ربما تبقى الديمقراطية، هى المفهوم الثابت الذى أجمعت عليه الإدارات الأمريكية، ليس فقط من حيث تطبيق آلياتها فى الداخل، وإنما أيضا من خلال الرغبة العارمة فى تعميم النموذج الذى تبنته واشنطن منذ عقود، باعتباره أحد أهم الأدوات التى تمتلكها، لتعزيز قيادتها للعالم، بدءً من نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما سعت إلى استبدال الديكتاتوريات الأوروبية بأنظمة ديمقراطية، لتعلن نفسها قائدا للمعسكر الغربى، فى مواجهة الشرق بقيادة الاتحاد السوفيتى، ثم بعد نهاية الحرب الباردة، وسقوط الأخير، لتتجاوز عملية التعميم الجغرافيا المحدودة، نحو عالم أكثر اتساعا، يشمل كافة مناطق الكوكب، وهو ما خلق ذريعة واضحة للتدخل فى شؤون الدول، ومحاولة فرض أنماط بعينها عليها، وهو ما يرتبط فى الأساس بمدى التزام الأنظمة الحاكمة هنا أو هناك بالدوران فى الفلك الأمريكى فيما يتعلق بكافة القضايا الدولية والإقليمية.
ولعل الحديث عن الديمقراطية، أو بالأحرى فرض النموذج الديمقراطى، ارتبط بالعديد من المشاهد، منها تضييق الخناق الاقتصادى على الدول المارقة، مرورا بالتدخل العسكرى المباشر، وحتى إثارة الفوضى، من خلال تأجيج النزاعات الداخلية، إلا أن التطبيق فى الداخل الأمريكى ظل ملتزما بالأطر والآليات، كالانتخابات والمناظرات، وتداول السلطة، بينما تم غض الطرف عن العديد من النقائص، منها على سبيل المثال اقتصار المنافسة على حزبين فقط، بل وأن دائرة الحكم لم تخرج فى الغالب عن دائرة محدودة من الوجوه، وهو ما يمكن رصده منذ الحرب الباردة، وهو ما يبدو فى حصول آل بوش على 12 عاما داخل البيت الأبيض، فى غضون حوالى 30 عاما، بينما استحوذت عائلة كلينتون على 8 سنوات فى الرئاسة ( خلال حقبة الرئيس الأسبق بيل كلينتون) ثم 4 سنوات فى وزارة الخارجية ( هيلارى كلينتون)، وكذلك الرئيس الحالى جو بايدن، والذى تولى منصب نائب الرئيس خلال حقبة أوباما، ثم فاز بالرئاسة وقد يفوز لحقبة أخرى.
وهنا يبدو نموذج الديمقراطية الأمريكى فى ذاته، رغم كونه ملهما، حاملا للعديد من التناقضات، التى أسفرت عن حراك مضاد فى الداخل، خلال السنوات الماضية، وهو ما تمخض عنه العديد من المشاهد، بدأت عبر الآلية المتعارف عليها (الانتخابات) باختيار الرئيس السابق دونالد ترامب رئيسا فى 2016، رغم غياب خلفيته السياسية، على حساب سياسية مخضرمة ووجه تقليدى بالسياسة الأمريكية، وهو هيلارى كلينتون، والتى مكثت داخل البيت الأبيض، باعتبارها السيدة الأولى لثمانى سنوات، ثم عبر الخروج على تلك الآلية، من خلال الطعن فى نزاهة العملية الانتخابية فى 2020، بعدما خسر ترامب نفسه أمام الرئيس الحالى بايدن، وحتى وصل الأمر إلى اقتحام الكونجرس، فى مشهد تاريخى ربما لن ينسى لعقود طويلة قادمة، باعتباره نقطة تحول تاريخية فى مركز الديمقراطية بالعالم.
التناقضات فى النمط الأمريكى للديمقراطية، ربما تصبح على أعتاب مرحلة جديدة، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتى ربما يعود فيها ترامب منافسا على عرش الولايات المتحدة، جراء احتقان متراكم، فى الشارع الأمريكى، على خلفية الشكوك التى أثارتها الانتخابات السابقة، من جانب، وعودة الوجوه السياسية التقليدية إلى السلطة، من جانب آخر، بينما تبقى الأوضاع الاقتصادية فى الداخل الأمريكى، وارتفاع موجات التضخم، ومسؤولية الإدارة الحالية عن تلك الأحوال التى مست حياة المواطن العادى، جانبا ثالثا من المشهد، تزامنا مع ظهور دعوات لانفصال ولاية تكساس عن الاتحاد الفيدرالى، بسبب دخول المهاجرين، بعدا رابعا، يحمل خطورة غير تقليدية على مستقبل أكبر دولة فى العالم، بينما يضع مفهوم الديمقراطية الأمريكية على المحك، خاصة مع اقتراحات ثارت مؤخرا حول إجراء استفتاء بين مواطنى الولاية.
والحديث عن تكساس يحمل وجها آخر، لانهيار أحد أركان المفهوم، والذى يمثل فى أحد جوانبه قدرة أمريكا الاستثنائية على تحقيق التعايش بين المتناقضات، ليس فقط فى إطارها السياسى، وإنما أيضا فى أطرها العرقية والجنسية والدينية والأخلاقية، وبالتالى تبقى "ثورة" الولاية على المهاجرين انعكاسا لحالة من العجز على استيعاب المزيد من الأجناس والأعراق، فى ظل أوضاع اقتصادية تبدو صعبة للغاية، ومخاوف مرتبطة بالتطرف، وصعود التيارات اليمينية المحافظة، والتى تحمل موقفا مناوئا للهجرة، وهو ما عززته حقبة ترامب
قضية تكساس، جنبا إلى جنب مع التشكيك فى الآليات الديمقراطية التقليدية الأمريكية، تفتح الباب أمام صراعات محتملة، ومتعددة الأبعاد، على المدى المنظور، بين فريقين، كلاهما يقدم نفسه باعتباره مدافعا عن المفهوم، ولكن يبقى الاختلاف حول ما إذا كانت هناك حدود له، ومدى حاجته للإصلاح، وماهية الإصلاح المنتظر، وحول ما إذا كانت الديمقراطية فى الداخل الأمريكى حكرا على الأمريكيين أم أنها ممتدة لقبول المزيد من المهاجرين للتعايش معها، لتضع النمطية الأمريكية نفسها فى موضع الشك حول ما إذا كانت قادرة على الصمود فى مواجهة التحديات
ارتباط الديمقراطية بالصراعات أو الحروب، يمثل فى جوهره نهجا أمريكيا خالصا، ربما اقتصر فى بداية الأمر على محاولات فرض نمطيات سياسة واشنطن على محيطها الخارجى، فى بداية الأمر، سواء عبر التدخل المباشر، على غرار العراق وأفغانستان، وغيرهما، وهو الأمر الذى فشل تماما فى تحقيق الأهداف التى سعت إليها، أو تأجيج النزاعات الداخلية لنشر الفوضى، على غرار الربيع العربى، ولكنه بات يطرق أبواب الداخل بقوة، ليتجاوز مجرد المعارك الكلامية بين المتنافسين، أو معارك تكسير العظام بين الأحزاب، إلى حراك يحمل فى طياته جانبا فوضويا، يتجلى فى مشهد اقتحام الكونجرس، أو حتى استخدام المصطلحات الرنانة التى سبق وأن استخدمتها أمريكا لإضفاء غطاء من القدسية على حروبها على العالم من أجل الانتصار للمفهوم الهلامى، منها على سبيل المثال "الحرب المقدسة"، وهو الذى سبق وأن استخدمه الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن إبان حربه على العراق، ليعود الآن ويستخدمه أنصار ترامب، ولكن فى مواجهة مع الداخل، وتحديدا لاستهداف المغنية الأمريكية الأشهر تايلور سويفت، والتى سبق وأن أعلنت تأييدها لبايدن فى الانتخابات الماضية، مستبقين إعلان موقفها من الانتخابات المقبلة، بينما يبقى الأمر ممتدا لاستهداف من تسول له نفسه من المشاهير أو الشخصيات العامة نحو اتخاذ طريق مخالف لما يرسموه، سواء فى الانتخابات المقبلة أو حتى فيما يتعلق بالسياسات التى سوف ينتهجونها فى المستقبل.
وهنا يمكننا القول بأن بوتقة الديمقراطية العالمية، باتت فى مرحلة غليان، ربما تبقى عرضة للانفجار، جراء العديد من العوامل، أبرزها حالة العجز التام عن إصلاح المفهوم، أو تطويره، بما يتواكب مع اختلاف المراحل، فى إطار نمطى، بينما يبقى الخطر، ليس فقط فى مجرد إمكانية الحفاظ على تلك الحالة التى أرستها الولايات المتحدة منذ عقود، وإنما فى التداعيات التى قد تصل إليها، حال عدم القدرة على إبداء قدر من المرونة فى التعامل مع المستجدات فى الداخل، والخارج خلال مرحلة مخاض يشهدها النظام الدولى برمته فى اللحظة الراهنة.