تلفُّ المنطقةُ العربية فى دائرةٍ مُغلقة؛ كأنَّ الزمن كُرةٌ بين الأقدام، أو أنها لا تستفيد من دروس ماضيها. طُعِنَت فى فلسطين قديمًا لأنها لم تُحسن قراءة الظرف التاريخى، وتُطعَن اليوم بتكرار الدراما نفسها؛ وإنْ بإيقاعٍ أسرع ووجوهٍ تبدو عليها الحداثة. وأصلُ المشكلة أننا لا نعرف أنفسَنا أوَّلاً، ثمّ نجهلُ عدوَّنا، ونُؤسِّس الفصل الجديد للنزاع على الرؤيتين الخاطئتين. ليست العُقدة فى توحُّش الاحتلال أو هشاشة المُقاومة؛ بل فى إنكار أننا تغيّرنا جميعًا عمَّا كُنّا عليه أوَّل الأمر، فلا الغريم على حاله القديمة ولو كان يرتكب الحماقات بوصفةٍ مُطابقة، ولا نحن نُسخةٌ مُلوَّنة من الآباء ولو ظلَّ الجُرح واحدًا. يقعُ الخلل فى الخيال قبل الواقع، وفى التاريخ أكثر من الجغرافيا، ولا شفاءَ منه إلَّا بتحرير الوعى قبل البحث عن حرية الأرض والبشر. تبدَّل الميدانُ على ثباتنا، وتغيَّر المنافسُ ولم نتغيّر، وما خسرناه سابقًا فى ساحة نعرفها لن نربحه اليوم، وقد قويت شوكتُهم وازددنا ضعفًا، وآلت توازناتُ العالم إلى ما يفوق طاقتَنا ونعجز عن مجاراته بالحرب والسلم.
عندما وُلِدت إسرائيل، قسريًّا وقيصريًّا، قبل نحو ثمانية عقود؛ كانت فكرةُ الدولة الوطنية العربية تكتسى لحمًا وعظامًا بعد قرونٍ من رجعيّة العُثمانيّين، وعقودٍ من وحشية الامبريالية البيضاء. وآخرُ ما تكاتف فيه الفريقان أنهما ذبحا فلسطين تحت حذاء الحركة الصهيونية: الأوَّل غَضّ الطرفَ عن حركة النزوح المُمنهجة، وسمح بأن يتفجَّر رحم الكيبوتس اليهودية بالعصابات والقتلة، والثانى أسدل عباءةَ الانتداب حتى تمَّت المهمَّة؛ ثمّ رفعها تمهيدًا للاعتراف الأُممىّ بالكيان اللقيط. هكذا نشأت الميليشيا ثمّ صارت جيشًا، وابتكر الجيشُ بلدًا من العدم. والعرب كانوا دُولاً تخطَّت طفولتَها وتسير إلى طَور البلوغ، ولم يخوضوا المعركة على شرطهم؛ بل على شرط الإرجون والهاجاناه. وربما كان مُمكنًا وقتها أن يُعلنوا فلسطين المستقلَّة ويتحصَّنوا عند حدودها المُمكنة؛ لتصير المواجهة بين دولةٍ وعصابة فى أحسن الظروف، وبين دولتين فى أسوأها. والذى أخفقنا فيه ونجح العدو، نعيدُ إنتاجَه الآن بالمقلوب؛ وقد صوَّر اللصُّ المسألةَ صراعًا بين نظامٍ وفوضى، أو مجتمعٍ عصرىّ له دولته، وقبيلةٍ بدائية تُخاصم العصر، وتختصمُ فيما بينها أكثر من خصومتها مع الآخر.
لقد خدمَ الجميعُ التخليقةَ الصهيونية بصوَرٍ شتَّى. الأنظمةُ التى لم تبرأ من وَهم الخلافة، اتّخذت فلسطين عنوانًا لتجديد شرعية الراية الساقطة، على أمل أن ترث عرشَ الذئب العجوز، والإسلاميِّون جعلوها حربًا دينية ولوَّثوها أخلاقيًّا، عندما اتصل أمين الحسينى بالنازيين والتقى هتلر، واختُزِل الصراعُ بإخلالٍ ساذجٍ إلى توراةٍ وقرآن. كان الغربُ طامعًا فى الخلاص من اليهود وتعويضهم فى آنٍ واحد، وبرَّر لنفسه الجريمة بأن المنطقة أسيرةٌ للرؤى الحارقة: أن يُعيدوا إنتاج العثمانية الرديئة، أو يلتحقوا بركب الفاشية الدامية. وكأنها غير معنيّةٍ بخلاصها، لا تُريد القيادةَ ولا تستنكفُ التبعية؛ لكنها تُفتِّش فى الوسائل عمَّا يصلحُ لإذكاء العداوة وإزعاج الآخرين.. تكفَّلت الرؤيةُ الاستشراقية بإنجاز سرديَّة الشِّقاق الوجودى، ولم ننشغل بتصويبها أو إنتاج سرديَّتنا البديلة.
رحَّب التركُ والفرس بالوافد الجديد. تلقَّفوا الميليشيا مع الآخرين؛ فغسلوا وجهها وألبسوها ملابسَ الدولة. كان البلدان فى طليعة المُعترفين بالصهيونية وهى تغادر شرنقةَ العصابة، ويُحاولان اليوم التصدِّى لها، أو يزعمان، وهى تتمدَّد فى براح القبول الدولى. ولا يحدثُ ذلك من باب الإقرار بالمسؤولية وتصويب أخطاء الماضى، إنّما للاستثمار فى فائض العواطف العربية، وقد لفظهما الغرب الذى استماتا فى الانتماء إليه. والمشكلةُ أنَّ مُقاومتهما تتَّخذ شكلاً رجعيًّا، كما لو أنها تُعيد إنتاجَ الماضى. تنتفخُ الأجندة الأُصوليّة بأكثر من طاقة جسمها الهزيل، وتُوضَع الميليشيا من جديدٍ فى وجه الدولة، وتُستبعَد كلُّ الفعاليات التى لها ظلٌّ من الشرعية القانونية. ومهما كانت السلطةُ الفلسطينية ضعيفةً، ومُنظّمة التحرير مُنهكةً وشائخة، واتفاق أوسلو يلفظ أنفاسَه تحت جنزير دبّابةٍ صهيونية ثقيلة؛ فكلّها عناصرُ قوَّة لا يجب التضحية بها لصالح السلاح حصرًا، ولا إطعامها للفصائل الساعية إلى احتكار القرار، بينما يُصوِّب الاحتلالُ كلَّ أسلحته نحوها، وقد يُصيب المقاومة والسياسة معًا.
الانتقالةُ التى حقَّقتها إسرائيل، عاشت المنطقةُ عكسها تمامًا. انتقلوا من الميليشيا للجيش فالدولة، وانتقلنا من الدولة والجيش إلى الميليشيا؛ فكأننا فى عملية «هندسة عكسيّة» تُعيدُ إنتاجَ الصهيونية بنكهةٍ شرق أوسطية.. لبنان الذى كان حاضرةَ العرب وخزَّانهم الحداثى ضُرِب بجموح الفلسطينيين فى مرحلة الارتباك والعنفوان، ثمّ بالحرب الأهلية وتقاطعات المحاور، وآل إلى أثرٍ حضارى كبيرٍ فى قبضةٍ مذهبيّة صغيرة، واليمن وسوريا وليبيا والسودان مَسَّتهم بدائيّةُ القبائل وهمجيّة القوَّة المُنفلتة، والعراق يناضل لتنظيف ثوبه من أثر انشقاقات الداخل وافتراءات الخارج. والواقعُ أن الدولة العبرية أكثر مِراسًا فى تجربة المافيا والفيالق المُتناحرة؛ لأنها هكذا كانت ومن رَحمها جاءت، وما من سبيل لاختصامها والانتصار عليها بأدواتها. صحيحٌ أن كلَّ احتلال يفرض منطقَه وينتخبُ المقاومةَ اللائقةَ به، والصهاينة يُحافظون على إرثهم حيًّا فى عصابات المُستوطنين؛ إلَّا أن كفاءة خطاب التحرُّر وفاعليّته فى ألَّا يستجيب لإملاءات المُستبدّ، ولا أن يُحقِّق غايتَه فى إدارة المُواجهة بالطريقة التى يُحبّها. ما كان غاندى قويًّا إلّا بضعفه، وأنه لم يُجارِ الإنجليزَ فى مُرادهم، وجنوب أفريقيا التى تتقدَّم عُرسَ العدالة اليوم، جرَّبت السياسة والسلاح، وما بقى فى ذاكرتها إلَّا زنزانة مانديلا ولياليه الطويلة وراء القضبان.
ثمّة استثمارٌ مشبوه فى تَركة فلسطين وما تبقَّى من مظلمتها العادلة. وبدلاً من أن تكون «طوفان الأقصى» خطوةً ضمن مشروعٍ مع الخارج، يسعى فريقٌ لتوظيفها فى تعميق انقسامات الداخل. بمعنى أنه بدلاً من تحريك القضية، يُراد منها أن تكون أداةً لتحريفها ونقل الولاية عليها. اتُّهِمَت «فتح» بالخيانة، وما كان مُمكنًا أن تقف الفصائل بسلاحها على الأرض السليبة دون «عرفات» وحركته، وترتفع نبرةُ التسلُّط والاستبداد، كما لو أننا تجاوزنا التحريرَ إلى التسابُق على شكل الدولة وقادتها. ولعلَّ الفصائل لا تضع الأيديولوجىَّ فوق الوطنىِّ نكايةً فى الوطن وناسه؛ بل إذعانًا لحليفٍ يُطعِم ساستَها فى الفنادق أو يُلقِّم سلاحَ مُقاتليها بالذخيرة. واللومُ قد يقع على المُقاومة بقدرٍ؛ لكنه يُلطِّخ وُجوهَ رُعاتها بأقدار. فالاحتلال الذى له جسمُ الدولة وعقلُ الميليشيا، لا سبيلَ لمطاردته بالرصاص العارى من مظلَّة السياسة. وجنرالات الميدان لا يجلسون فى الغالب على طاولات التفاوض، وعندما يُعلنُ المُقاتلُ والذين من خلفِه رفضَهم «حلّ الدولتين»؛ فإنهم يُقاطعون الشقيق والصديق، ويتقاطعون مع العدوِّ القريب والبعيد.
الميليشيا التى تصير دولةً بإمكانها أن تختبر أشدَّ الوسائل قسوةً وانحطاطًا؛ أمَّا الدولة التى تؤول إلى الميليشيا فإنها تعجزُ عن الدبلوماسية، وتفقدُ حساسيةَ الحوار. وأهمّ ما يحتاجه الفلسطينيون أن يُنجزوا العبور من سُيولة الحركات إلى صلابة المُؤسَّسات، وأن يُؤسِّسوا بنيانَهم على معرفةٍ وتأصيل جديدين، أى أن يبتكروا دولتَهم ويُعلنوها فيما بينهم أوّلاً؛ ليمتلكوا النموذجَ الدعائىَّ المُقنع والمادةَ الصالحة للتطبيق. لو منعت إسرائيلُ اتّصالَ الجغرافيا واستقلالها، فليس فى مقدورها أن تمنع التوافق وإنهاء الانقسام وصياغة مُدوَّنة وطنيّة مُحدَّثة، تضبط علاقةَ الحركات ببعضها، وبالمهام المنوطة بكلٍّ منها، وتُوازِن بين السياسة والقوَّة. الفارقُ ومعيار التقييم ليس فى خشونة الخطاب تجاه إسرائيل؛ إنّما فى نعومته مع فلسطين. المُهادِن والمقاومُ سيّان، ولكلٍّ دوره المُيسَّر له، وما يتّفقان عليه هو الأجندةُ الصافية، وما يختلفان فيه يقع بالضرورة موضعَ الشكّ.
لدى الصهاينة ورقتان للعب: السلاح للميدان، والدعاية للسياسة. وإسنادُ الغرب يُوفِّر غطاءً للأُولى ومَحضنًا للثانية؛ لكنَّ الدعمَ على كثافته لا يكون مُؤثّرًا دون إتقان اللعبة، وثمّة كفاءة عالية فى المُناورة بقناع الدولة وشراسة الميليشيا. يُتيح لها ذلك ألَّا تفقدَ المُؤازرين مهما تبدَّلت الأحوال، فالولايات المتحدة لا تزال بجانبها فى القتل والكذب، وأوروبا اضطُرَّت لتعديل خطابها وما زالت تدين الطوفانَ وتتحدَّث عن وحشيّة «حماس» ووجوبيّة إفنائها. وفى المقابل ينقسم المُصطفّون مع فلسطين: ميليشيات وراء الفصائل، ودولٌ فى كتف السلطة الوطنية. الفريقُ الأول لن يدعم خطابَ العقل بينما رأسماله فى الشعبوية والجنون، والثانى يتحفَّظ على أجندةٍ جاهرت بعداء الدائرة العربية قبل أن تُعادى إسرائيل. وهكذا تخسر القضيّةُ فُرصةَ تبديل الأوراق فى حزامٍ من المُساندة الراسخة.
الصهيونيةُ لا تؤمن بالتعايش والسلام وحقوق الآخرين، وما أنتجت دولتَها إلا لتغطية العصابة ونواياها. والأمرُ عند الضحايا مُختلفٌ تمامًا؛ إذ الأصل أنهم يبحثون عن الحقّ والمعاش الآمن، وإن لجأوا للقوَّة فلأنهم يسعون إلى الدولة كخيارٍ نهائى، لا كسِتارٍ أو خطوةٍ تكتيكية. تسويق هذا الخطاب يفيد المظلوميّةَ ويخدشُ دعايات المُحتلّ؛ لكنّ خطاب «حماس» يُلاقيه عند منطق الإلغاء وتطلُّعات الهيمنة الكاملة من النهر إلى البحر، ولو وُضِع الغربُ أمام خيارين صفريِّين؛ فسيختار الأقربَ له نفسيًّا، وما لا يضع قاعدتَه المُتقدِّمة ونموذجَه الثقافى المشرقىّ تحت تهديدٍ وجودى؛ أى سينحاز بالضرورة للأُصوليّة التوراتية على حساب الأُصوليّة الإسلامية.
لا يبتعدُ المشهدُ الراهن كثيرًا عمَّا كان عليه الوضع أوَّلَ الصراع. خفت بريقُ الشعارات القومية التى هيمنت فى الستينيات، واختُطِفت المسألةُ من مدارها الإنسانى إلى نطاقٍ عقائدى، يُحبّه الصهاينةُ ويفتتن به الإسلاميون. كان الوضعُ فى الأربعينيات بين دُولٍ تدخل إلى العصر ببطءٍ، فى مصر ولبنان والعراق وسوريا، وأُخرى تُغادر الماضى زحفًا على بطونها، وكانت فكرة الميليشيا مُتحقِّقةً فى رجعيّة الانتماءات الأوَّلية الضيِّقة وإن لم تتحقَّق بالسلاح، وخسرنا الجولةَ لأننا تصدّينا للعصابات بمنطقها. واليوم ينقسم الإقليم بين ساعين إلى الحياة، ومشدودين للموت. القبيلةُ والجماعة والمذهب عادت كلُّها لتُطلّ من عباءة الميليشيات، وثمّة بلدان تُجرّب وصفةً مُنقَّحةً للحداثة، كثيرها يتساند على الوفرة المالية، وقليلُها يقف على تراثه الحضارى، وخطرُ الخسارة قائمٌ طالما نلعبُ بقواعد الخصم. ما يقوله الماضى للباحثين عن العِبرة أن الجغرافيا تصيرُ حرَّةً إن تحرَّرت من قيودها الذاتية أوَّلاً، وللزمن منطقه الذى يُخضِع البشرَ ولا يخضعُ لهم.
مُستقبلُ القضية فى تاريخها، وفى أن يعود أبناؤها إلى الوراء؛ ليستذكروا الدروسَ ويستخلصوا الإفادات. خلال عقود لن يكون الإقليمُ كما عرفناه، وبعضُ العواصم قد تنفض يدَها تمامًا من الديون القديمة، وربما لا تظلّ الشعوب على خبراتها العاطفية المُولَعة بالشعارات والشجن والجَيَشان الطاغى، كما لن تجد الميليشيات مَوطئًا للمُغامرة، وإن بقيت فلن يكون سلاحُها حاكمًا فوق الدولة، ولا مقبولاً فى صيغة التمدُّن المُستجدَّة وتشبيكها للمجتمعات والأفراد. ليس مطلوبًا أن تضع الفصائلُ سلاحَها، ويجب ألّا يحدث هذا قبل اكتمال الحلم؛ إنّما المقصود أن يُعادَ بناءُ السرديَّة وضَبط الاصطفافات، وأن تُوضَع فلسطين فوق كلِّ ذاتٍ أو تيّار؛ ولكن دون منطق الأحداث وديناميكيتها. ما ضاع سابقًا يتعيَّن ألَّا يضيع اليوم، وإذا كانت الدولُ جرَّبت منطقَ الميليشيا ولم تنجح؛ فربما الأفضلُ أن تخوضَ الميليشيا تجربةَ الدولة، فى أىِّ نطاقٍ مُتاح، وأن تُقرِّر الخروجَ من الدائرة المُغلقة؛ حتى لا تعود للنقطة نفسها بعد ثمانية عُقودٍ أُخرى.