هل تساءلت يومًا: أين نحن؟ كم الوقت لدينا؟ أين نعيش؟ ما شكل حياتنا المقبلة؟.. أظنها نوعية من الأسئلة الوجودية التي تفيض مع أخبار الحروب والعُسر، قبل مهرجان بغداد السينمائي بأيام قليلة أفادت وسائل الإعلام بانفجارات شرق العاصمة العراقية تتوازى مع أخبار الجرائم الصهيونية في غزة ورفح الفلسطينيتين، الجميع في حالة من الترقب. العنف والحرب تجربة لعينة، الألعن هو اعتيادها ومتابعتها على الشاشات لحظة بلحظة كأنها مسلسل تليفزيوني من نوعية دراما الأكشن والإثارة، تطبيع مُفزع وشديد القسوة مع الدم والقتل.
كنت قد شاهدت أفلامًا عراقية عبرت عن وضع بلادها وناسها ومواطنيها، بعضها منغمس في الوجع والبؤس ومنبثق من الوحشية والفتك والتغييب، تعكس شيئًا من وقائع العيش في نكبة الحرب كما ظهر في الفيلم القصير "ترانزيت" إخراج باقر الربيعي الذي يُدين الحروب ويرفض أثارها البشعة من موت وهلاك، وبعضها يتشبث بأمل في غد مُنْشَرِح وحيوي حتى ولو بأسلوب من الفانتازيا يرسم لنا العراق بوجه مجهول، مغطى، وطفل حائر يحاول الانفلات من الأجواء الجنائزية إلى فضاء مشرق وبهي حسبما قدمه الفيلم القصير "مظلة" إخراج حيدر فهد، وبعضها يثير العديد من الأسئلة مثل هذا المشهد في فيلم "ميسي بغداد" إخراج سهيم عمر خليفة، حيث يتوغل الأطفال في الصحراء العراقية على خلفية من أجواء الانفجارات والهجمات الانتحارية، يسعى الأطفال لتجميع الأسلحة في صحراء ملغمة يعرفون كيف يتعاملون معها، الأجواء تستدعي في خاطري كتاب "لماذا تقتل يا زيد؟" لمؤلفه الخبير والإعلامي الألماني، "يورجن تودينهوفر"، بما طرحه من قضايا مهمة تخص الاحتلال الأمريكي للعراق، و"زيد" هو طالب عراقي كان يهوى لعب كرة القدم، لكن الاحتلال أحدث تغيًرا مفاجئًا فى حياته، فتحول إلى محترف لتفجير المركبات العسكرية الأمريكية دون أن يقتل الأبرياء من المدنيين، ومع أن هناك تباين واضح بين الفيلم والكتاب، بين زيد وحمودي الصبي بطل الفيلم الذي يفقد ساقه في أحد الانفجارات، إلا أن الهم والأسى واحد، وبعض هذه الأفلام كذلك كما في "آخر السعاة" الروائي الطويل للمخرج سعد العصامي وحكايته عن ساعي البريد الذي يفقد حضوره وتأثيره بسبب تطور وسائل الاتصال، يطرح فكرة التغيير الزمني والتي تتوزع بين الحنين الجارف للماضي أو على حد تعبير أوسكار وايلد:"من المضحك حقًا أن هذه الأيام التعيسة التي نحياها سوف تصير في المستقبل أيام الماضي الجميلة".
أحمل هذه الأسئلة وأضيف إليها أخرى مُترعة بالشجن حين لبيت دعوة صديقتي الفنانة التشكيلية مينا الحلو لزيارة متحف الإعلام العراقي الذي تتولى مسئولية إدارته، مينا هي ابنة الكاتب والباحث أمير الحلو مدير الاذاعة العراقية الأسبق، وابتسام عبد الله المذيعة والصحفية والمترجمة والروائية الشهيرة، هذا كافيًا ليُفسر حماس مينا للتجربة الاستثنائية وتبرعها ببعض مقتنياتها الخاصة من أجل المتحف الذي يصنع لحظة تنوير عراقية شديدة الخصوصية.. أطلقها الموسيقي ذائع الصيت نصير شمة في العام 2018، وتحمس لها رئيس شبكة الإعلام العراقي السابق مجاهد أبو الهيل، لتكون صلة فكرية بين جيل الماضي والمستقبل، حتى يتعرف الشباب على إنجازات السابقين والظروف الصعبة التي أسسوا فيها مسيرة الإعلام العراقي، حسب تصريح نصير شمة لوكالة الأنباء العراقية (واع(.
مبنى المتحف قبل افتتاحه كان هو ذاته معهد التدريب الإعلامي المغلق، ثم أُدرج ضمن مبادرة "ألَق بغداد" التي سعت إلى إعادة تأهيل الفضاءات المُهملة، المبادرة التي تلقت دعمًا من مجموعة من مؤسسات وجمعيات عراقية حكومية وأهلية، وشارك فيها البنك المركزي، ومن خلالها تأسس المتحف الذي يضم مقتنيات الإذاعة العراقية منذ تأسيسها عام 1936، وهي ثاني إذاعة عربية بعد "إذاعة القاهرة" التي تأسست عام 1934، ومقتنيات التليفزيون العراقي الذي انطلق عام 1954، كأول تليفزيون في العالم العربي.
الجمال الكامل الذي لا نقص فيه، ربما هو ما تستدعيه الذاكرة بمجرد الدخول إلى المتحف، كل شيء يصنع حالة من الاشتياق والتلهف: الكاميرات وأجهزة المونتاج وأشرطة إذاعية وغنائية ونماذج أجهزة الراديو والتسجيل والوثائق والأرشيف الصحفي من جرائد ومجلات والكاريكاتير وصور نجوم الفن والكتابة والإذاعة والتليفزيون، الموزعة بنظام مدروس ودقة متناهية على قاعات المتحف، نوستالجيا آسرة وحنين إلى ماضي قد يكون حينذاك ليس مثاليًا بالدرجة المتخيلة، لكنه مقارنة بالأوضاع الحالية هو الأفضل وهو في الذاكرة جدار الأمان الذي يُستند إليه في مواجهة التحديات وقسوة الراهن، من هذا المنطلق يكون بديهيًا التطلع صوب هذا النموذج الذي يتطابق وجزء من مع استديو البرنامج الشهير "الرياضة في أسبوع" للمعلق ولاعب كرة القدم العراقي مؤيد البدري، والذي ارتبط به الجمهور العراقي على مدار ثلاثة عقود (من بداية الستينيات حتى بداية التسعينيات)، أو إلى النسخة النادرة من المصحف التي طُبعت في مصر خلال أربعينيات القرن الماضي، واستُخدمت في الإذاعة لقراءة القرآن في البث المباشر، وتم إنقاذها من حريق مبنى الإذاعة والتليفزيون عام 2003، أو إلى "بلبل الإذاعة"، هذا البلبل الذهبي الذي كان يُصدر تغريدات عند بدء بث الإذاعة كل صباح، وهو هدية من أدولف هتلر للملك غازي الأول بمناسبة إفتتاح الإذاعة عام 1936، كان قد سُرق أثناء حريق عام 2003 واسترده المخرج العراقي خطاب عمر حين اشتراه وأصلحه ثم أهداه للمتحف.
العين تتطلع بحنين جارف لتفاصيل المتحف، والعين هي "ايكي" الشعار الذي استلهمته مينا الحلو في تصميمها للشعار من الكتابة المسمارية في بلاد الرافدين القديمة.. مجهود كبير بذلته مينا الحلو والقائمين على المتحف من أجل تحقيق حلم تحمس له العديدون الذين تبرعوا بما يمتلكونه من مقتنيات، لم تكن المهمة سهلة ولكنها تحققت دون أن تتوقف عند حد معين، بل لم يزل العمل على تطويرها وتوسيعها قائمًا بما يناسب تاريخ وقيمة الإعلام العراقي، وبما يحقق ثلاثية: تأمل الماضي، التئام جروح الراهن، المشي إلى المستقبل بجذور قوية وخطوات ثابتة ترسخ أن بغداد رمز أو مدينة لا تموت، طالما هناك وعي بأن الماضي لا يتلخص في مصمصات شفاه أسيانة أو اجترار للذكريات عن أيام الجمال والازدهار، إنما تذكره هو نوع من المقاومة، وإن كانت المقاومة مؤلمة، فحب بغداد لا يخلو من وجع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة