّة لا تعرفُ سوى القتل، وتذخيرُ العقائد لا يقودُ إلَّا للفتنة والإلغاء. والهامشُ ضيِّق للغاية بين الخروج من حقبة البعث، أو الاصطدام القريب بنسخةٍ أُصوليَّة مُعمَّمةٍ منه. وعلى الذين حُرِموا من الخيرة طويلاً، أنْ يُبادِروا بالاختيار الآن؛ عالمين بأنهم يُراهنون بالذاكرة والحاضرة، وقد يدخلون بوّابة المُستقبل، أو يعضّون أصابع الندم.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة