الخطوات التي يخطوها مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية سنويًا، تؤكد حرصًا على جعل السينما أساسية في مدينة معروفة بحضورها التاريخي، اختاروها لتكون الجغرافيا الواصلة بين مصر وامتدادها الأفريقي.. 13 دورة بخطوات ثابتة تزداد نضجًا وعنادًا في مواجهة الظروف الصعبة: إقتصادية وثقافية، بخلاف الحروب وغيرها من أزمات أثرت في صناعة السينما ذاتها، وهذا كافٍ مبدئيًا بتضييق الفرص على المهرجان لولا الإصرار على الاستمرار والتحدي، لعل من أهم ميزات هذه الدورة تنوعها في اختيار مكرميها، وهو سعي دقيق يكترث بالاختلاف سواء على مستوى الأجيال والخبرة والمرجعية وتقدير القديم وكذلك الأمل في المعاصر والقادم، أو على مستوى التفاوت في المدارس الفنية محليًا وأفريقيًا.
الدورة الجديدة تحمل اسم المخرج خيري بشارة، اسم لامع قدم نفسه بشكل قوي منذ بداية مشواره السينمائي.. مخرج جاء من السينما التسجيلية (صائد الدبابات ـ 1974)، (طبيب في الأرياف ـ 1975)، (طائر النورس ـ 1977) ، (تنوير ـ 1978)، ليقف في صف أبرز مخرجي السينما المصرية منذ فيلمه الروائي الأول (الأقدار الدامية) عام 1980، ثم فيلمه الثاني (العوامة رقم 70) عام 1982، كان إنطلاقته الحقيقية وجزء من تيار السينما المصرية الجديدة، مرورًا بـ (الطوق والإسورة) عام 1986، كشكل مغاير لم تألفه الأفلام المصرية حينذاك، و(يوم مر.. يوم حلو) عام 1988، متحديًا الواقعية الكلاسيكية بأسلوب حيوي يتأرجح بين العقل والعاطفة، مبتعدًا قدر الإمكان عن بكائيات وفواجع الميلودراما التجارية، و(كابوريا) عام 1989، كوميديا غنائية تسخر من تناقضات الواقع الاجتماعي، إلى بقية تجربته الثرية والمتنوعة بأفلام مثل: رغبة متوحشة (1991)، آيس كريم في جليم (1992)، أمريكا شيكا بيكا (1993)، حرب الفراولة (1994)، قشر البندق (1995)، إشارة مرور (1995(، إضافة إلى تجربته في الدراما التليفزيونية التي أكملت مشروعه الخاص.
التكريم إذن من هذه الزاوية يخرج عن فكرة الهوس بالاستعراض والأضواء، فهناك أسباب سينمائية وثقافي وحياتية إن أردنا الإضافة لاختيار الشخصية المكرمة، كما أن الأمر لا يقف عند حد منح الدرع أو التمثال والشهادة الورقية المكتوبة، إنما متابعة مشروع يحتاج نقاش نقدي جدي، وهو ما أتمنى أن يحدث خلال فعاليات المهرجان من خلال لقاء المخرج خيري بشارة مع النقاد والصحفيين والسينمائيين، وأيضًا مع جمهور يهتم بالسينما وتجاربها، فهذا ليس مجرد فعل عابر، وأتصور وهذا ليس استباقًا بقدر ما هو توقعًا أن الكتاب الذي أعده الناقد عصام زكريا بعنوان "السينما لها أجنحة"، سيكون مفيدًا بتفاصيل دقيقة كوثيقة يُستفاد منها لاحقًا نقديًا وصحفيًا وثقافيًا ولكل من يقرأ ويكترث بالسينما وأحوالها.. التكريم من هذا المنطلق مبرر وليس عشوائيًا أو ضمن وفرة أسماء دون داعٍ أو حجة، بل إنه قائم على عمق معرفي وثقافي، ومثير للحوار والأسئلة، ومحرض على البحث عن إجابات ومعرفة.
إذا قلنا أن مفهوم التكريم هنا يملك مقوماته الثقافية والفنية، لأنه اعتمد على دقة الاختيار والاستحقاق، فهل هذا يمتد إلى اختيار الزوجين الفنانين: إيمي سمير غانم )نحو خمسون عملًا سينما وتليفزيون( وحسن الرداد )نحو اثنان وستون عملًا سينما وتليفزيون ومسرح( ؟.. في تصوري أنه طالما الفنان في موقعه الفاعل في حركة العمل السينمائي ولديه أحلام بالمزيد، فمن حقه أن يحصل على فرصة تشجيع تدعمه في خطواته المستقبلية، خصوصًا وأن إيمي والرداد ليسا في مقتبل العمر إنها نظرة لا تقيم وزنًا لمعتقدات تقليدية ولا تتعارض على الإطلاق مع أمور أساسية في مطارح ثقافية عدة تُبالي بالتراكم في الإنتاج الذي يستحق التقدير، إنها ليست معضلة وعدم إنسجام أن يقدم المهرجان التشجيع للجديد والتقدير للسابقين، وأيضًا لاختيار المكرمين من بيئات وثقافات وانتماءات فنية وجغرافية مختلفة، هذا ينطبق على بقية المكرمين: الممثل المصري لطفي لبيب )يتم تكريمه في ختام المهرجان(، المنتج المصري جابي خوري، المخرج المغربي حسن بن جلون، ومن بوركينا فاسو المخرجة آى كيتا يارا، فضلًا عن الاحتفال بمئوية الفنان فؤاد المهندس، والإشارة إلى الممثل طارق عبد العزيز الذي غادرنا هذا العام.. ما يعني أن مسألة التكريم تعكس تثمينًا لمنجز فني بما يشمله من مقومات إبداعية وتراكم معرفي وثقافي كما أسلفت.
لكن هل التكريم بدروعه وتماثيله وحده يكفي؟ أعتقد أن الأمر يحتاج إنجازًا موازيًا لا تقدر عليه المهرجانات وحدها بدون دعم مادي ومؤسسي كبير من جهات عدة، لكي يكتمل التكريم فإنه يتطلب أشياء عدة منها: ترميم أفلام الشخصية المًكرمة، حتى ولو فيلم واحد على الأقل، توفير التمويل اللازم كمساهمة فعلية لإنتاج فيلمًا للمُكرم، إصدار دراسة أو كتاب يقدم بجدية تجربة المُكرم بعيدًا عن الانفعال العاطفي تجاهه.. إنها مجرد مقترحات لمن يهتم ويعتني بالسينما، وفي النهاية تحية لمهرجان الأقصر وأمثاله من مهرجانات تعبأ بأهل السينما وتفطن للدور السينمائي في المجتمع.