«ومضى كل إلى غايته» كان هذا عنوانا كتبته بمناسبة تزامن رحيل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى يوم 16 فبراير قبل 8 سنوات، مع رحيل الدكتور بطرس بطرس غالى الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة والفرانكفونية والكثير من المناصب الدبلوماسية والسياسية.
رحل الاثنان يوم 16فبراير 2016، وقد جمعتهما الحياة والعمل قبل أن تتفرق بينهما السبل وتتقاطع الطرق.
والواقع أن كلا من الأستاذ هيكل والدكتور غالى كان له تأثيره وارتباطه بالحياة العامة، وله فلسفته فى الحياة، وأيضا ارتباطه بالسلطة وعلاقته معها، فقد حرص هيكل على ممارسة سلطته فى الكتابة والسياسة بطريقته، بعد أن غادر دائرة السلطة المباشرة، بينما غالى كان يفضل واقعية السلطة المباشرة.
وكلاهما -هيكل وغالى- من نفس الجيل، بينهما عام واحد فقط، ولد بطرس غالى 1922، بينما ولد هيكل عام 1923، وتقاطعت وتباعدت بهما الطرق، حيث غادر هيكل الأهرام وبقى غالى بجوار الرئيس السادات، وكان يراه موهبة سياسية وأنه نجح فى إبرام السلام الصعب مبكرا، بينما انتقد هيكل الرئيس السادات بحدة وأحيانا بانتقام، بل إن موقفه من الدكتور غالى ربما كان غالى يعتبره غير مبرر، وأحيانا شخصيا.
والواقع أن الدكتور بطرس غالى من قليلين لم يخفوا عشقهم للسلطة، بل إنه ربما كان أحد أهم من قدموا نظريات فى العلاقة بالسلطة والارتباط بها، ومن هذا الجانب فإن مؤلفات الرجل وأفكاره صدرت فى حياته فى شكل مذكرات، بالطبع كان الرجل دبلوماسيا فى كتابته للتواريخ والأحداث، وإن كان لم يخف مشاعره تجاه من اعتقد أنهم آذوه، وبقدر ما يحرص عليه الدكتور بطرس غالى من دبلوماسية فإن كتاباته تتسم بالكثير من الحكمة والعمق، وتعكس ثقافة واقعية تتعامل بوضوح، وتمثل مذكرات الدكتور غالى جزءا مهما من تواريخ وسياقات السياسة الخارجية طوال سنوات وعقود ساخنة.
ومن أهم كتب الدكتور غالى يأتى كتابه «فى انتظار بدر البدور» الذى يسرد فيه مذكراته فى الفترة التى تلت خروجه من منصب الأمين العام للأمم المتحدة، حيث اعتبر خروجه نوعا من الموت، لكنه لم يتوقف عن البقاء فى مركز السلطة حتى لو كانت الفرانكفونية، والواقع أن الدكتور غالى طوال كتابه « بدر البدور» يقدم أكثر نظرياته عن السلطة، بل إنه يرى أن هناك من الأشخاص من كانوا يبدون نوعا من الزهد بينما يتنافسون ويحاولون البقاء فى دوائرها.
ويعبر الدكتور بطرس غالى عن عشقه للسلطة خلال غداء مع الرئيس البرتغالى الأسبق الراحل ماريو سواريس الذى قال له: يجب أن نحسن اختيار الوقت الذى نترك فيه السلطة، وقال له الدكتور بطرس، إن لدى مفهوما أوسع للسلطة أدرك جيدا أن السلطة يمكن أن تكون ثقافة، فنشر المقالات والمشاركة فى الندوات هو أيضا شكل من أشكال السلطة، ولكن لا بد لى أن أقر بأن للسلطة السياسية نكهة خاصة، وهى تقريبا أشبه بكأس ويسكى يحرق الحلق لكنه يمنح شعورا لذيذا، هو نفسه الطعم اللذيذ المتمثل فى السلطة.
وعندما كان يشكو له أحد السياسيين من الهجوم عليه والانتقادات كان غالى يرى أن هذا جزء من الثمن الذى يدفعه من يبقى فى السلطة، فهو ثمن عادل وضرورى، وهنا بالرغم من الخلاف والاختلاف بين الأستاذ هيكل والدبلوماسى، كان غالى يرى أن الكتابة والبقاء بطريقة ما نوع من ممارسة السلطة، وهو ما حدث فى حالة الأستاذ هيكل الذى أثر فى أجيال عديدة، حتى بعد ابتعاده عن السلطة بمفهومها المباشر لكنه نجح فى البقاء فى دوائر الضوء والتأثير، وهو أمر بقى محل اختلاف فى زوايا النظر إليه من قبل مريدين ومعجبين ونقاد تماما مثل غالى الذى لم تخل مسيرته من نقاط تنوع.
وتبدو علاقة الدكتور بطرس غالى بالسلطة هى مفتاح حياته، وأيضا مفتاح الدخول إلى مذكراته التى يسميها بانتظار بدر البدور فالرجل الذى شغل مناصب وزارية، وصعد إلى أكبر منصب دولى كأمين عام للأمم المتحدة، ولم يمانع فى السعى لشغل منصب الأمين العام للفرانكفونية وهو منصب فلكلورى حسب تعبير أحد الذين حاولوا إقناعه بعدم الترشح لكنه كان يصر على البقاء ضمن دوائر الضوء السياسى أيا كان، وحتى اسم الكتاب بانتظار بدر البدور جاء بينما استقبل سرا بناء على نصيحة أحد معاونيه عرافا، فى نيودلهى بالهند عام 1994، سأله غالى عما إذا كان سيتم انتخابه لفترة ثانية فى الأمم المتحدة، فقال له إن ذلك لن يحدث، لكنه نور سيشع فى حياته وسيسطع أكثر، وقال إنه لا يزال ينتظر هذا النور، أو بدر البدور، وهو ما يمكن طبعا أن يعوضه عن السلطة التى فقدها.
والواقع أن غالى خلال توليه منصب الأمين العام للأمم المتحدة، وكان أول مصرى وعربى وشهدت ولايته عمليات صعبة وطويلة الأمد لحفظ السلام فى البوسنة والهرسك، والصومال، ورواندا، لكن نهج غالى المستقل، أغضب الولايات المتحدة، وعندما قصفت إسرائيل مركز «فيجى» التابع للأمم المتحدة فى قرية قانا اللبنانية عام 1996، واستشهد 106 مدنيين، وأصيب العشرات، وبالرغم من أن الولايات المتحدة رفعت الفيتو فى مجلس الأمن ضد إدانة إسرائيل، غالى أصر على إجراء تحقيق عسكرى أدان إسرائيل بتعمد قتل المدنيين، وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن إسرائيل انتهكت القوانين الدولية.
كان تقرير الأمم المتحدة صدمة للرئيس الأمريكى، دفع الولايات المتحدة للمرة الأولى إلى أن تستخدم الفيتو ضد التجديد لغالى فى الأمانة العامة، غالى قال إنه لم يندم على موقفه، بل إنه اتهم بمعاداة إسرائيل، وهو موقف شجاع، يشير إلى أن الرجل الذى أحب السلطة، رفض الخضوع للولايات المتحدة على حساب مبادئه.
وترك تراثا من العمل الدبلوماسى والأفكار السياسية المهمة التى تمثل نظريات مهمة فى مدارس العمل العام، وأيضا ترك الأستاذ هيكل تراثا من الأفكار، كلاهما أثار الجدل والتأثير.