رغم بهجة الأمتين العربية والإسلامية بقدوم شهر رمضان، لفضائله التى لا تعد ولا تحصى، إلا أنه وخلال السنوات الثمانى الأخيرة صار شهر رمضان يمثل قدومه قلقا بالغا، وحالة من الترقب الشديد للجماعات والتنظيمات الإرهابية، خوفا من الدراما الكاشفة لأفكارهم، والمعرية لمواقفهم، والتى تقودها شركة المتحدة للخدمات الإعلامية، بقدرات متميزة، ساهمت بقوة فى رفع منسوب الوعى عند الناس، خاصة البسطاء الذين كانوا يقعون فريسة خداع الجماعات بأفكار تفصيل تتقاطع مع صحيح الدين.
فى شهر رمضان الجارى قدمت الشركة المتحدة واحد من أهم أعمالها الدرامية، مسلسل «الحشاشين»، والذى يعد أيقونة الدراما هذا العام دون منازع، من حيث الشكل والمضمون والمتابعة، والحراك الذى أحدثه ليس فى الشارع المصرى فحسب، ولكن فى الشارع العربى والإسلامى، وأعتقد أن المسلسل بجودته فى كل شىء سيحقق أرقاما مذهلة فى نسب المشاهدة، وسيضرب بعنف الأفكار الفاسدة.
وبمجرد إذاعة الحلقة الأولى من المسلسل، أصيبت الجماعات والتنظيمات بكل مشاربها ومسمياتها، بحالة سعار شرسة، ورغم أن المسلسل يتحدث عن طائفة بعينها، إلا أن كل جماعة من الجماعات ذات الأفكار المتطرفة، استشعرت أنها المقصودة، على غرار المثل الشهير «اللى على رأسه بطحة يحسس عليها»، وهنا يكتسب مسلسل الحشاشين أهمية كبيرة ونجاحا مبهرا فى تفنيد وتعرية أفكار هذه الجماعات والتنظيمات الإرهابية.
لذلك قادت هذه الجماعات حملة تشكيك كبيرة فى المسلسل، بدءا من التسفيه والتسخيف من أن المسلسل باللهجة العامية المصرية فى ضرب للغة العربية الفصحى، وأن هناك مغالطات كبيرة فى السياق التاريخى، ومحاولة للربط بين جماعة الحشاشين، وجماعة الإخوان، بجانب انتقادات أخرى، بعيدة كل البعد عن النقد الفنى البناء.
وانطلاقا من هذه الانتقادات، لا بد من ترسيخ مفهوم أن المسلسل يقدم لجمهور اليوم، وليس لجمهور القرن الـ11 تاريخ تأسيس وانتشار أفكار الطائفة، وهو جمهور يقينا وراه الثرى، فكيف يطالب هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الدراما، بأن اللهجة العامية المصرية، نالت من قيمة العمل؟
ولا نفهم، ما هو الإصرار على التمسك بالعادة، على حساب الابتكار والإبداع! فالأعمال الإبداعية لا يوجد بها ثابت، فإذا كانت قد جرت العادة فى مسلسلات وأفلام تاريخية، أن تقدم باللغة العربية الفصحى، فهو اجتهاد، صار عادة، وليس أمرا ثابتا لا يقترب منه الابتكار والتحديث، وهل هناك ثابت جوهرى وحدود قاطعة تُلزم الأعمال التاريخية أن تُروى بالفصحى ولا تروى بالعامية؟ إذا كان الهدف من الفصحى أن يتجاوز العمل الدرامى الحدود متسللا إلى المنطقة العربية، فأمر مردود عليه بأن اللهجة المصرية تجاوزت الحدود، ومفهومة من كل الشعوب العربية، بجانب وهو الأهم أن الأجيال الجديدة، وتحديدا جيل ما بعد 2000، تلقت تعليمها فى مدارس اللغات، غير المعنية والملزمة بتدريس اللغة العربية الفصحى، بل إن اللغة العربية ذاتها مهددة بعمق بين هذه الأجيال، علاوة على أن السوشيال ميديا أثرت قطعا على اللغة العربية الفصحى، ونسأل المعارضين للمسلسل، مع فرض حسن النية، هل يدلوننا على أى مجتمع عربى يتحدث الفصحى؟ وهل كان الحشاشون يتحدثون اللغة العربية الفصحى؟ وهل الأعمال الدرامية التاريخية الإيرانية والتركية، تروى باللغة العربية الفصحى؟
أما الذين يشككون فى أن المسلسل احتوى على مغالطات تاريخية، فهنا لا بد من التأكيد على أن هناك فارقا شاسعا فى التناول وفق «الوثائق التاريخية» ووفق «المفهوم التاريخى»، فالوثيقة التاريخية عبارة عن لوح أثرى أو ورق بردى وجلود أو معادن، أو ورق عادى، مكتوب بخط اليد وتتضمن معلومات مباشرة أو غير مباشرة، ومضى على ظهورها الأول ما لا يقل عن ثلاثين عاما أو أكثر، لذلك تعد مصدرا أساسيا للمعلومات التى ترتكز عليها الدراسات والبحوث العلمية المختلفة لما تحويه من مضمون كبير.
أما المفهوم التاريخى بصفة عامة فهو كل تعبير تجريدى ومختصر يشير إلى مجموعة من الحقائق والأفكار المتجاورة من حيث المعنى والدلالة، ومن ثم يشكل صورة ذهنية للفرد عن موضوع معين على الرغم من عدم اتصاله مباشرة بالموضوع الرئيسى.
وبما أن طائفة الحشاشين، باطنية، تؤمن بالعمل السرى، فإن الوثائق والشواهد التاريخية التى تتناول سيرتها وأفكارها عن قرب، قليلة وشحيحة، ولا توجد وثائق تتحدث عن هذه الطائفة، وأن هناك مراجع وكتبا تناولت الطائفة، معتمدة على «المفهوم التاريخى» بشكل عام، ومن المعلوم أيضا أن الدراما ليست حلقة توثيقية صماء، وأن هناك فارقا بين كتابة التاريخ وفق وثائق، وبين العمل الدرامى القائم على المفهوم التاريخى، الذى لا يلتزم بحذافير السرد التاريخى.
واللافت أيضا أن الكتب التاريخية التى تناولت سيرة طائفة الحشاشين اختلفت فيما بينها، وهناك تضارب كبير فى التناول، فكيف تطالبون بأن تكون الدراما تاريخا صرفا! فمن حق صناع العمل وضع رؤيتهم مع الالتزام الكامل بالعناصر الجوهرية للموضوع.
حالة السعار الشرسة للجماعات الإرهابية، لم تكن من المسلسل فحسب، بينما كانت أيضا من آراء الدكتور على جمعة، مفتى الجمهورية الأسبق، صاحب الفكر المستنير، والاجتهاد الذى لا يتقاطع مع نص، عندما أجاب عن عدد من الأسئلة الشائكة لأطفال، فكانت إجابته مؤلمة للجماعات والتنظيمات المتشددة صاحبة الأفكار الفاسدة.
مسلسل الحشاشين، ومن بعده فتاوى الدكتور على جمعة، أزعجت الجماعات التكفيرية، وضربت تجارتهم بقسوة فى السوق السوداء، فانهارت، خاصة أن العمود الفقرى لتواجد هذه الجماعات على قيد الحياة، التجارة السوداء بالدين.
وللحديث بقية.