"من الناحية النظرية لن تجد اختلافاً بين النظرية والتطبيق، لكن عند التطبيق ستعرف الفرق بينهما"، يوجي بيرا، لاعب البيسبول الأمريكي الشهير " 1925 – 2015 "، هكذا الأحوال جميعاً، فالكتب تهدينا دائماً إلى أفضل الخبرات والتجارب، وأهم الدراسات والقياسات، لكنها لا تمنحنا الحلول، ولا تعطينا النجاح الكامل، بل تقدم جزء أو عدة أجزاء من التجربة، وبُعد واحد في غياب باقي الأبعاد، لذلك قد نلتزم تماماً بوصفة الكتب، وما احتوت عليه تجارب المفكرين، والفلاسفة، والعلماء، لكنها في النهاية تظل غير كافية، ومرهونة بتحديات الحاضر، وقلق المستقبل.
ليس صعباً أن تقرأ كتابا لآدم سميث، أو ديفيد ريكاردو، أو جون مينارد كينز، وهم تقريباً أهم رواد علم الاقتصاد في العالم، لكن الأصعب أن تظن صلاحية ما قدمه هؤلاء كلية للحالة المصرية، و نقله كما هو وإجازته للتطبيق، فالمبادئ التي وضعوها لتشريح حالة الاقتصاد الانجليزي بين من القرن الثامن عشر، حتى القرن العشرين، ارتباطاً بثورة الصناعة والثروات، ورأس المال، والعصور الاستعمارية، تختلف إلى حد كبير عن الوقت الراهن، الذي تتداخل فيه معطيات عديدة، وتتصارع فيه أقطاب عالمية كبرى، دون مؤشرات مفهومة حتى الآن.
نكتب دائماً عبارات وتحليلات وحلول وأنصاف وأرباع وأقل من ذلك، أو أكثر، لكنها في النهاية مجرد كلمات ينقصها الاختبار والتطبيق، وتغلبها شهوة النقد، وبعض الذاتية التي لا يمكن إنكارها أو التخلي عنها، دون شفقة، أو مراعاة لصاحب القرار، الذي يعمل في ظروف شديدة التعقيد، وضغوط متعددة الأبعاد والأسباب أيضاً، وجمهور مختلف بكل المقاييس، وشعب له مشكلات مزمنة، تراكمت من عشرات السنين، وجميعها تحتاج لتدخلات وعلاج وحلول جذرية.
قد نتحرك وندرس ونخطط "زي ما بيقول الكتاب"، لكن ما يقوله الكتاب قد لا نتمكن من تطبيقه دائماً، خاصة إن كنا نتكلم عن الحالة المصرية، التي تتجاوز فيها نسب الأمية 25% من إجمالي عدد السكان، ومستويات وعي ومعرفة متدنية، جعلت الجميع يستغل الجميع، بداية من تجار السيارات، وقطع الغيار، والأدوات الصحية، والسجائر والحبوب، وسلاسل الوسطاء الممتدة في كل صناعة أو تجارة، حتى محال الفول والطعمية، التي باتت تحقق مكسب 100% من بيع "الساندويتش" الواحد، بعد رفع الأسعار بطريقة جعلت حديث الشارع المصري لا ينفك عن الثرثرة في هذه القضية.
دائماً ستفشل الكتب والدراسات عن علاج الأزمات مادامت شهوة الاستغلال حاضرة، والكل يخطط للمكسب فقط، دون مراعاة لظروف الأزمة، وتعقيدات القضية، فالحلول لا يمكن أن نعلقها على قرار حكومي أو تحرك رقابي أو غير ذلك من الإجراءات، لكن يجب أن يسبق ذلك كله حالة من الوعي العام بخطورة ما يتخذه بعض الأفراد ضد غالبية المجتمع، واستغلال قلة التجار وأصحاب رؤوس الأموال للظروف الاقتصادية الراهنة في المزيد من الأعباء والمصاعب على كاهل الناس، دون التنبه لخطورة هذا المنطق وما قد تنتهي به الأمور.
لا يمكن بأي حال أن نضع تقديرات سليمة للمكسب أو الخسارة، دون حساب حجم التحديات والظروف المحيطة داخلياً وخارجياً والمستجدات الطارئة، والتجارب الجديدة التي نمر بها لأول مرة، وحجم المخاطر المحيطة، ومستوى الاستقرار العام في دول الجوار، وما يدور من صراعات بالقرب من الاتجاهات الاستراتيجية المختلفة للدولة، ولعل الحالة المصرية على مدار السنوات الماضية مملوءة بعشرات النماذج والأمثلة التي كانت فيها الريح دائماً على غير ما تشتهي السفن.
قد تحرث الأرض، وتعتني بها، وتوفر لها كل الأسباب لتعطي إنتاجاً وفيراً متوقعاً، لكن قد تتبدد كل هذه الأماني قبل وقت قصير من الحصاد، نتيجة الريح أو الأمطار أو الظروف المناخية المفاجئة، أو وباء مستجد، لذلك أقول دائماً إنه لا يمكن لحكومة أو إدارة أن تخطط للفشل أو تسعى له، بل بالعكس دائماً ما تجتهد وتخطط لتنجح وتقدم أفضل صورة، لذلك لا يمكن أن نشكك في دوافع النجاح، لكن نحتاج أن نكون جميعاً على نفس درجة الوعي، وأن نقدم خطاباً سهلاً بسيطاً، يصل للجميع ويطمئن الجميع، بما فيهم الـ 25% الذين مازالوا يعانون الأمية والفقر أيضا.
كتبت في مقالات عديدة وتحدثت مرات ومرات، عن خطورة إهدار العملة الوطنية "الجنيه"، بأن ننصب له حلقات مزاد يومية، ونبيعه بخساً في مواجهة الذهب أو الدولار أو البضائع التي بلا فائدة، يشتريها الناس ليخزنوها، ظناً منهم أنها تحفظ ثمنها وقيمتها، دون معرفة التأثير الكارثي لهذا التحرك على مؤشرات الاقتصاد، وحيوية الأسواق، وندرة بعض السلع، وتشويه مسارات العرض والطلب، وإهدار قيمة العملة، التي صار العرض منها يفوق الطلب مرات عديدة، لذلك حلول هذه القضية لا تبدأ من الدولة أو الحكومة فقط، لكن من المواطن أولاً، الذي يراهن ويقامر بالعملة التي يشتري بها، ويبيع بها، ويتقاضى راتبه بها، فقد نظن أننا نكسب أو نحافظ على أموالنا، لكن هيهات، بل نضعها غنيمة لتضخم جامح، سيأكل مدخراتنا، ويرفع معدلات إنفاقنا، ولن ندرك هذه الحقيقة إلا بعد فوات الأوان.