يبدو أن العلاقة بين الدولة الوطنية، وما يرتبط بها من سيادة، من جانب، والمنظمات الدولية، من جانب آخر، باتت تحمل قدرا من التعقيد، رغم المبادئ المنصوص عليها في القانون الدولي، وكافة المواثيق، والتي تدور في جوهرها حول احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، إلا أن ثمة سوابق دولية عديدة، ربما تأثر بها العمل الدولي، خاصة منذ التسعينات من القرن الماضي، وتحديدا في أعقاب الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، وانطلاق مرحلة الأحادية القطبية، حيث ظهر قدر من التداخل بين الدور الذي تلعبه المنظمات الدولية، ومفهوم السيادة الوطنية، وهو ما ارتبط في جزء منه ببزوغ نجم الاتحاد الأوروبي، ليتجاوز الصلاحيات المحدودة التي تحظى بها مثل هذه المنظمات، ذات النطاق الإقليمي، ليتحول إلى حالة أشبه بـ"الدولة العابرة للحدود".
ولعل الحالة الأوروبية، والتي تبدو ملهمة، في ضوء التزامها بالعديد من المبادئ الموحدة، والتي تمثل في الأساس جوهر الرؤى التي تبناها المعسكر الغربي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، منها الديمقراطية والتجارة الحرة والحدود المفتوحة، ساهمت إلى حد كبير، في الانتقاص بقدر ما من سيادة الدولة الوطنية، في ضوء مسارين متوازيين، أولهما داخل نطاق الاتحاد، عبر الالتزام بسياسات موحدة، في علاقاتها بالعالم الخارجي وكذلك تطبيق نفس المبادئ، إلى الحد الذي أفقدها السيطرة على أمور تمثل مساسا بأمنها الداخلي، منها على سبيل المثال السيطرة على حدودها الجغرافية، في ظل الانفتاح بين دول القارة، وهو الأمر الذي مثل تهديدا صريحا للعديد منها في السنوات الأخيرة، خاصة مع الزيادة الكبيرة في أعداد اللاجئين، وسهولة انتقالهم بين الدول.
في حين بات المسار الآخر مرتبطا، باستمرار الهيمنة الأمريكية، على القارة العجوز، سواء في إطار "أوروبا الموحدة"، أو على دولها بشكل فردي، مقابل الحصول على دعم واشنطن سياسيا واقتصاديا، وهو ما خلق تداخلا ثلاثيا، بين القرار الوطني المرتبط بالدولة، والرؤية الأوروبية، في إطار الاتحاد، بالإضافة إلى التوجهات التي يتبناها المعسكر الغربي (أوروبا والولايات المتحدة)، في ظل حالة من التبعية، هيمنت على مراكز صناعة القرار الغربي في صورته الجمعية.
معضلة "اختطاف السيادة"، تجلت في أبهى صورها، في العديد من المشاهد، التي ضغطت فيها الولايات المتحدة على "أوروبا الموحدة" لتتبنى نفس نهجها تجاه قضايا مختلفة، منها الحروب التي خاضتها ضد أفغانستان والعراق، والمواقف تجاه إيران وكوريا الشمالية، إلا أن التداعيات الخطيرة لهذه الحالة، ظهرت بصورة واضحة، مع الأزمة الأوكرانية، في ضوء الموقف من روسيا، حيث كان رضوخ الاتحاد، وبالتبعية دوله، سببا رئيسيا في تفاقم الأمور، في ضوء التأثير الكبير الذي تركته الأزمة على قطاعات حيوية، على غرار النفط والغاز، ناهيك عن الغذاء، لتسفر في نهاية المطاف عن موجات تضخم عاتية، تلامست بصورة مباشرة مع حياة المواطن العادي، وبالتالي تراجعت شعبية الحكومات، جراء عدم قدرتها على امتلاك زمام القرار الداخلي.
والسبب الرئيسي في تواري معضلة "اختطاف السيادة" الوطنية، خلال العقدين الأولين من حقبة الهيمنة الأحادية، يعود في الأساس إلى الابتعاد الجغرافي للقارة العجوز عن مناطق الأزمات، وبالتالي لم تكن الصراعات القائمة في مختلف مناطق العالم، تحمل تداعيات مباشرة على حياة الغالبية العظمى من المواطنين، بالإضافة إلى الحصول على دعم مباشر من الولايات المتحدة، سياسيا واقتصاديا، ساهم في تحقيق قدر كبير من الرفاهية، في دول أوروبا، إلا أن الأمور باتت مختلفة بعد ذلك، خاصة مع انطلاق حقبة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذي تبنى مواقف مخالفة لأسلافه تجاه الحلفاء الغربيين، من بينها الإجراءات الحمائية التي ارتبطت بالتجارة، بالإضافة إلى تلويحه بالانسحاب من حلف الناتو، ناهيك عن مواقفه المناوئة لاتفاقية باريس المناخية، وغير ذلك من السياسات التي رآها البعض انقلابا على الصفقة الضمنية بين واشنطن وأوروبا الغربية، وهو ما ساهم في تراجع النفوذ الجمعي للقارة وبزوغ حالة من الانقسام تجاه العديد من القضايا، ربما أحدثها الموقف من القضية الفلسطينية في إطار العدوان على غزة، وقبل ذلك الموقف من روسيا في ظل الأزمة الأوكرانية.
ويعد الحديث المتواتر حول فك الارتباط، ولو مرحليا وبشكل جزئي بين أوروبا والولايات المتحدة، بمثابة محاولة لاستعادة السيادة الوطنية، خاصة وأن الأمر بات مرتبطا بالأساس بالقرار الوطني، في ضوء انقسام أوروبا الموحدة، حول نجاعة مثل هذه الخطوة، في اللحظة الراهنة، وذلك بالرغم من محاولات بعض القوى المؤمنة بالوحدة الأوروبية، لقيادة القارة بأسرها نحو قدر من الاستقلالية، على غرار فرنسا، إلا أن الواقع العملي يعكس أن "أوروبا الموحدة" استلهمت قوتها من الدعم الأمريكي، وهو ما يمثل أحد أهم إرهاصات تراجع نفوذ الاتحاد، وليس انهياره، بحيث يعيد للدول قدرا من استقلاليتها في صياغة علاقاتها مع محيطها الدولي، بالإضافة إلى تأمين حدودها الوطنية، واتخاذ ما يروق لها من إجراءات تراها مناسبة لحماية أمنها.
ربما تبقى معضلة "اختطاف السيادة" لا تقتصر على الاتحاد الأوروبي، وإن كان هو النموذج الأبرز، في ظل تدخلات من قبل العديد من المنظمات الإقليمية في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء بها، عبر ممارسة ضغوط لتحويل بوصلتها، وهو ما يعكس استلهام الحالة الأوروبية، إلا أنها ربما لم تنجح في تحقيق نفس النجاعة التي تحققت على مدار سنوات في القارة العجوز، بسبب اختلاف الظروف الإقليمية، من جانب، بالإضافة إلى غياب الدعم الذي حظت به أوروبا من قبل الولايات المتحدة.
وهنا يمكننا القول بأن محورية الدور الذي تلعبه المنظمات الدولية، ربما لا يمكن التخلي عنه بأي حال من الأحوال، في ضوء قدرتها على تحقيق أكبر قدر من التوافق، بين الدول الأعضاء، فيما يتعلق بالعديد من القضايا الدولية والإقليمية، ناهيك عن قدرتها على إنهاء الانقسامات سواء البينية أو الأهلية، إلا أن الحديث الذي قد يثور في المستقبل القريب حول حدود هذا الدور، في ظل حاجة تبدو ملحة لاستعادة مفهوم السيادة الوطنية، على نطاق أكثر اتساعا، مع زيادة رقعة التهديدات ذات الطبيعة الممتدة زمنيا والمتمددة جغرافيا، وبالتالي ضرورة العمل على تأمين الدولة ومواطنيها واحتياجاتهم الأمنية والسياسية والاقتصادية، عبر مواقف تتسق معها تجاه مختلف القضايا.