تلفظُ الحرب أنفاسها الأخيرة؛ أو بالأحرى انتهت جولة غزَّة، وما يتبقَّى من النار غرضُه إنضاج التفاهمات، وترتيب مرحلة ما بعد طوفان حماس وسيوف نتنياهو الحديدية. وثمَّة قناعة عميقة لدى الطرفين بالتعادُل، فلا كسبت إسرائيل ولا خسرت الفصائل، وكلّ ما يختلفان عليه الآن يتَّصل بتظهير فواقد القوَّة لصالح عوائد السياسة. كلاهما يُواجه مأزقًا داخليًّا ومع العالم، ويسعى لإلقاء العبء على الغريم، أو اقتسامه قسمةً عادلة فى أسوأ الظروف.. السيرُ المُتباطئ إلى الهُدنة ظاهرُه رفعُ الأسقف، وباطنه الاضطرار، ولن يمرّ وقتٌ طويل قبل إنجاز صيغةٍ لا تخدمُ أيًّا منهما؛ وإن كانت فى صالح القضية وإعادة تكييف الصراع بمُعادلة «ضرر مُحتمَل ومنفعة لا تُشجِّع المُقامرين». كثيرون من الطرفين سيخرجون إلى التقاعد، ولن يُرافقهم إلَّا الندم على الاستخفاف بالآخر، وسوء الإدارة، والتعامى عن التوازنات الخارجية. وسيبقى القطاع وحده فى حالة اعتلال طويلة، وقد تستغرقه النقاهةُ عقودًا قبل أن يعود لِمَا كان عليه صباح 7 أكتوبر.
بقدر ما كان الإقلاعُ خشنًا، تبدو محاولاتُ الهبوط مُغلَّفةً بالريبة والهلع. اختبر المُتحاربان بعضهما بما فيه الكفاية، وثبت يقينًا أنه لا سبيلَ لإنجاز خطَّة اليمين الصهيونى بإفناء حماس، أو إسقاط هياكلها وتعقيم جغرافيا القطاع، كما لا بشائر لإجباره على وَقف النار وتبييض السجون بورقة الأسرى وحدها. لقد خاضا المُنازلةَ فى قفصٍ مُغلق، وتحت لافتةٍ وجودية تكتسب الخسارةُ فيها معنى الموت، وهما الآن غارقان بالدرجة نفسها، لا فارقَ بين القاتل والضحية، ويُفتِّشان عن طوق النجاة الذى أراده كلٌّ منهما فى البداية فرديًّا، وصار فى النهاية مُتقبِّلاً أن يتقاسمه مع عدوِّه.. والمأزقُ هنا لم يعُد محصورًا فى خصومة الميدان؛ بل اتَّسع ليشمل تطوُّرات إقليمية ودولية مُتشابكة، وانغلق فى الوقت نفسه ليضع كلَّ طرفٍ فى امتحان أمام بيئته الداخلية. وكلُّ الأسئلة الجارحة التى تأجَّلت تحت غطاء الحرب سيأتى أوانُ إثارتها، وسيكون الخروج من الحُفرة مرهونًا بتصفية ديون الانزلاق إليها. بمعنى أن القطيعة مع «الطوفان» ورواسبه تبدأ بتعيين أكباش الفداء، وأنْ تُزاح العقبات التى تضخَّمت على الناحيتين، تمهيدًا لتسليك القنوات المسدودة، وافتتاح مسارٍ تسووىٍّ طويل المدى، قد يتأسَّس على تهدئةٍ يُرافقها حوار، أو على هُدنةٍ مُمتدَّة، أو تبريدٍ بدون إعلان.
الأسابيعُ الأخيرة حملت رياحًا نقيَّة من روائح البارود. قدَّمت تل أبيب تصوُّرًا لصفقة، وطرحت «حماس» مُقترحًا مُضادًّا، وتقدَّم الوسطاء بأفكارهم؛ فالتأمت ورشةُ عملٍ على كلِّ الأطروحات، وكانت «ورقة باريس» حصيلة المُداولات. وطوال أيام تتابعت التقارير عن مضمون الخطَّة؛ قال البعضُ إنها تشمل هُدنةً لثلاثين يومًا وعدَّة مراحل لتبادل السجناء، ثمَّ قِيل إنها خمسةُ أسابيع، ثمّ ستَّة، وزادها البعضُ لشهرين، واختلفوا فى حصَّة المُبادلة والمعامُل النسبى للأعداد. والظاهر أنها محاولةٌ لإنتاج مُقاربةٍ واقعية، يتيسَّر فى ضوئها إبطاءُ وتيرة الحرب؛ على أمل ألَّا تعود كما كانت، وأن تتكفَّل الأيام بتذويب التحجُّر الأُصولىّ هنا وهناك، وإبراز التناقضات الداخلية بما يسمح بتفكيك الإجماع على الجنون. وبعيدًا من المُقاومة ورغبة التفلُّت؛ فالنتيجة النهائية أنهما سينصاعان؛ لا لشىءٍ إلَّا أن المناخ لم يعد يحتملُ مزيدًا من الإبحار فى المجهول، كما أنَّ حماسة البدايات وأوهامها تكسَّرت على صخرة الواقع، وما عادت المراكبُ صالحةً للرسوِّ على الشواطئ البعيدة.
يعودُ أغلبُ العُسر إلى تطرُّف نتنياهو، وأنه تحت رحمة المُتطرِّفين فى حكومته، وقد هدَّدوا بنَقض التحالف لو أُوقِفَت الحرب. كما يعودُ لصعوبة الاتّصال بين رأسى حماس: السياسيِّين فى المنافى والمُقاتلين فى الأنفاق، ولا يخلو الأمرُ من تشدُّد الصقور داخل التيَّارين طمعًا فى شروط أفضل. أمَّا دائرة الوساطة فقد باتت مُقتنعةً بأنه لا مجال للتسويف، وأى حديثٍ عن «اليوم التالى» عديم الجدوى دون تجميد أوضاع اليوم الحالى أوّلاً. والمُرجَّح من مجموع النقاشات أنَّ المشهد قد يذهب لهُدنةٍ من ستَّة أسابيع، كثيرها لتبادل الأسرى وقليلها لبحث المراحل التالية، وقد تتفاوت الأرقامُ فى الصيغة الأخيرة؛ لكنها ستكون على التتابع: ما تبقَّى من مدنيّاتٍ وعجائز وجرحى، فالمُجنَّدات وجُثث القتلى، وأخيرًا الجنود والرجال فى سنّ الاحتياط، والفصائل تُريد المجموعةَ الأخيرةَ لجولةٍ مُنفصلة؛ ربما لتسعيرهم بفاتورةٍ أعلى. المسألةُ الحسابيةُ من التفصيلات البسيطة؛ إذ تنتهى فاعليّتها بالتوافق عليها، بينما المُعضلة كلُّها فيما بعد انحلال يد القسَّاميين عن ورقتهم الوحيدة، وفى مدى التوحُّش الذى صار حاكمًا مُتسلّطًا على عقول الصهاينة جميعًا، يسارهم قبل اليمين ومدنيّيهم قبل العسكريين. فلا معنى لكلِّ ما فات بتكاليفه ومواجعه؛ ما لم ينزل المُتحاربون عن شجرة النار، ثم تُقطَع الشجرةُ نفسها حتى لا يتكرَّر الصعود سريعًا.
الهدنةُ أقصى ما تتمنَّاه فصائل غزّة اليوم. لقد تضرَّر القطاع لدرجة عصيّة على إدارة دولابه اليومى تحت النار، والتشكيلات العسكرية أصابتها أعطابٌ تتطلَّب ترميمًا عاجلاً. وبينما كان السائدُ فى صفقة نوفمبر أنَّ الصفَّ السياسى بالخارج يتحرَّك ببراجماتيّةٍ ظاهرة، وكان التصلُّب المبدئى من نصيب الصفّ المُقاتل؛ انقلبت الآيةُ حاليًا، فما زال «هنيّة» ومجموعته مُتمسِّكين بوقف الحرب شرطًا للمُبادَلة، بينما يقبل «السنوار» هُدنةً مُؤقّتةً دون السقف السابق.. الحركةُ غايةُ أملها حاليًا أن تعود لما قبل الطوفان، وكلّ ما يُصرِّح به قادتُها لا يخرج عن حدود إبقاء غزَّة على ما كانت. فى المُقابل يُمثِّل الاتفاق مطلبًا مُلحًّا لنتياهو؛ إذ بقدر ما يبدو راغبًا فى إطالة الصراع، تحايُلاً على المُعارضة ومخاطر سقوط الحكومة، يتعيَّن عليه أن يُحرز تقدُّمًا إنسانيًّا ملموسًا خلال ثلاثة أسابيع على الأكثر. أواخر يناير قضت محكمةُ العدل الدولية بستَّة تدابير طارئة، استجابةً لمطالب جنوب أفريقيا فى دعواها بشأن الإبادة الجماعية، وضمن الالتزامات أن تُقدِّم إسرائيل تقريرًا مكتوبًا بما حقّقته خلال شهر. وإن ظلَّ الميدانُ مُتأجِّجًا فليس بإمكانه الادِّعاء أنه توقَّف عن القتل والتجويع، أمَّا لو ذهب باتِّفاق هُدنةٍ فسيكون قد حمل للقضاة أقصى نزولٍ على أمرها الوقتى.
ما يحولُ دون إنجاز المُقاربة للآن، أن كلَّ طرفٍ ذهب للمدى الأقصى من تشديد الشروط، وعليه أن يبحث طريق العودة بما لا يُصوِّره مُتخلّيًا عن أهدافه، ولا يُعرِّضه لاهتزازاتٍ داخلية عاصفة. الخسائرُ والمكاسب مُغرية فى أيّة صيغة للاتفاق: سيكون بمقدور نتنياهو استعادة أسراه وتهدئة الشارع، لكنه سيضع رقبتَه على مذبح حُلفائه من الصهيونية الدينية، دون موثوقيّةٍ من حدود إسناد شركاء الكابينت، وهل يُبقون عليها أم يسحبونها بانتهازيةٍ سعيًا لانتخاباتٍ مُبكّرة أو إعادة تكوين تحالف الحُكم بتوازنات مُغايرة. أمَّا «حماس» فإنها ستُعرِّى اليمين بكامله أمام البيئة السياسية والشعبية بإسرائيل، لتستفيد بأثرِ الضغط المُتصاعد بمجرَّد إسكات البنادق؛ لكنها تُغامر بانحلال دائرة الدعم العاطفى، وتصدُّع سرديَّتها عن الثبات والاتّساق القِيَمى وطُهرانيّة أجندتها التحرُّرية. كما أن انحسار المقتلة سيُحيِّد فاعلية المظلومية ومنطق «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»؛ لتصطدم بالانتقادات المُرجأة والاستحقاقات واجبة الإنجاز؛ لناحية ترميم البيت وإعلاء عَلَم فلسطين فوق رايتها. أى أنّ التوقُّف سيُعالج شيئًا من اتهامات التقصير لحكومة التوراتيِّين والقوميِّين، لكنه سيضعها فى قلب الاستقطاب الأيديولوجى وتبدُّل مِزاج الناخبين، ما يُقوِّى شَوكة حماس؛ لكنه سيُنشِّط مسار البحث عن بديلٍ أكثر حيوية وواقعية، وانقطاعًا عن لُعبة المحاور وفلسفة الميليشيات المذهبية.
فى هذا المناخ تتزخَّم الأفكار وتروج بضاعة الصفقات المُمكنة. الحماسيّون سرَّبوا إشاراتٍ بعضها عملانىّ وكثيرها بالونات اختبار، فقال قياديّون إنهم يقبلون بدولةٍ على حدود يونيو، وأكَّد آخرون جاهزيَّتهم للانخراط فى مُنظَّمة التحرير بالتزاماتها، وسحبَ فريقٌ ثالثٌ كلَّ الخيارات، وتبدَّلوا بين مبدئيّة وَقف الحرب ورَفض الاحتلال وحصر التبادُل بعنوان «الكلّ مُقابل الكلّ»، إلى القبول الضمنىّ حاليًا بتقدُّمٍ حثيثٍ لصفقاتٍ مرحليّة صغيرة، مع الرهان على أثر الوقت. أمَّا الصهاينة فقد فعَّلوا ورشة الحلول من أكثرها منطقيّة لأشدِّها جنونًا. كانت البدايةُ بورقة وزارة الاستخبارات عن التهجير، ثمَّ باقة خطط من الجيش والشاباك وأجنحةٍ حكومية، ومُداولات رئيس الموساد ديفيد برنياع بين الدوحة والقاهرة وباريس، وأخيرًا خطَّة مُجتمع المال. وخُلاصتها إنشاء حكم عسكرى فى القطاع؛ ليُستبدَل بائتلافٍ عربى يُمهِّد لسلطةٍ جديدة، لا من حماس ولا رجال عباس، مع إبقاء حقّ العمل الأمنى على غرار الضفَّة، ليتبعه إصلاح شامل فى مناطق السلطة الوطنية ومناهج التعليم لسنتين إلى أربع، وبعدها يُعترَف بدولةٍ فلسطينية منزوعة السلاح ومحدودة السيادة. وقد طُرِحَ ذلك ردًّا على الضغوط الأمريكية لحلحلة الأوضاع، ونُوقِش مع إدارة بايدن، وبينما يُسوَّق بزعم أنه مُقترحٌ من رجال أعمال، فإن نتنياهو يُشرف عليه ويديره عبر وزيره للشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، والغرضُ أن يظلَّ المسار فى كنفه مع هامش للمُراوغة والتبرُّؤ منه. وبعيدًا من جدية الفكرة وقابلية تطبيقها؛ فإنها تُشير لحدود ما تقبله تل أبيب مُستقبلاً. الجوهرُ أن مسألة الدولة غير مرفوضةٍ تمامًا؛ إنما تُوضَع دونها عقباتٌ ماسَّة بجدِّيتها وفرصها للتحقُّق والحياة، وهو ما يمكن الاشتغال عليه لاحقًا بأدوات السياسة، بعدما تأكَّدت استحالته عُنفًا أو حسما فى الميدان.
فى ناحيةٍ أُخرى، دخلت لندن على الخطّ. أعلنت أوّلاً عن خطةٍ بخمس مراحل: الوقف الفورى للقتال ومُقايضة الأسرى، ثم تفاوض على وقفٍ دائم، وأُفق سياسى للتسوية، وتدشين حكومة تكنوقراط، وترحيل بعض قيادات الفصائل وأوَّلهم السنوار، بعدها قال وزير خارجيتها اللورد كاميرون إنهم يدرسون الاعتراف بدولة فلسطين. لقد أرفق إشارته التقدُّمية بقيدٍ عملانىٍّ صارم، أن يجرى ذلك بالتزامن مع بدء الورشة السياسية، لا قبلها ولا بفاصلٍ طويلٍ بعدها. وإن كان مُتوقَّعًا أن ترفض «حماس» بعض بنودها، مثلما تُعارض أهدافًا لتل أبيب وواشنطن؛ فإن تعدُّد المسارات المُقترَحة يُتيح مجالًا لابتكار الصيغة الوسيطة، بالجدل والحذف والإضافة، لا سيما مع إشاراتٍ أمريكية على بحث وسائل الضغط المُمكنة على نتنياهو، ومنها تعطيل أو إبطاء بعض شحنات السلاح، أو مع الصلابة العربية فى أنه لا اتفاق على الإعمار والتطبيع دون رؤيةٍ مُتكاملة، يكون محورها مُستقبل فلسطين وحقوق الفلسطينيين العادلة.
النقطةُ التى وصلها التفاهم الدولى أقرب للتجميد لا الحلّ. ما زال الأمريكيِّون يرفضون وقف النار الدائم؛ لهذا لم تذكره ورقة باريس. لكنَّ الخفىّ بين البنود أنهم يُراهنون على هُدنةٍ طويلة نسبيًّا، يكون من مفاعيلها إنهاء الحرب ضمنيًّا، ثم البحث عن تأطير قانونى لإدامة المُؤقَّت. الفلسفة أن يُصارَ لتبريد المشهد الإقليمى، بما يتبعه من تحييد الميليشيات الشيعية، ونزع الغطاء الدعائى عن مغامراتها باختلاس مظلمة غزَّة. وقتها سيُتاح للوسطاء والضامنين التحرُّك بوتيرةٍ أهدأ، وضَبط المُعادلة بمكوِّناتها الحقيقية، لصالح أنها نزاعٌ بين شعبٍ مسروق وعصابة باطشة، وليس ورقةً منزوعة من التوراة مُقابل أخرى من أدبيّات الأُصوليّة الإسلامية. لو سارت الأمور هكذا فقد يتمدَّد التوقف من أسابيع لسنوات، وستراه إسرائيل فرصةً لعلاج شروخها الداخلية دون تهديداتٍ وشيكة، وستعتبره حماس مُهلةً لإعادة بناء هياكلها وتجفيف آثار الوَصم والتشويه، بما يسمح بتموضُعها بين الفاعلين السياسيِّين؛ لكن الخطورة أن صفقة لخمس سنوات أو عشر قد تُعيد القضية إلى الثلاجة.
على خلاف الشائع؛ لا يريد نتنياهو إنزالَ هزيمةٍ ساحقة بحماس. الرجل المُتفاخِر دومًا بإحراق بقايا أوسلو وإفشال حلِّ الدولتين، استثمر طويلاً فى الحركة حتى صارت من أهمّ أدواته لتفخيخ البيت وترسيخ مناخ الانقسام. وبالمثل يُمكن الجَزم بأنَّ «القسَّاميين» لا يُريدون بديلاً أقلَّ يمينيّة عن الليكود والصهيونية الدينية؛ لأنهم غطاء الأيديولوجيا لتديين النزاع، والمُبرِّر الموضوعى لخصومتها مع تقنيات السلطة وانتهاج خيارات صفريّة بديلة عن السياسة. مهمّة المُيسِّرين أن يُرسِّخوا ما فضحته الحرب، بأنّ التعالُقَ الطُفيلىَّ بين الأُصوليّة الجارحة فى الناحيتين يُديم الانسداد، ويُوطِّئ لجولات تصعيدٍ لا تنقطع، والحلّ أن يتحرَّك المُجتمعان بديناميكيّةٍ تُعدِّل مسارات نُخبتيهما، أو تسرقُ الأرضَ من تحت أقدامهم. لقد صارت خطابات «الدولتين» سلاحًا ضد الفكرة نفسها، إذ يتعاطى الخصوم فعليًّا باعتبارهما بلدين مُتحاربين، وينفيان بعضهما، ويُريد توراتيّو إسرائيل نُسخةً فاتيكانية مُعقَّمة مُختبريًّا، وويسعى إسلاميّو فلسطين لحاضنةٍ عقائديّة تُطوِّر الحرب ولا تُنهيها. كلاهما يُناور بالرفض المُتشدِّد أو القبول المُراوغ، وغرضه أن يُدَام الصراع انتظارًا لحلول السماء، أو لحريقٍ نهائى تُيسِّره الظروف. والهُدنةُ اليوم بشروطٍ وسيطة لا تميل لأحدهما، بدايةُ الدفع بهما معًا لمضمارٍ محكوم بالمنطق والقانون وحقائق الأرض، بدلاً من بقاء العالم رهين الجنون العقائدى المُتسلِّط على العقول.
أوشكت القذائف أن تصمت؛ وستتكلَّم السياسة بالضرورة لو تعطَّلت لُغة السلاح. لكنَّ وُجوبيّة التهدئة وكونها احتياجًا للطرفين، لا تنفى مخاطر أن يتفجَّر الوضع فجأةً بأثر الحسابات الشخصية لنتنياهو، أو تغوُّل «محور الممانعة» على خيارات الفصائل.. وأيَّا ما تكون الصفقة المُرتقَبة؛ فإنَّ إدامتها ترتهن بتقويض مخابيل الصهيونية، وبالقُدرة على تعقيم المجال الفلسطينى الإسرائيلى من فواعل البيئات المُحيطة، وإقناع المُضارين فى غزَّة والضفَّة بأنهم على أول الطريق، وبما لا يُشبه كلَّ الطُّرق المُتقطِّعة منذ النكبة لليوم. إنْ تبدَّلت تركيبة الحُكم فى تل أبيب، ولم يعُد العالم للنوم بعد انتهاء المقتلة؛ فقد تتَّخذ المُقاومةُ مسارًا حيويًّا يُعيد تنظيم أفكارها وهياكلها وصفّها القيادى، ويدمجها فى الورشة الوطنية التى لن تبتذلَ السلاح، ولن تختنق بالتفاوض المُملّ وحده، مثلما قادت سياقات الضغط والأمل سابقًا لترقية أداء «فتح ومُنظّمة التحرير» وتخليص دائرتها من آثار الهوى الإخوانى البعثى؛ لتصير فلسطينيّةً خالصة. الهُدنةُ آتيةٌ هربًا من الوجيعة فى غزَّة،
أو بحثًا عن ثغرات انتهازية فى إسرائيل؛ لكن السبيل الوحيد لأن تكون مُثمرةً وفعَّالة، وليست استراحةً بين حربين، أن تلتزم واشنطن حدود الضامن والوسيط النزيه، وأن تُوضَع مُقاربات دُول الاعتدال فوق منطق خَلط الأوراق، وتصفية حسابات الحلف الأنجلوساكسونى ومحور الممانعة، وأن تتخلَّص تل أبيب والقطاع من عقيدتى الضاحية والأنفاق: الإبادة الهائجة والكُمون الانتحارى، ليس فى المُمارسة وحدها؛ إنما فى الفكر والوجوه أوَّلاً وأخيرًا.