تبدو متغيرات كبيرة تشهدها بالأبعاد المرتبطة بمفهوم "الشرعية" الدولية، والتي تقوم في الأساس على توافق غالبية الدول على أوضاع معينة، حتى تضفى عليها صبغة قانونية، تمنحها المزيد من القوة، في مواجهة المعترضين، إلا أن ثمة معضلة واجهت المفهوم، لعقود طويلة من الزمن، أبرزها صمود الدول، التي طالما وصفتها القوى المسيطرة على زمام الأمور بـ"المارقة"، حيث يبقى المثال الأبرز والأكثر إلحاحا، على انكسار المفهوم حتى الآن، متجسدا في القضية الفلسطينية، في ظل مروق إسرائيل، وعدم رغبتها في تحقيق حل الدولتين، والقائم على تأسيس دولة فلسطين المستقلة، رغم أنه يمثل توافقا عالميا يصل إلى حد الإجماع، وهو الأمر الذي ساهم في تقويض "الشرعية" المتوافق عليها عالميا لعقود طويلة من الزمن، دون حراك، وهو ما يرجع في جزء منه إلى تقاعس المجتمع الدولي تارة، أو قدرة الدول "المارقة" على الصمود في مواجهة العقوبات والإجراءات القاسية المفروضة عليها، والتي قد تصل إلى حد العزلة، على غرار نموذج كوريا الشمالية تارة أخرى.
ولكن ربما يبقى الحديث عن فلسطين وقضيتها، بمثابة الأولوية القصوى في اللحظة الراهنة، في ظل الظروف الراهنة، والمتمثلة في العدوان على غزة، وما آلت إليه الأمور من انتهاكات، ربما سبقت العدوان بعقود، ساهمت في انفجار الأوضاع، والمرشحة للتفاقم حال فشل المجتمع الدولي في تحقيق الحل العادل، و"الشرعي"، حيث تبقى القضية بمثابة النموذج الصارخ في هذا الإطار، في ظل التقاعس العالمي، والذي يصل إلى حد تبرير الاعتداءات التي طالت أطفالا ونساءً وشيوخ، تحت ذريعة الدفاع عن النفس، وهو ما يعكس الآلية التي تمكنت من خلالها القوى الكبرى، وهي الولايات المتحدة، من "شرعنة" قراراتها وتوجهاتها وسياساتها في مواجهة العالم، خاصة بعد بزوغ حقبة الأحادية الدولية، والتي اعتمدت على حشد الدول التي تدور في فلكها، وفي القلب منها دول المعسكر الغربي، مقابل الفوز بدعم واشنطن، سواء سياسيا أو اقتصاديا.
ولعل قدرة واشنطن، في حياكة ثوب من "الشرعية" على توجهاتها، حمل مسارين متوازيين، أحدهما إيجابي، عبر حشد الدول الموالية لها، لتمرير إرادتها، فيما أسميته في مقال سابق بـ"شرعية التحالفات"، وهو الأمر الذي ربما تحقق بسهولة في العقود الماضية، جراء كونها القوى الوحيد المهيمنة على العالم، بينما كان المسار الآخر سلبيا، عبر تقويض القرارات الأممية، المتوافق عليها عالميا، من خلال حق "الفيتو"، وهو ما بدا مؤخرا بجلاء، فيما يتعلق بالدعم الكبير الذي قدمته لدولة الاحتلال، في مواجهة قرارات لوقف إطلاق النار، رغم موافقة الأغلبية الكاسحة من دول العالم على هذا القرار.
إلا أن المستجدات الدولية، والمرتبطة بتغييرات تبدو جذرية في النظام العالمي، وصعود قوى دولية جديدة يمكنها مزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولي، تزامنا مع تراجع أمريكي واضح، ناهيك عن حالة من الانقسام باتت تضرب المعسكر الغربي بقوة، فيما يتعلق ليس فقط بالقضايا الدولية المثارة، وإنما أيضا حول جدوى استمرارية العمل تحت قيادة واشنطن، أضفت ملامح جديدة لمفهوم الشرعية، وهو ما يبدو في ردود الأفعال المرتبكة تجاه "الفيتو" الأمريكي تجاه غزة، وربما قبل ذلك فيما يتعلق بإدارة العلاقة بين الغرب وروسيا، في ظل الأزمة الأوكرانية، وهو الأمر الذي يخلق حالة من "الشرعية المتعثرة"، خاصة وأن التوافق الذي تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه في تلك القضايا، بات يتطلب تنازلات كبيرة للحلفاء، تنزع الكثير من كبريائها المعهود، على مدار سنوات الحرب الباردة، بالنسبة للغرب، وامتداداتها العالمية، في زمان الأحادية.
بينما يبقى صعود قوى جديدة مؤثرة في النظام الدولي، وقدرتها على إبداء قدر كبير من المرونة التنافسية، فيما بينها، عبر خلق توافقات من شأنها تعزيز مواقفها، بمثابة جانب آخر من مشهد "الشرعية"، حيث ساهمت بصورة كبيرة في خلق حالة أشبه بـ"التمرد" العالمي، في مواجهة الآليات الأمريكية، وهو ما بدا في الإدانات المتواترة لـ"الفيتو" الأمريكي، من قبل قطاع كبير من القوى الدولية والإقليمية، في غضون أسابيع معدودة، في ظل ما يمثله الإجراء الأمريكي بمجلس الأمن من دعم للاحتلال وما يرتكبه من انتهاكات كبيرة، تعكس هلامية الشعارات التي طالما روجت لها أمريكا، فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان، بينما قدمت إثباتا عمليا على ارتباط تلك المبادئ لمعايير التسييس طبقا للرؤية التي تتبناها واشنطن.
مرونة منافسي واشنطن، تجلت كذلك في خلق كيانات، وتكتلات باتت تحمل صدى كبير، على المستوى الاقتصادي والسياسي العالمي، على غرار تكتل "بريكس"، والذي يمثل نموذجا للتنظيمات الدولية "العابرة للجغرافيا"، في ضوء وجود ممثلين لأقاليم مختلفة، بين أوروبا (روسيا) وآسيا (الصين والهند والسعودية والإمارات وإيران)، وأفريقيا (مصر وجنوب أفريقيا وإثيوبيا)، إلى جانب المنطقة العربية، وحتى اقتحام الأمريكتين، عبر انضمام الأرجنتين، في الوقت الذي يشهد فيه العالم صعودا ملموسا للدور الذي تلعبه المنظمات الإقليمية، وهو ما يساهم بصورة كبيرة في اهتزاز "الشرعية الأممية"، في ضوء خضوعها لرغبات عدد محدود من القوى الدولية باعتبارها ذات التأثير الأقوى في العالم.
تعثر الشرعية الدولية، بصورتها التقليدية، والقائمة على تحقيق رغبات أمريكا عبر غطاء أممي، بات تحديا صارخا، تلامست معه الأمم المتحدة نفسها، عبر التحول نحو الضغط على القوى الحاكمة لتحقيق العدالة الدولية، وهو ما بدا في أزمة غزة، عندما لجأ الأمين العام أنطونيو جوتيريش إلى استدعاء المادة 99 من ميثاق المنظمة الدولية الأكبر في العالم، عبر دعوة مجلس الأمن للانعقاد في ديسمبر الماضي لبحث الأوضاع في القطاع، بينما تجلى الأمر بصورة أكبر مع التحول الأممي من الذراع التنفيذي (مجلس الأمن) إلى الجهاز القضائي (محكمة العدل الدولية) للحصول على فتوى قانونية بشأن احتلال الأراضي الفلسطينية وتداعياتها، في ظل إدراك أممي صريح بمسؤولية إسرائيل عما آلت إليه الأمور في 7 أكتوبر الماضي، وتداعياته.
وهنا يمكننا القول بأن مأزق الشرعية الدولية، لم يعد يقتصر على مجرد استشعار الحرج، من قبل القوى الكبرى، وإنما بات مرتبطا بإجراءات سواء من داخل المنظومة الأممية (اللجوء لمحكمة العدل الدولية) أو خارجها (عبر إدانات دولية من قبل القوى المؤثرة)، من شأنها وضع مزيد من التحديات أمام ما كانت تحظى به القرارات الأممية من سلاسة في التمرير والاستيعاب من قبل دول العالم خلال العقود الماضية، وهو ما يمثل معضلة مشتركة سواء للمنظمة الدولية الكبرى، أو الولايات المتحدة باعتبارها القوى الحاكمة للعالم، حتى هذه اللحظة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة