فى أحد أيام الشتاء فى أوائل الستينات فى حديقة "معهد الموسيقى" الكائن فى شارع رمسيس كان اللقاء الأول الذى يجمع بين شاعرنا مجدى نجيب الذى رحل عن عالمنا يوم الأربعاء الماضى، والموهوب بذاته بليغ حمدى. المعهد وقتها كان الملتقى الأساسى والوحيد للمؤلفين والموسيقيين والعازفين. ينجذب نجيب لشخصية بليغ يقرأ فى عينيه بخبرة الفنان التشكيلى أسئلة الحيرة والحلم والتمرد. رآه طائرا حائرا فى طيرانه فى فضاءات الموسيقى. يرسم بأصابعه سيمفونية من الإيقاعات والنغمات المبحرة بحلمه إلى شواطئ الشجن وفى أحضانه عوده الذى لم يكن يفارقه دار الحوار بينهما.
قال بليغ: "أريد أن أفجر الديناميت فى الأرض الميتة"
يتساءل نجيب فى انزعاج: "وكيف يفجر الفنان الموسيقى الديناميت وهو يلعب على الأوتار ويداعبها من أجل الابداع والتعبير عن حالة شعورية..؟"
يرد بليغ: "وهل هناك فرق بين المقاتل أو مفجر الديناميت سواء كان موسيقيا أو تشكيليا أو مسرحيا. كل إنسان يناضل بفنه سواء كانت هذه الآلات فكرة أو نغمة أو طلقة من أجل مستقبل حلمه إذا كان يحب وطنه وناسه".
يعاود مجدى السؤال: "ماذا تقصد يا بليغ؟"
-أقصد إحياء موروثنا الشعبى الموسيقى والغناء فى كل الوطن العربى لكى لا نستيقظ يوما فنجد أنفسنا قد فقدنا جذورنا وهويتنا وثقافتنا ونصبح أمة بلا ماضٍ"
ينتهى الحوار الفلسفى برغبة بليغ أن يكتب مجدى نجيب أغنية ليقوم بوضع لحن لها. هذه أول مرة له فى عالم كتابة الأغنية. فهو الشاعر والرسام والصحفى الذى لم يفكر يوما ما فى الانضمام إلى قافلة كتاب الأغانى.
بعد عدة أسابيع يلتقى "الصديقان" ويكرر بليغ طلبه. ثم يفاجئه بلحن موسيقى ليكتب عليها أغنية. كانت الموسيقى التى سمعها نجيب تفيض بالشجن الجميل الذ يحفز على الكتابة رغم صعوبة التجربة.
جاءت الكلمات لتعانق اللحن معلنة عن أغنية "قولوا لعين الشمس ما تحماشى" التى غنتها شادية عام 66 وحققت نجاحا كبيرا. وكان الأجر الذى حصل عليه مجدى من الإذاعة التى أنتجت الأغنية وقتها 5 جنيهات قبل خصم الضرائب..!
بعد مرور أسابيع من نكسة يونيو67، كان مجدى نجيب يستقل تاكسي وبجواره فى المقعد الخلفى صديقه الشاعر عبدالرحيم منصور فى طريقهما إلى مقهى "وادى النيل "بميدان التحرير.. يهمس منصور للسائق بأن الجالس خلفه هو مؤلف أغنية "قولوا لعين الشمس" التى كانت مصر كلها تغنيها حتى بعد النكسة.
فجأة.. أوقف السائق التاكسى فى غضب ويطلب منهما النزول فورا.. يتدخل نجيب لمعرفة السبب. فارتفع صوت السائق فى وجع "أنت بالذات يا مؤلف يا بتاع عين الشمس ما تتكلمش.. أنت السبب فى فضيحتنا وهزيمة عساكرنا والسخرية منها..!!
ينظر نجيب إلى منصور مندهشا من تصرف السائق بعد إصراره على مغادرتهما التاكسى. يضحك عبد الرحيم منصور فى سخرية "طبعا أنت السبب.. ما سمعتش أغنيتك من راديو إسرائيل..!
كانت إذاعة إسرائيل قدمت الأغنية بشكل مختلف وبصوت نسائى يشبه صوت شادية بنفس اللحن مع تغيير بعض الكلمات فأصبحت: "قولوا لعين الشمس ما تحماشي
لأحسن الجيش المصرى صابح ماشى".
الأمر لم يتوقف فقط عند سخرية إذاعة العدو الإسرائيلى، فقد راح أحد أشهر خطباء المساجد فى مصر وهو الشيخ "كشك" يهاجم الأغنية على أكثر من منبر بعد صلاة كل جمعة واتهم مؤلف الأغنية مجدى نجيب بـ"الزندقة" فكيف له أن يصدر أمرا للشمس "ما تحماشي"..!! وسجل الشيخ كشك هجومه على نجيب والأغنية على شرائط كاسيت وكان الشريط الواحد يباع بما يساوى ما حصل عليه مجدى نجيب من أجر عن الأغنية.. وتحول الشيخ كشك إلى "نجم الكاسيت" الذى حقق ثروة من مهاجمته لكل الفنانين ومنهم مجدى نجيب...!!
الشحنة الإيجابية الكبيرة التى بثها بليغ فى عقل ووجدان مجدى نجيب دفعته أيضا إلى الاستمرار فى كتابة اللون التراثى والشعبى المميز للغناء وهذه المرة من ألحان الهادئ الواثق محمد الموجى وبصوت شادية وكانت أغنية «غاب القمر يا بن عمي» لشادية أيضا.
لم تسلم هذه الأغنية أيضا من اللسان السليط للشيخ كشك، وسخريته وهذه المرة سخر من شادية "ليه اتأخرتى يا ختى مع ابن عمك لحد القمر ما غاب وكنتوا تعملوا إيه فى غياب القمر"
*****
رحم الله شاعرنا وكاتبنا ورسامنا مجدى نجيب الذى ترك بصمة قوية بأغانيه رغم قلة عددها، لكنه أبدع فيها، وتفوق خاصة فى أغانى التراث الشعبى المصرى إلى درجة أن بعض المستمعين والمهتمين أحيانا يختلط عليهم الأمر بين مؤلف تلك الأغانى، بين الخال عبد الرحمن الأبنودى والمبدع مجدى نجيب، خاصة عندما كتب نجيب "أخد حبيبى يا أنا يا أما" لفايزة أحمد و" غاب القمر يا ابن عمى ياللى روحني" و" قولوا لعين الشمس ما تحماشي" لشادية " وجانى وطلب السماح" لصباح وهى أغانٍ تنتمى لمذاق الغناء الشعبى الريفى للخال عبد الرحمن الأبنودى مثل "آه يا أسمرانى اللون "وقالى الوداع" و" أن ما أسمريت يا عنب بلدنا" وأغانى فايزة أحمدة" قاعد معاي" و" صعبان علينا" و" مال عليا مال". ويؤكد ذلك تفوق المبدع مجدى نجيب فى هذا اللون الذى أيقظه بداخله وحفزه عليه الموهوب لذاته وبذاته البليغ حمدى. رغم اهتمام نجيب الشديد بالرسم والشعر فقد صدر له 5 دواوين هى صهد الشتا عام 64 وليالى الزمن المنسى 74 ومقاطع من أغنية الرّصاص 1976 وممكن 1996 والوصايا 1997.