"رق الحبيب وواعدنى يوم.. وكان له مدة غايب عني/ حَرَمت عينى الليل من النوم.. لاجل النهار ما يطمّني".. صوت أم كلثوم يتجلى من مكان ما أحاول أن أدركه هنا في شارع الرشيد، الشريان الرئيسي في بغداد، يخبرني أصدقائي العراقيين أن الشارع الممتد بين باب المعظم شمالًا والباب الشرقي جنوبًا، يمثل ذاكرة البلد الفنية والثقافية، تعددت صالاته السينمائية: رويال، سنترال، الرشيد، الزوراء، الوطني، الرافدين الصيفية، كما إزدهر بمسارحه وملاهيه منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، زارته فرقة بديعة مصابني وجورج أبيض بفرقته وعرضت فاطمة رشدي أول مسرحية لفرقتها في سينما الوطني، وغنت منيرة المهدية في سينما سنترال ثم ملهى الهلال، إلى جانب العازفين اليهوديين صالح وداود الكويتي، وهما اللذان أسسا الأغنية العراقية الحديثة، فضلًا عن ناظم الغزالي وزوجته سليمة مراد، حسب تصريحات متداولة للباحث التراثي باسم عبد الحميد حمودي..
يخبرني العراقيون أيضًا أن الرشيد هو الشارع الذي تأسست فيه عام 1918 شركة جقماقجي لتسجيل الأسطوانات الموسيقية والغنائية، تلك التي حفظت قسمًا كبيرًا من التاريخ الموسيقي والفني العراقي، فبالإضافة إلى تسجيلها اسطوانات لرموز الغناء العراقي مثل محمد القبانجي، ناظم الغزالي، عفيفة إسكندر وغيرهم، سجلت كذلك لمحمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، فايزة أحمد، وفي مقدمة الصف كانت أم كلثوم التي يسطع صوتها الآن في جنبات الشارع، بينما تحولت شركة جقماقجي لتسجيل الأسطوانات الموسيقية والغنائية إلى محلات لبيع الملابس بعد أن تعرضت للسرقة والتخريب إثر الغزو الأمريكي للبلاد في العام 2003.
أم كلثوم لا يزال صوتها يصدح في شارع الرشيد وهي التي لاح صوتها فيه أول مرة حين غنت على مسرح الهلال عام 1932 )مغلق حاليًا، كانت تمتلكه المطربة اليهودية سليمة مراد زوجة ناظم الغزالي(، يتسلل الصوت على بعد أمتار قليلة من موقع المسرح القديم، وبالقرب من ساحة الميدان، داخل مقهى "ملتقى الأسطورة" كصهيل فرس غير مروض يوقظنا من غفوتنا، وعلى الرغم من أن 91 عامًا تفصلنا عن أول مرة غنت فيها على مسرح الهلال، 55 عامًا على إنشاء المقهى، 49 عامًا على رحيل "الست"، إلا أنها باقية كاللحظة الأبدية، تتصدر صورتها المقهى العريق، راسخة كملكة تومئ لنا بالدخول، منديلها في يدها يضبط إيقاع خطوتنا في ليلة نفتش فيها عن قطرة ضوء، طمأنينة، وبعض الرفق يعيدنا من عُسْر أيامنا سالمين، نتلمسه في صوتها الذي لا خلاف عليه تقريبًا، يصفه محمود درويش قائلًا:" في حنجرتها جوقة إنشاد وأوركسترا كاملة، وسر من أسرار الله".
بمجرد ولوجنا داخل المقهى تحركت بنا آلة الزمن إلى أجواء أكثر حميمية، الجدران ذاتها تنطق فقط بالتاريخ الطيب، بهذه المساحات التي تقطعنا عن أخبار الحروب والانفجارات والشقاء البشري الذي أصيبنا به جميعًا.. الديكور البغداي في مقاعدها وطاولاتها يتوازى مع الصور المنتشرة في أرجاء المكان، صور نادرة لأم كلثوم مع عبد الناصر والسادات والموجي وشخصيات عراقية بارزة، تُمثل رحلتها الفنية وتعد جزءًا من حكاية وطن بأكمله ثقافيًا وسياسيًا وإنسانيًا.
في المقهى شرائح وطوائف مختلفة من المجتمع العراقي، أجيال وطبقات وفئات: الطبيب، الأستاذ والطالب الجامعي، الكاتب، الشاعر، السينمائي، المطرب، العامل، الرياضي، بخلاف بعض زوار شارع المتنبي القريب جدًا، هذا هو الطابع المتنوع لرواد المقهى منذ أسسه الحاج عبد المُعين الحاج أحمد الموصلي، لقد كان في بدايته مقهى صغيرًا، ثم اتسع بازدياد المقبلين عليه، لقد قام الحاج عبد المعين بتجميع وكوَّن مكتبة موسيقية ضخمة من مصر ولبنان ضمت التسجيلات والأشرطة المتنوعة لأغنيات أم كلثوم، يُقال أنه حتى الإذاعة العراقية كانت تستعير منه بعض التسجيلات النادرة.
انتقلت ملكية المقهى إلى الحاج تحسين المياحي )أبو مروان( منذ العام 1989، وهو يحتذي إلى حد ما نهج الحاج عبد المعين في الحفاظ على تراث أم كلثوم لكن بشكل عصري، حيث يستخدم الكمبيوتر في تجميع الأغاني وتشغيلها، بينما الأجهزة القديمة تحاوطه كأنها شواهد على ماضي لم يندثر إنما ينبعث عن طريق وسائل أخرى تلائم الراهن وحداثته.. يجلس الحاج أبو مروان خلف مكتبه الذي يتوسط المقهى ويطلب منه رواده الأغنية التي يودون سماعها، والجميع يتفاعلون مع المكان وانسياب الأغنية وكوب الشاي الساخن على الطريقة العراقية.
بينما اقتربت من "أبو مروان" إذ سألته عن "رق الحبيب"، فأجابني:"الأغنية اليتيمة التي جمعت أم كلثوم ومحمد القصبجي"، أشرد في كلامه المسترسل ثم يعيدني من شرودي صوت الست:" لما قرب ميعاد حبيبي .. ورحت أقابله/ هنيت فؤادي على نصيبي .. من قرب وصله"، وأتمتم لنفسي: كان لابد أن تكون هذه الأغنية يتيمة يصعب أن يخاويها القصبجي مع أم كلثوم، لديه الكثير من الأغنيات الأخرى الرائعة، لكن "رقّ الحبيب" رائعته التي اكتفت بها الست، وكف القصبحي عن التلحين وظل حاضرًا في موقعه بصدارة التخت الموسيقي خلف أم كلثوم.
يبدو الحديث هنا، عن أم كلثوم الأسطـــورة المتنقلــة، العابرة للأجيال، الثابتة في نجاحها حتى اللحظة ليس نوعًا من اجترار الذكرى والانسحاب إلى الماضي، إنما في رأيي لأن صوتها الهادر يمكنه بسهولة أن يطلق الآه من صدورنا، أنظر حولي فتلتقط عيني هذا الرجل الأربعيني الذي تتوسط طاولته المقهى وهو يضيع مع اللحن والكلمات، يستند خده على كفه ثم يهز رأسه في أسى حينًا ورجاءً أحيانًا، أراه أسير سلطان ونفوذ صوت "الست" الذي ينتشر في المكان متجاوزًا الحياة العصرية وربما القوانين الفيزيائية، حضور أسطوري لمسته منذ اليوم الأول في بغداد، فكل صباح يستقبلني صوتها في مطعم الفندق ويظل يصاحبني على مدار اليوم، وها هي تستحوذ على شارع الرشيد بمقهى يرتاده أهل المدينة ويهرول إليه المغتربون، الجميع متعطش إلى السماع والسلطنة والاحتماء بها من قسوة الواقع الخارجي، قد يفسره البعض بأن هذا الحضور الأسطوري الطاغي يليق بتربع "الست" على قمة الغناء العربي، كظاهرة فوق مستوى النقاش والجدل وكرمز وحدوي عربي وقومي مشترك، لا أعرف إن كانت هذه المصطلحات مازالت صالحة في زمننا هذا بعد كل التغيرات العاصفة التي مررنا به، لكني أشعر بالكثير من الفخر حين يناديني العراقيون يا "ست" كنوع من التهذيب، وأتماهى مع نور "ست الكل" وهي تشدو على خشبة المسرح باعتزاز، وإن كنت لم أشاهد أية سيدة تدخل مقهى "الست".
تأبى مقهى "ملتقى الأسطورة" على الاندثار، بالضبط مثل أم كلثوم راسخة، صلبة، تفتح أبوابها من السادسة صباحًا، تحاول مقاهي أخرى تعتبر من رموز بغداد التراثية والمكانية أن تحاذيها في التماسك مثل الزهاوي، الشاهبندر، وغيرهما، بل يمتد ظل أم كلثوم بمقهى أخر اسمه "كوكب الشرق" يتصدرها صورتها وتحيطها صور نجوم الغناء العربي: عبد الحليم حافظ وردة، أسمهان، فريد الأطرش، نجاة.. كأنها تقود حركة التنوير الفني وتواجه بحسارة تبدلات الزمن والتاريخ، المثير أنه ينصاع إليها عشاق يتنافسون على شيء غير ملموس، أغادر المقهى وصوت أم كلثوم يتلون مع لحن الشيخ زكريا أحمد، يدخل بمقام بياتي، هادئًا كما لو كان "وشوشة" تتساءل في دلال: هو صحيح الهوى غلاب..؟ ثم تجيب في نبرة رائقة حيادية: ما اعرفش أنا..، تترك للمستمع التخمين وتأمل الهوى وأفعاله ومواعيده وأهواله، قبل أن تتورط هي وتعلن: "جاني الهوى من غير مواعيد" ثم: "نظرة وكنت أحسبها سلام، وتمُرّ أوام"، قبل أن يسخن صوتها وتصرخ بلوعة: "يا قلبي آه .. الحب وراه، أسباب وألم، وعلى المكتوب .. ما يفيدش ندم"، وتجرنا معها إلى عبثية الأسئلة في الحب: "إزاي يا ترى، أهو دا اللي جرى .. أهو دا اللي جرى"، بينما نردد معها ونحن المتلهفين إلى لحظة جارفة الجمال في حاضرنا الضحل: وأنا ما اعرفش".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة