ربما كان استهداف "الأونروا" هو الحلقة الأحدث، في حزمة القنابل التي أطلقتها إسرائيل، لتتجاوز بها الحدود الجغرافية للعدوان، الذي شنته على غزة، في أكتوبر الماضي، والذي لم يقتصر على النطاق الميداني الممتد للمعركة، عبر انتقال دائرة الصراع من القطاع، إلى جنوب لبنان، ومنه إلى سوريا واليمن والعراق، وأخيرا في الأردن، وإنما حمل العديد من الدعوات الأخرى، التي لا تقل في خطورة تداعياتها، عن العملية العسكرية، وما تخللها من وحشية، وانتهاكات تندى لها الأجبان، بدءً من التهجير، وفصل القطاع عن حل الدولتين، وأخيرا الدعوة إلى وقف تمويل الوكالة الأممية، والتي تمثل امتدادا للهدف الرئيسي من العدوان، وهو تصفية القضية الفلسطينية، في ظل الرسالة التي تحملها لخدمة الفلسطينيين، وأبرزها الاعتراف بهويتهم.
ولعل "الأونروا"، والتي يمثل اسمهما اختصارا لـ"وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" هي الوكالة الأممية التي تمثل ترجمة فعلية لاعتراف الأمم المتحدة بالهوية الفلسطينية، وبالتالي يبقى استهدافها هو في الأصل استهدافا لهذه الهوية، وامتدادا صريحا للدعوات سالفة الذكر، وأهمها التهجير، والذي يهدف في الأساس إلى تجريد الدولة من مواطنيها، وحرمانها من أهم الأسس التي يقوم عليها مفهوم الدولة، وبالتالي يبقى اتهام موظفيها بالتورط، في عملية "طوفان الأقصى"، والاستجابة الدولية بوقف التمويل المقدم لها، بمثابة محاولة صريحة للقضاء على كيان أممي، يحمل اعترافا صريحا بالدولة المنشودة، وهو الأمر الذي يتزامن مع المطالبات بمنح فلسطين العضوية الكاملة للأمم المتحدة، وهو الأمر الذي يعكس عمق الخطة الإسرائيلية، وتجاوزها مجرد التهديد الذي يمثله القطاع على أمنها.
وفي الواقع، أزمة إسرائيل مع "الأونروا" ممتدة وعميقة، وليس وليدة اللحظة، فالدعم الذي تقدمه الوكالة للفلسطينيين، بمثابة "كابوس" للاحتلال، بدءً من المساعدات الإنسانية، والتي تساهم بقدر ما في تخفيف العبء الذي يعانيه السكان، مرورا بالمناهج التعليمية، والتي تعزز الهوية، وهو ما يرفضه كيان الاحتلال صراحة، ويسعى لاستهدافها، عبر "تهويد" المناهج، من أجل تشويه الرؤية لدى الأجيال الجديدة من الطلاب الفلسطينيين، بالإضافة إلى دورها الإغاثي والدعم المجتمعي عبر تقديم فرص العمل لأبناء فلسطين، مما يؤهلهم نحو مزيد من الصمود في مواجهة آلة الاحتلال، والذي يسعى إلى ممارسة كل سبل التضييق والحصار بحقهم، حتى يجبرهم على ترك أراضيهم.
وهنا تصبح "الأونروا" مصدرا لإزعاج الدولة العبرية عبر مسارين، أولهما أنها تحمل اعترافا صريحا بالهوية الفلسطينية، وهو ما يمثل خطورة كبيرة على مخططات تصفية القضية، خاصة وأن الوكالة تابعة للأمم المتحدة، والتي تسعى الدولة المنشودة وبالتالي فتحظى، وكل ما تحمله من رسائل أو أنشطة، بالشرعية الدولية، بينما تبقى خدماتها التي تقدمها للفلسطينيين، في المسار الثاني، بمثابة أحد أركان الصمود، في مواجهة الاحتلال، سواء على المستوى الإنساني أو الإغاثي أو التعليمي أو المجتمعي، وبالتالي دعم بقائهم على أراضيهم، لتكون لحظة العدوان على غزة، بمثابة فرصة مهمة، لتجريد الوكالة من شرعيتها الدولية، في ضوء العديد من المعطيات، وأهمها التذرع بالتهديدات التي تواجه الاحتلال أمنيا، وهو الأمر الذي يبدو في محاولات الحشد الدولي في مواجهتها.
الانتهازية الإسرائيلية لا تقتصر على كونها مجرد استغلال لحظة العدوان على غزة، وإنما أيضا استثمار الزخم الناجم عن المواجهة المشتعلة بين الدولة العبرية وأجهزة الأمم المتحدة، في ظل استعداء الأمين العام، أنطونيو جوتيريش، الذي حمل الاحتلال مسؤولية ما آلت إليه الأمور في القطاع خلال "طوفان الأقصى"، وكذلك القرار الصادر عن محكمة العدل الدولية، ناهيك عن قرارات الجمعية العامة، التي لم تصب في صالح إسرائيل بأغلبية كاسحة، بينما لم يعد لديها في المنظومة برمتها سوى "الفيتو" الأمريكي، والذي لم يعد كافيا لتقديم الحماية الكاملة لها في مواجهة عالم بات غاضبا جراء الانتهاكات الوحشية التي ترتكب في الأراضي الفلسطينية، ليصبح الحشد الإسرائيلي ضد الوكالة، بمثابة محاولة للضغط على الأمم المتحدة، لتخفيف الضغط الذي باتت تمثله عليها في الآونة الأخيرة.
استهداف "الأونروا" هو في واقع الأمر جزء لا يتجزأ من محاولات دولية لتقويض المنظومة الأممية، وهو الأمر الذي تناولته في مقالي السابق، خاصة مع زيادة نبرة التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية، وخروج العديد من الدول أعضاء المعسكر الموالي لإسرائيل، عن الدوران المطلق في الفلك الأمريكي، خاصة في أوروبا، مع دخول أقاليم بعيدة عن الشرق الأوسط، في الدائرة الداعمة للقضية، وهو ما يعكس أبعادا مهمة للحشد الإسرائيلي في مواجهة الوكالة الأممية، والتي لا تبدو مستهدفة في ذاتها.
وهنا يمكننا القول بأن كابوس "الأونروا" بالنسبة للدولة العبرية، ليس في مجرد ما تحمله من تهديد لأمنها، كما تدعي، أو حتى في مجرد الدعم الذي تقدمه للفلسطينيين، وإنما في مآلات وأبعاد هذا الدعم، خاصة في صورته التعليمية، والذي يعزز الهوية الفلسطينية، والذي تسعى إسرائيل لانتزاعها من جذورها، بل وتمثل في جوهرها أحد أهم أركان الصراع الذي تخوضه في اللحظة الراهنة، وامتدادا لدعواتها المشبوهة للتهجير وفصل القطاع عن الدولة المنشودة وغيرهم.