فى السياسة لا توجد أحكام نهائية، أو نظريات حاسمة، لكن هناك خيارات، وتوقعات، يمكن أن تحدد النتائج، التى لا تظهر فورا، وتكون نتاج تفاعلات تشبه التفاعلات الكيماوية، لكنها تختلف فى السياسة لأن التفاعلات الكيماوية نتائجها معروفة، بينما تحولات السياسة من الصعب التكهن بها، خاصة فى ظل سيولة عالمية واستقطابات وإعادة بناء نظام عالمى، لم يعد قادرا على استيعاب مصالح وطموحات كل الدول، بينما هو مصاغ لصالح دول قليلة تتحكم فيه وتتدخل فى مساراته.
وبالطبع فإن السياسة تؤثر على الاقتصاد، وما تشهده منطقة الشرق الأوسط على مدى أكثر من عقد أثر على الاقتصاد، فالدول التى شهدت ولا تزال صراعات فقدت قدراتها الاقتصادية وتعرضت لدمار واسع بينما هذه الصراعات نفسها أثرت على حركة التجارة والاقتصاد، فدول مثل سوريا واليمن وليبيا فقدت بوصلتها الاقتصادية، ومن هنا فقد انتهجت مصر على مدى السنوات الماضية الدعوة لخفض الصراعات وأبعاد التدخلات الخارجية والدخول فى مسارات سياسية تمكنها من العودة إلى طريق التنمية التى تتطلب استقرارا.
التحولات لم تكن فقط إقليمية فقد أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على اقتصاد الطاقة والحبوب والغذاء عموما، خاصة أنها جاءت ولم يكن العالم انتهى من أزمة فيروس كورونا، مما أثر على سلاسل النقل وحركة الاقتصاد، وكل هذه الأزمات كشفت عن مشكلات وعيوب النظام الاقتصادى العالمى، الذى تشكل فى أعقاب الحرب العالمية الثانية.
لقد فقد النظام الإقليمى توازنه لفترة تحت ضغط صعود تنظيمات إرهابية، بجانب أن كل دولة انشغلت بنفسها، وحرصت مصر وسط الكثير من التزاحم والتحديات، على العمل داخل محيطها، والحفاظ على التوازن فى محيط مشتعل، ثم جاءت الحرب على غزة، التى تمثل تحديا يتعلق بأمن مصر القومى، وأيضا بمسؤولية مصر عن القضية الفلسطينية، ومواجهة مخططات تصفية أو تهجير، وضمان تدفق المساعدات، والتواصل مع كل القنوات والأطراف لوقف العدوان والسير نحو مسارات سلام تضمن الحق الفلسطينى.
ووسط المحيط المشتعل، كان على الدولة العمل فى بناء اقتصادها ومواجهة انعكاسات الأزمة العالمية، فى وقت يعكس الاستقطاب السياسى استقطابات اقتصادية، تدفع الدول ذات الاقتصادات الناشئة للبحث عن تجمعات اقتصادية توسع قدراتها وتعالج أزمات ومشكلات النظام الاقتصادى العالمى القائم.
من هنا يمكن قراءة التحركات المصرية فى ظل واقع إقليمى وعالمى متغير، وتحولات لا تتوقف وتعيد بناء علاقات الدول مع بعضها، حيث سعت الدولة المصرية لتوسيع علاقاتها، والدفع نحو تخفيف الصراعات ودعم أى مسارات سياسية فى الدول التى تشهد اضطرابات، وفى نفس الوقت تنمية اقتصادها، ومواجهة الانعكاسات المتعددة، من خلال التعاون والشراكة وفتح افاق التعامل الاقتصادى مع كل الأطراف، بما يضمن مصالح مشتركة، فلم تتوقف مشاركات مصر فى ككل الفعاليات الاقتصادية، وفتح افاق التعاون مع كل الدوائر.
ولهذا تكتسب زيارة الرئيس البرازيلى لولا دا سيلفا لمصر ولقاؤه ومباحثاته مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، لكون البرازيل أهم الدول المؤسسة لتجمع «بريكس»، - تجمع الاقتصادات الناشئة - والذى أسسه خمسة أعضاء فى مجموعة العشرين «البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا»، وقرر فى الدورة 15 أول سبتمبر 2023 فى جوهانسبرج ضم مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإثيوبيا وإيران، لتصبح أعضاء كاملة العضوية منذ يناير الماضى.
«بريكس» يعكس رغبة الاقتصادات الناشئة فى بناء نظام عالمى متوازن يسمح بالتنمية والتعاون ضمن نظام اقتصادى أكثر مرونة وانفتاحا وأقل تحكما وتدخلا، والمفارقة أن «بهارى» الهند هى التى ترأست قمة العشرين الأخيرة، التى شارك فيها الرئيس السيسى، وتسلمت البرازيل رئاسة قمة العشرين وتعقد فى ريو دى جانيرو نوفمبر المقبل، ووجه الرئيس لولا دا سيلفا الدعوة للرئيس عبدالفتاح السيسى، وقال خلال المؤتمر الصحفى مع الرئيس السيسى: «نريد أن نشجع أيضا المباحثات حول الديون الخارجية للبلدان الفقيرة، ورغم مشاركة الاتحاد الأفريقى فى مجموعة العشرين انطلاقا من هذا العام، فإن القارة تحتاج إلى تمثيل أكبر وإدراج بلدان أخرى، مشيرا إلى أن بريكس سوف تعمل على إصلاح الحوكمة الدولية وبناء السلام، بما يمثل فرصة لمنح البلدان فرصة المشاركة فى مسيرة التنمية، وهناك اهتمام من جانب البرازيل لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية فى بريكس، كى لا يرتبط العالم بعملة واحدة».
تجمع بريكس ضمن تحركات من دول مثل الهند والصين وروسيا والبرازيل وبعد انضمام مصر والسعودية والإمارات وغيرها تسعى نحو نظام عالمى متعدد، يهدف إلى تغيير، يعكس حجم وقدرات دول الجنوب، بشكل يمكنها من التعامل مع طموحاتها الاقتصادية ومنها إعادة التعامل مع قضية الديون والتمية.
من هنا يمكن قراءة السياسة المصرية المنفتحة، للتعامل مع تشابكات السياسة والاقتصاد إقليميا ودوليا، وبناء توازن يتعامل مع التحولات، ويدعم التنمية وتلافى انعكاسات هذه التحولات.