بعد أن تجاوزت الحرب فى غزة الأشهر الخمسة هناك محاولات طوال الوقت لتقييم الرابح والخاسر من هذا الصدام، صحيح أنه من المبكر الحديث عن مكاسب لهذا الطرف أو ذاك، والقصد هنا المكاسب السياسية، خاصة أن كل طرف يعلن أمام أنصاره أنه الفائز فى المواجهة، بينما يصعب على أى من الأطراف الزعم بالفوز فى ظل أكثر من 30 ألف شهيد وأكثر من 70 ألف جريح، بجانب كل هذا الدمار والجوع والحصار. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الاحتلال يتحدث عن اقتراب تحقيق النصر على المقاومة، بينما أسقط كل هذا العدد بجانب تدمير شامل لغزة بما يجعل الحياة فيها مستحيلة.
على الجانب الآخر فإن حماس تعلن انتصارها وتحقيق مكاسب واختراقات ضد جيش الاحتلال بالرغم من فرق التسلح والإمكانات، وهو أمر صحيح نظريا، لكن وسط المفاوضات أو المطالب يظهر مطلب بالعودة إلى خطوط 7 أكتوبر، وهو أمر لا يمكن اعتباره انتصارا من أى نوع، بينما الفوز الوحيد الظاهر هو أن القضية الفلسطينية عادت إلى الواجهة والاهتمام فى المجتمع الدولى خاصة فى الدول الغربية، لكن هذه العودة إلى الواجهة كان ثمنها كبيرا جدا، ومن بين كل المواجهات والاعتداءات على غزة، فإن مدة العدوان وحجمه غير مسبوقة، ثم إن التدمير هذه المرة منهجى ومتعمد، وحجم الخسائر فى الأرواح ضخم ويشير إلى تعمد تنفيذ عملية إبادة وتصفية عرقية وإصرار على تنفيذ مخطط التهجير والتصفية.
لكن فى مواجهة هذه المخططات فإن حجم صمود الفلسطينيين كبير، فى مواجهة ضغوط كبيرة، ومؤثرة، وقد انتبه لهذا المخطط من يعرفون تفاصيل القضية ومخططات الاحتلال على مدى عقود، ولم ينتبه إلى هذا المخطط غير الدولة المصرية التى وضعت ولا تزال خطوطا حمراء ضد التهجير والتصفية، وإن كانت مصر تتعرض لحملات ابتزاز ومزايدات من قبل أطراف الاحتلال الإسرائيلى وأيضا بعض الأطراف المحسوبة على الفلسطينيين، وإن كانت تعمل مع الاحتلال ولصالحه ومنها التنظيمات الإرهابية التى يحمل بعضها جنسية مصرية أو حتى فلسطينية بينما ينتمون إلى الاحتلال وأهدافه، وهم الذين أيدوا على مدى سنوات التنظيمات الإرهابية والهجمات ويشجعون كل ما يرون أنه ضد الأمن القومى أو المصالح المصرية.
والحقيقة أن السياسة أو تحقيق نقاط ومكاسب سياسية هو الهدف من أى عمليات عسكرية، سواء عملية طوفان الأقصى أو حملات العدوان التى يشنها الاحتلال طوال أكثر من خمسة أشهر، ومن هنا يمكن لكل طرف أن يتحدث عن انتصار، بينما التقسيم الحقيقى أنه لا فائز حتى الآن، فى ظل هذا الدمار، وهذا العدد من الضحايا وحجم الخسائر والتدمير غير المسبوق.
على سبيل المثال هناك رأى للسيد عمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، إن إسرائيل خسرت كثيرا فى الحرب التى تشنها على غزة حاليا، مقابل مكاسب كثيرة حققها الفلسطينيون، ومقابل خسائر الأرواح والدمار فى الجانب الفلسطينى فإن الاحتلال خسر استراتيجيا، بالرغم من حجم التدمير الذى ينفذه.
هناك محللون آخرون يرون أن نتنياهو الذى يستقطب المتطرفين فى إسرائيل لم ينجح فى استعادة المحتجزين، وأنه أضاع فرص السلام، لكن هذا الرأى يتجاهل أن نتنياهو على مدى عقدين لم يتجه إلى السلام ويفوز بناءً على نشر الخوف من الحرب، وأنه أنهى حقبة كان فيها السلام أو معسكر السلام أكثر وضوحا، حتى تم اغتيال إسحق رابين، وبالتالى فإن نتنياهو يرفض السلام ويعلن رفض قيام دولة فلسطينية.
وفى المقابل، فإن الطرف الآخر وهو الجانب الفلسطينى نجح فى دفع القضية الفلسطينية إلى الواجهة، لكن ما زال الفلسطينيون عاجزين عن التوحد والمصالحة بالشكل الذى يساعد على التئام الجبهات والفصائل، وبالرغم من أن مصر بذلت جهودا ضخمة لإنجاز هذه المصالحة فإن الخلافات واللجان الإلكترونية المتبادلة تترك القضية وتمارس أنواعا من المزايدات وتوجهها إلى الدول العربية أو إلى بعضها البعض وتترك الاحتلال، وهو ما يبقى الجبهة الفلسطينية تعانى من الثغرات، بينما كان يمكن الاستفادة من هذا الدفع، لتحقيق وحدة وأهداف تتجاوز الشعارات إلى الفعل.
ومن المهم تجاوز الدعايات والشعارات فى تقييم ما يجرى، من باب وزاوية الأهداف، وليس فقط إعادة ترديد مقولات فارغة من المضمون، فإذا كان نتنياهو يستقطب المتطرفين ويستدعى الحرب والدمار، لكنه فى مأزق عدم تحقيق أهداف واضحة، حيث يمكن أن تظل عجلة الحرب دائرة، لأنها تجد من يغذيها، لأن دورانها يغذى التطرف ويمنع سقوط هذا الطرف أو ذاك.
مقال أكرم القصاص فى العدد الورقى