مجرّد التلميح للمشروع أربكَ السوقَ الموازية قبل أسابيع، فتراجع سعرُ الدولار بهامشٍ ملموس، وتقلَّص نشاط المُضاربين انتظارا للاتفاق النهائى. وبالتبعية فإنَّ الإعلان قبل يومين عن الشراكة المصرية الإماراتية فى «رأس الحكمة»؛ سيتركُ أثرًا مُباشرًا على السوق فى كلِّ جوانبها. والعلامةُ الأُولى أن العملة الأمريكية اختبرت جولتى تراجع فى يوم واحد، من 64 إلى 52 جنيهًا تقريبًا، ليكون إجمالى موجة التصحيح 20 جنيهًا فى أسبوعين، ويتراجع فارق الشارع عن البنوك لنحو 67% فقط، بعدما تجاوز فى بعض الفترات مستوى 130%.. الفاعليةُ السريعة للخطوة ربما تُؤسِّس لمسارٍ جديد تمامًا؛ لا سيّما مع النزعة الإصلاحية للدولة فى رؤيتها الجديدة، كما لا ينفصل فيها ترتيبُ الأولويات وتخفيض الاستثمارات الحكومية، عن التخارُج من بعض المشروعات، ومحاورة الشركاء الدوليين، وأخيرًا تنشيط منصَّة الحوار الوطنى على مُرتكزٍ اقتصادى، يُقارب الأزمةَ من زوايا فنية واجتماعية وسياسية مُتشابكة، لا تتعالى على التكتيكى المطلوب عاجلاً، ولا تغفلُ عن الاستراتيجى الذى يجب ألا يُنكَر أو يُزاح خارج دائرة الأهداف والحلول.
الاتفاقُ الأخير عموده تنمية منطقة رأس الحكمة على ساحل المتوسط؛ لكنه لا يبدأ منها ولا ينتهى عندها. عمليًّا؛ ما كان يسيرًا إبرامُ صفقة بهذا الحجم؛ لولا أن سبقها تمهيدٌ فى التخطيط والتنمية والعمران. لقد جاء الإماراتيون لنقطةٍ تبعُد 350 كيلومترًا شمال غربى القاهرة؛ لأنهم عاينوا تأسيسًا نوعيًّا، عميقًا ومُستقبليًّا، لخطةٍ وطنية لا تتكوَّر تحت أسوار الحاضر، ولا تتقيَّد طموحاتُها بالظروف القاسية، أو بميراثنا الطويل من الرخاوة وانعدام الخيال. وباختصار، كانت العاصمةُ الإدارية دفعةً تسويقية مُهمّة للفلسفة الجديدة، وقدَّمت «العلمين الجديدة» نموذجًا صالحًا للتكرار، ويُؤشِّر مشروع الضبعة النووى لاهتمامٍ استثنائى بالمنطقة، أمَّا مسارُ القطار السريع من العين السخنة لمطروح؛ فكان العتبةَ المثالية لأن ترسو أقدام المُستثمرين، وأن يتشجّعوا على اختبار جغرافيا لها صفة التطرُّف والانعزال بكل بكارتها ونقائها، وفيها إمكانات الاتصال بالجسد والرَّبط مع أطرافه الحيوية.
المُعلَن فى مؤتمر رئيس الحكومة أن التفاهمات تشمل 40 ألف فدان «170 مليون متر مربع»، ما يقل بنحو 17% عن العلمين عندما تكتملُ مراحلها. والشقُّ المالى يُؤمِّن 35 مليار دولار، منها 24 مقابل حقوق تطوير رأس الحكمة، ولن تكون مُنتجعًا سياحيًّا أو مقصدًا موسميًّا؛ إنما مدينة عصرية مُتكاملة على غرار جارتها الشرقية. ثمّة منفعة ظرفيَّة من تدفُّقات النقد الأجنبى، بما يُعزِّز الملاءة المالية ويسدّ فجوات التمويل وعجز المدفوعات؛ لكنَّ الكسب الأكبر يتمثَّل فى تعميق مُخطَّط التنمية، واستكمال ما بدأته الدولة لتأهيل ساحلها الغربى، مع ما يتأتّى عن ذلك من توسعة المعمور وإعادة التوزيع الديموغرافى، وامتلاك بيئات حضرية قادرة على توليد الدخل وتحقيق التنوُّع والاستدامة. كانت الماليةُ العامة فى أشدِّ الاحتياج لمردود الصفقة؛ لكن الحاجة لِمَا ورائها من غاياتٍ بعيدة ربما يفوقُ ما عجَّلت به من موارد دولارية.
بحسب بيان «القابضة ADQ» عبر موقعها الرسمى؛ فإنها تقودُ تحالفًا استثماريًّا بالقيمة المُعلنة. تُسدِّد 69% منها تقريبًا للحقوق، وتُوجِّه البقيّة بنحو 11 مليار دولار للاستثمار فى العقار وبعض المشاريع الرئيسية، وتحتفظ الدولة بنسبة 35% من المشروع وعوائده. والشركةُ الإماراتية تأسَّست قبل ستّة أعوام، ولها نشاطٌ واسع فى الطاقة والنقل والمرافق والأغذية والصحة والزراعة واللوجستيات، كما أنها شريكٌ استراتيجى لحكومة أبو ظبى، وغرضها تطوير اقتصاد الإمارة وتنويع محفظته، وأن يتعزَّز مُكوّنه المعرفى والتنافسى عالميًّا. ومعها فى التحالف: مُدن العقارية، ومجموعة طلعت مصطفى. الأُولى حقَّقت حضورًا مُهمًّا فى السوق الكويتية ولها 300 مبنى بالقاهرة، ومشروعات ضخمة بالعاصمة الإدارية أهمها البرج الأيقونى، والثانية طوَّرت مُدنًا ناجحة وصارت واحدًا من أكبر اللاعبين محليًّا وفى الإقليم. والمعنى أن الاتفاق مصلحةٌ مصرية إماراتية، تتلاقى فيه الحكومتان ومجتمع أعمال البلدين، ولا تشوبه مآخذُ الغلبة أو الاستئثار؛ بل يسعى لتكامُل الجهود والخبرات، وبأثر المواكبة الرسميّة وسوابق أعمال الشركات الداخلة فيه؛ فإنه وضعَ قدمًا راسخة على أول الإنجاز، وما يتبقَّى تفاصيل تخص المُخطَّط الزمنى ومراحل التنفيذ وجَنى الثمار.
فلسفة «ADQ» جَليّةٌ فى بيانها؛ إذ تقول إنها تستهدف استقطاب استثمارات بـ150 مليار دولار، وتُخطِّط لأن تكون المدينة تجربة اقتصادية وترفيهية مُستدامة، بمطارٍ وموانئ ومراسى يُخوت، ومُجمَّعات سكنية وتجارية وفنادق فاخرة، ومنطقة حرَّة وقاعدة لوجستيات واتصال محلية ودولية، على أن تُبنَى بمواصفات ذكية رقمية، وتُوفّر حلولاً مُتكاملة للبنية التحتية والنقل والطاقة والمياه. وقال رئيس الوزراء إنها ستعملُ على جذب ثمانية ملايين سائح سنويًّا، بما يتجاوز نصف الحركة الحالية. وبالمزاوجة بين الترفيه وتدشين قاعدةٍ تقنية وخدميّة مُتطوِّرة؛ فإنها ستصيرُ وجهةً سياحية وبيئةَ عمل نموذجيّة، وإذا قُورنت بالعلمين الجديدة فى المساحة والتخطيط؛ فربما يتجاوز قاطنوها الدائمون حدَّ المليونين، وبهذا تُؤسِّس للتوطين بمعناه الديموغرافى والاقتصادى: أن تمتصَّ حصَّةً من كثافة الدلتا، وتُصدِّر العقارَ للخارج، وتُركِّز أُسسًا تجارية ومالية لأعمالٍ عابرة للحدود، مع استحداث أنشطة ووظائف بجدوى أعلى وتأهيل بشرى أكثر تقدُّمًا.
لا يُمكن إغفال أثر المحبَّة قَطعًا؛ فقد جاء الأشقاء فى وقتِ أزمةٍ وضغط، وبأثر ما يضخُّونه من نقدٍ حاضرٍ؛ ستَسهُل مهمَّة إدارة التحديات الراهنة؛ فتتضاعفُ قُدرة البنك المركزى على ضبط سياسته النقدية، وتُوفِّى الحكومةُ التزاماتِها، وتستكمل مُداولات المُؤسِّسات والشركاء الدوليين بثباتٍ وثقة. لعلَّ تلك الزاوية ضرورية فى النظر للصفقة؛ لكنّها ليست الوحيدة، وربما لا تكون الأُولى أيضًا. ليس فى بيان «القابضة» ما يُشير لأبعادٍ سياسية؛ إنما الحديث عن خطوةٍ استثمارية تنضبطُ بمعايير الربح والمصالح المشتركة، ولولا أن فى المشروع ما يُغرى، ويضمنُ أن يكون مُغامرةً مأمونةً لا مُقامرة يحفّها الخطر، فربما أطالت الشركة التفكير. وهكذا يصحُّ أن نُظهر الامتنان لبلدِ الشيخ زايد رحمه الله، وبيننا من الأواصر ما لا يُخالجه شّكٌّ أو يعوزُه دليل؛ لكن يتعيَّن ألَّا يُختزَل العَقدُ فى بُعدٍ عاطفى وتُهمَل أبعادُ العقل والمنافع المُتكافئة؛ لأن فى ذلك ما يُبسِّط رؤية الشركة الإماراتية، وهى كيان اقتصادى ناجح، وما يُغفِل قيمة مصر فى محيطها، وثِقَل ما تملكُه من عناصر قوَّةٍ، لها وحدها طاقةُ الجذب الكاملة للمُستثمرين من كلِّ الدنيا، إخوةً قريبين كانوا أو أصدقاء بعيدين.
بمُوجب الاتفاق ستتحصَّل مصر على دفعتين خلال شهرين: 10 مليارات دولار ونصفها من ودائع بالبنك المركزى، ثمَّ 14 مليارًا مع تحرير 6 مليارات بقيّة الوديعة. ستتأسَّس شركةٌ مُساهمة مصرية لرأس الحكمة، والمبلغ المُحرَّر سينتقلُ إليها بالجنيه ليكون نواةَ استثمار فى السوق المحلية. أى أن المشروع يضخُّ مبلغًا يُقارب الاحتياطى النقدى، تُوازيه محفظة استثمارية تفوق 340 مليار جنيه ستُوَجَّه لمجالات عمل الشركة القابضة، وأهمّها العقار والزراعة والصحة والغذاء. والتدفُّق المعجل فى أنحاء مصر، وما يتبعه من شراكاتٍ وجولات تسويق وتمويل إقليمية وعالمية للمدينة الجديدة؛ ستنعكسُ بالضرورة على القطاعات الإنتاجية الوطنية، بمزيدٍ من التوظيف والطلب على الإنتاج المحلى. والأهمّ أن للشريك قُدرةً على تدبير المُكوِّن الدولارى المطلوب لمُدخلاته المستوردة، بفضل نشاطه الخارجى وملاءته المُرتبطة بالكيان الأُمّ؛ أى أن مسار العمل لن يُزاحِم على دولار الحاجات الأساسية، ولن يرتبك بأثر أيَّة إجراءات مُحتملة للتقشف وضبط الواردات.. ويُترجمُ دخول السوق عند التسعير الحالى ثقةً فى ركائزها، وفى فاعليّة السياسات المُقترَحة لتقويمها؛ حتى مع افتراض الاتفاق على مُعاملٍ حسابى أكثر ديناميكية للصرف، أو انتظار الدفعة الثانية من الصفقة ما ستُسفر عنه ورشةُ صندوق النقد.. إنها بناءٌ للفُرَص لا انتهازًا للظروف، وشراكةٌ فى تدعيم صلابة الاقتصاد بالإسناد لا الاستغلال، واستثمارٌ فى العافية لا المرض، يتقاسمُ الشريكان بموجبها أعباء الخروج من الظرف القاهر وعوائد الانطلاق المأمول. وبتفعيل مبلغ الوديعة اليوم، وبدء العمل شمالاً بحلول 2025؛ فإنَّ الزخم يتدفَّق مثل موجةٍ من المركز للأطراف، ذروتها فى المدينة الجديدة مع خطَّةٍ مُمتدّة زمنيًّا وحصيلةٍ من عائد الشراكة ومقابل المرافق والرسوم وتراخيص الأنشطة والشركات، ما يجعلها أصلاً مُثمرًا وموردًا مُتجدِّدًا طويل المدى للدخل والنقد الأجنبى.
للتوقيت دلالةٌ مُضاعَفة. الأزمةُ بدت بالشهور الأخيرة فى ذروتها، واستفحلت المُضاربات والسوق السوداء، وتخوض الحكومة حوارًا ماراثونيًّا شاقًّا مع صندوق النقد، ستتبعه التزاماتٌ وإجراءات. ورسالة الشراكة أن مصر ليست محصورةً فى رُكنٍ ضيِّق، ولا تزال قادرة على إنتاج الفُرص الكُبرى وإغراء المستثمرين واصطياد فوائضهم الحائرة. سيسمح ذلك بأريحيّةٍ فى بحث التخارُج من بعض القطاعات، وفيما يخص مراجعة سعر الصرف، ومُراجعة تسعير بعض السلع والخدمات. كما يُعدِّل نظرةَ المُؤسَّسات الدولية للسوق وإمكاناتها الحيوية، فلا تتشدَّد فى الشروط أو تتباطأُ فى التوافق، وبجانب تسهيلات الصندوق المُنتظَرة فإنَّ عَقد «رأس الحكمة» سيُثير شهيّة كياناتٍ كانت مُتحفّظة أو خائفة، ويرفعُ الحصيلة المُتوقعة من الاستثمار المباشر والمُورَّق. فور التوقيع قال «جولدمان ساكس» إنه سيسُدّ فجوةَ التمويل لأربع سنوات مُقبلة، ما قد يتبعه تعديلٌ إيجابى للتصنيف الائتمانى أو تخفيفٌ للمُراقبة الحذرة، بعدما كان رهانُ المُغرضين على اتِّساع العجز أو مَوعد التخلُّف عن السداد. كما أن الإعلان قبل ساعاتٍ من عودة الحوار الوطنى، بجلساتٍ تخصُّصية تُعطى الأولوية للاقتصاد، إنما يُوصل رسالةَ طمأنة للأجنحة السياسية والاجتماعية، وينقل المداولات إلى نقطةٍ مُتقدِّمة؛ لا تكون مضغوطةً بثِقَل الأزمة وحدها ولا مُكبَّلةً بمحدودية الخيارات؛ بل تُقارِب المسألةَ من حيِّز تتجاورُ فيه التحدِّيات مع الفرص، وينضبطُ التشدُّد الآنى بالآفاق المُستقبلية الواعدة. هكذا لا يعود الانشغال بالحاجات المُلحّة على حساب التطلُّعات المشروعة والمُمكنة، ولا تخرج الأفكار مُثقلةً بهُموم اليوم ومُتحلِّلةً من واجبات الغدّ.. اختيارُ ساعة الإعلان كان ذكيًّا؛ لأنه أربك المُضاربين ومن ينتظرون محطَّة تخفيض العُملة قبل دخول السوق، وطمأن الشارعَ نسبيًّا، وحرَّر الخبراء قبل النقاش من عبء الحلول الراديكالية الاضطرارية فى أُفقٍ مُغلق، كما حمل رسالةً للخارج بأن السوق ليست هشَّة، وتستندُ لهياكل اقتصادية متنوِّعة وقادرة على تخليق البدائل، وأن المنطقة يُمكن أن تُنتج حلولَها الذاتية، بأعباء أقلّ ومزايا نوعية أكثر ثراء.
تعرَّضت الفكرة للاستهداف والتشويه؛ كما جرت العادة. تلقَّفها الإخوان وإعلامهم منذ إشاراتها المُبكّرة بالوَصم والتضليل، وانجرفت بعض حسابات المنصات الاجتماعية وفق سيكولوجية القطيع. وكان رئيس الوزراء واضحًا بأنه اتفاق شراكةٍ لا بَيع. والتفاصيل تُفصح عن حقوق تطوير وحصص انتفاع، والمنطق أن الاستثمارات العقارية التى لا تتقاطعُ مع أُصولٍ استراتيجية ومنشآتٍ حيوية ذات طبيعة خاصة، كالآثار وقناة السويس وشبكات المرافق، لا تضرُّ فيها التعاقداتُ الطويلة بصفةِ الانتفاع أو الملكية. لن يحملَ المستثمرُ الأرضَ ويرحل، كما لن يُنفق ثروةً طائلة ما لم يطمئنُّ لاستعادتها بأرباحها، وبإمكان أى مصرىٍّ أن يتملَّك فى الإمارات وغيرها من الدول دون حساسيةٍ وتأويلات. المهمُّ أن الهجمةَ لم تسفر عمَّا أُريد منها، وتبدَّلت الآراءُ مع استعراض بنود التعاقُد وفلسفته ومزاياه. لكنَّ الاستخلاص من حالة الشحن المقصودة؛ أنَّ فريقًا، بعضه مجهول وأغلبه معلوم، كان يُتاجر بالأزمة ويستثمر فيها، ويتمنَّى لو انفلتت لدرجةِ ألَّا تُجدى معها الحلول. والمُفارقة أن الجماعة التى خلقت سوقًا سوداء للدولار بالخارج؛ لتحرمَ مصر من تحويلات المُغتربين وتُعمِّق عجزها، وقفت تختصم مسارًا تنمويًّا بديلاً يُفكِّك المشكلة الوقتية، ويُعظِّم قيمة صحراء أهملناها عقودًا، وربما تلاقى معهم بعض مُضاربى النقد والذهب، وكثيرون من المُحتكرين تجَّار الأقوات وأغنياء الأزمات. البسطاءُ والمُتضرِّرون من المحنة لن يُعارضوا منفذًا يُخفِّف معاناتهم ويعود عليهم والبلد بالخير؛ أمَّا المُستأسدون فى مُواجهة كلِّ مشروعٍ وقناة حلٍّ، فإنهم غالبًا يتربَّحون من الخلل، أو لا يُريدون للناس التحرُّر من قيوده، لغرضٍ عدائى أو ابتزاز سياسى.
إذا كان الوضعُ المالى قبل يومين أقربُ إلى مريضٍ فى الرعاية المُركَّزة؛ فإن حقنة «رأس الحكمة» أنعشته، ووضعته على طريق النقاهة؛ لكنّها ليست حلًّا نهائيًّا فى ذاته. تمامُ التعافى مرهونٌ بسلامة التشخيص ونجاعة العلاج. الصفقة تُوفِّر مُتّسعًا للحركة خارجَ الضغوط الخانقة، وتكبحُ انفلات مافيا السوق المُوازية جزئيًّا ومُؤقّتًا، والمُؤكَّد أنهم سيُعاودون المحاولة. أمَّا المناعة ضد إغلاق الدائرة مُجدَّدًا فتحكمها ضرورات التصحيح الشامل، ومُواصلة ترتيب الأولويات سعيًا لمُداواة اختلالات التجارة والمدفوعات، وتوحيد سعر الصرف أو تضييق هامشه، واستدامة الضخ الدولارى للأنشطة الأساسية، مع تشديد الضربات للمُضاربين وعصابات النقد، وتفعيل الرقابة على الأسواق والتجَّار. ربما يُفيد أن ندرس إتاحة مُهلة لإيداعات العملات الأجنبية فى البنوك دون مُساءلة، بعدها يكون تداولها أو تلقِّى مدفوعاتٍ محليّة بها جريمةً تخضعُ لتدابير مُشدَّدة، مع تسريع وتيرة الشمول المالى ورقمنة المُعاملات عند حدود مُعيّنة، والتتبُّع الدقيق لحركة الأموال، وتناسُبها مع ملاءة الأفراد والشركات ومداخيلهم وأحجام تعاملاتهم الطبيعية. وتنبغى مُواكبة حالة التصحيح فى كلِّ المستويات؛ للتأكد من انعكاس حركة الصرف على تسعير السلع والخدمات، لا سيَّما فى السيارات والذهب والعقار والسلع المُعمِّرة. لدى الدولة وفرةٌ تسمح بالمناورة وإزعاج المُضاربين ومن اتّخذوا العُملة مخزنًا للقيمة وأداةَ تحوُّط. سيُحاول الحيتان امتصاص التدفقات الطازجة بتقليص العرض وإشعال الطلب، وإجبار الحكومة على حَرق بعضها فى الحُفرة العميقة بين السعرين الرسمى والموازى، والمطلوب العكس؛ أن تمتصّ الدولة الفوائض المُتداولَة أو المُخزّنة، بإنهاء الازدواجية ودَفع الحائزين للهروب من شَبح النزيف المُؤجَّل إلى ربحٍ يسير أو خسارةُ مُحتمَلة. لعلَّ للمشهد من اسم المدينة نصيبًا، و»رأس الحكمة» فى جوهره مشروعُ إنقاذٍ وتنمية، قيمته ألَّا يكون نهايةَ المطاف؛ بل بدايةً لنمطٍ غير تقليدى من العقود والشراكات. أمَّا «رأس الحكمة» فى معناها الرمزى فأن يكتمل ترويضُ الجنون والانفلات، ويرتدعَ الذين استمرأوا التربُّح ومُراكمة الثروات على حساب مصر والمصريين. رأس الحكمة وقلبها وعقلها أن تخلع السوق السوداء عباءتها الكئيبة، وأن تخرجَ الأموالُ المُخبّأة والاقتصاد غير الرسمى للنور. بقعة الضوء مهما بدت ضئيلةً؛ تكفى لتمزيق ستارٍ من السواد، والنقطة التى وصلناها مُضيئةٌ بما يسمح بالسَّير على هُدىً، وبتقويم الظلام والظالمين. الطريق التى تبدأ بالحكمة، يصحُّ أن تنتهى إلى الإنجاز؛ إن تحصَّنت بالبصيرة والإتقان والحَزم، وكلُّها لا تغيبُ عن إدراك الدولة، ولا تَعزّ على أدواتها الفاعلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة