أجمع كثيرون على أن عصام عمر، الممثل الشاب في مقتبل العمر ومُفْتَتَح المشوار، أجاد دورًا إلى درجة الإبهار في المسلسل الكوميدي "بالطو" (2023) إخراج عمر المهندس، وقيل أن الدور الأول أو بالأحرى البطولة الأولى، لأن لديه أدوار صغيرة في مسلسلات أخرى، كانت هذه البطولة فرصة لإظهار براعته، وأن الحماسة الرغبة في إثبات الذات دفعته إلى هذه البراعة وجعلته متألقًا، قد يكون ذلك حقيقيًا ولكن الأهم هي هذه العفوية التي تقفز من وجهه وتتيح له التصرف بحرية كبيرة، وربما بتحرّر مُرهف من قواعد وتقنيات ما، شيء يشبه طريقة الهواة مع أنه محترف، مدهش بعفويته وبساطته، بتصرّفه العادي والسلس.. لا يتصنّع أداء. لا يُبالغ في سلوك، يحافظ على هدوئه.
دوره في "بالطو" مثير ولافت، إنه بطاقة دخول إلى قلوب المُشاهدين، وإلى عالم صناعة الدراما، فنراه اليوم يجيد وقوفًا جديدًا أمام كاميرا المخرجة نادين خان، مؤديًا لدور مغاير في قصة باهر دويدار وسبناريو وحوار أمين جمال ومحمد محرز ومينا بباوي .. البطولة الثانية مغايرة للأولى، "علي عمر البرنس" يختلف تمامًا عن "دكتور عاطف"، إنه هنا في "مسار إجباري" يستعيد مع فريق العمل ملامح دراما نوعية، تعمل على تفكيك حالات تخص مجتمع منشق على ذاته، ويستطيع احتلال مكانة رفيعة المستوى في المشهد، فطنة كامنة لممثل يعرف كيف يلتقط اللحظة المناسبة بعفوية، يقدم نفسه فيها بمهارة المحترف، متميزًا عن زملائه بكونه الأهدأ شكلًا في التعامل مع لعبة التمثيل.
لاعب آخر أتقن اللغة المطلوبة في التمثيل، عرفناه منذ صباه وهو يخطو أمامنا تدريجيًا خطوات ثابتة وفاعلة نحو نقطة الحضور المشرق و"المتعوب عليه"، إنه أحمد داش أو حسين عمر البرنس في "مسار إجباري"، قادرٌ على الإمساك بكل تفاصيل الشخصية، ينظر نظرة مختلسة إلى عدسة الكاميرا كما لو كان يؤكد لنا أن التمثيل هو فن التلاعب، ما يفعله ليس لحظة عابرة وإنما حرفية خاصة به، أدركها بعد تجارب سابقة أثقلته ورسخت قدراته التمثيلية وإمكانياته في تجسيد نماذج مختلفة، خصوصًا الأمثلة المتنوعة للشخصية الشعبية التي يقاربها هنا بأسلوب وهيئة مختلفة عن سيف في "جعفر العمدة" خلال العام الماضي، تفاصيل شخصية حسين: صوته وطريقته في نطق الكلمات، نظراته المتفحصة والحائرة، الراضية والغاضبة، حركاته وطريقته في المشي، قصة شعره واختياره لملابسه.. وغيرها تمنح هذا الشعور إزاء ممثل يثبت في كل دور أنه إكتشاف حقيقي، يمتلك أداءً مدهشًا، لديه قدرة على كشف الانفعالات مشوّق، كذلك بساطة تعينه على تقديم الشخصية بكل مساراتها وتحوّلاتها، وهو أمر مثير للمتعة البصرية والتفاعل الجماهيري معه.
هذا يعني مسألتين مهمتين: متعة المشاهدة الجديد، ومتعة التعرّف إلى أسماء ووجوه تمثيلية تجتهد مع كل إطلالة لها، وتسعى أن يكون لها مستقبل مشرق ورصيد كبير من أدوار غير هينة، وإلى جانب هذه الأسماء فإن عنصر التمثيل عمومًا في "مسار إجباري" جدير بالالتفات إليه، أدوار وأجيال متباينة تصنع نوعًا من التوازن ينعكس على السياق الدرامي وظهوره على الشاشة، هذا ما نلحظه بحضور: صابرين، بسمة، رشدي الشامي، محسن منصور، مي الغيطي، جوري بكر، ياسمينا العبد و.. غيرهم، فضلًا عن حضور الموضوع الاجتماعي الخارج من واقعنا والمتماثل مع تفاصيله دون غلو أو مبالغة أو معايير إستهلاكية أو خيال ميتافيزيقي جامح، بل إكتراث بالصنيع البصري الذي يعبر عن الحكاية والقصة الدرامية، ويقدم تنويعًا على ثيمة إنسانية تتخللها لحظات مؤثرة وربما نقد مبطّن أو موارب لأوضاع عامة وخاصة إنسانيًا واجتماعيًا على الأقل، بما تحتويه من صدمات شديدة قد عبر عنها بامتياز تيتر المسلسل بأغنية طارق الشيخ ومسار إجباري "مخبية لنا إيه يا دنيا"، كلمات أمار مصطفى، ألحان هاني الدقاق، توزيع مسار إجباري، ماسترنج عادل حقي:" مخبية لنا إيه يا دنيا/ خضة جديدة كل ثانية/ خضة تيجي ورا التانية/وتفاجئينا بحكايات جديدة/ وقبل ما نفوق من صدمة بتلحقينا بالتانية/ إهدي بق علينا شوية".
ثمة سلاسة في السرد وهي أساسيّة دون فذلكات بصرية ودرامية، ومع ذلك لا تخلو الحكاية من عمق وانفعالات وهوامش واقعية، وأداء تمثيلي ينبثق من حِرفيةٍ وإدراك واعي يُلاحقه التصوير كمن يوثق الحالة وينقل واقعيّتها بإيقاع مريح، غير ممل، استشعرناه منذ البداية، من نقطة متوقدة ومحتدمة أشعلت الحدث، فوثب من مشهد إلى الأخر، محاولًا أن يكشف ما يحيط بالأب الذي يقتل ويترك ابنيه غير الشقيقين على محك خطير، وكلاهما عرفا علاقة الإخوة التي تربطهما بشكل مفاجيء، وكلاهما أيضًا يعيشان الصدمة ويضطران أن يسيرا سويًا في مسار إجباري لا مفر منه.. قد يجذب الإيقاع السريع المتفرج ويجعله مأخوذأ به وبما يحتويه من إثارة وتشويق، لكنه كذلك يلائم أسلوب الخمسة عشرة حلقة التي ينتمي إليها المسلسل، وتطرحه مشدودًا على الشاشة دون إطالة أو ترهل، بل تكثيف يعلن عن عمل سوي بمونتاج حساس يضبط البناء الدرامي، كما فعله المونتير محسن عبد الوهاب، وبمصاحبة موسيقى تصويرية لافتة وضعها أمير خلف، تتجول بين تفاصيل الأحداث وتصوغ الانفعالات المختلفة، من كل هذا إختارت المخرجة نادين أن ترسم ملامح تجربتها الجديدة وأن تقدم شيئًا مغايرًا، فتترك انطباعًا يعكس نوعًا من الألفة والتأمل في ذات الوقت لأحوال إجتماعية وثقافية وفنية، ويحتم قراءة منطلقة من هذه النقطة لمسلسل انتصفت حلقاته تقريبًا ومازال يثير شغف المعرفة به والتواصل معه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة