مرَّت القضية الفلسطينية فى تاريخها الطويل بامتحاناتٍ قاسية؛ لكنها ما فقدت البوصلةَ قَطّ، ولا كانت فى محنةٍ كالتى تعيشها اليوم. خرجت من النكبة إلى التعافى المُتدرِّج؛ نحو بناء رؤيتها وتنشيط خيار المُقاومة، وأقامت فى مرحلة السلاح طويلاً حتى اكتملت لديها أدواتُ السياسة، ومن الانتفاضة الأولى إلى أوسلو ثمّ الانتفاضة الثانية؛ تنقَّل المقاومون من سخونةِ دول الطوق إلى اعتدال أجواء تونس، ومنها إلى المنابر الدولية؛ لينتهى فصلٌ من الشتات الأوَّل بعودة مُنظّمة التحرير إلى ترابها، وامتلاك سُلطةٍ وطنية ومرافق حُكمٍ ذاتى. وقد لا تبدو الأمورُ سلسةً وتصاعدية فى انتقالاتها؛ لكنها سارت بين مدٍّ وجزر، تتقدَّم خطوةً أو تتراجع خطوة؛ ولم تفقد حساسيةَ اللحظة أو يختلّ إيقاعُ حركتها بانعدام البدائل. ولعلَّها عرفت الاختلالَ المُعطِّل عندما وقع الانقسام، واستفحلت المُشكلة مع سوء إدارة الصراعات الداخلية أوّلاً، وصولاً إلى «طوفان الأقصى» وما بعدها. والمحنةُ الكبرى حاليًا أنَّ «القديم يموت؛ والجديد تتعذَّر ولادته»، على ما يقول المُفكّر الماركسى الإيطالى أنطونيو جرامشى، وعلى ما يبدو أنه لا يزال خارج وعى القوى والفصائل المُتصارعة على مواقعها فوق خريطةٍ ضائعة.
فرضَ الاحتلالُ منطقَه على الضحايا؛ فصارت الأُسرة الفلسطينية مشغولةً بعنوان «اليوم التالى» أكثر من انشغالها بإنهاء المقتلة. أمَّا الدول الوازنة فى الإقليم فتُرتِّب الأولويات على الوجه السليم: إيقاف الحرب أوّلاً؛ ثمّ بحث ما بعدها فى ضوء واقع الأرض وتوازنات القوى وفلسفة المصلحة الوطنية. والاختلاف الحادث ليس هامشيًّا؛ لأنه يستتبعُ تناقضًا بين الخطابات والمُمارسات: الولايات المُتّحدة تقبضُ على الورقة الإنسانية بيَدٍ وتُغذِّى المحرقة بالثانية، وحكومة نتنياهو تستنزفُ الوقت فى مفاوضات لم تضع لها سقفًا واضحًا ومُقنعًا وقابلاً للإجراء، وفصائل غزَّة تُفتّش عن موطئ قَدمٍ فى المستقبل؛ بينما تُواجه مخاطر فقدان موقعها الحاضر، وأخيرًا فإن السلطة فى رام الله يحدوها الأملُ فى صرف فاتورة التضحيات التى دفعها المدنيّون، لصالح تثبيت شرعيَّتها والتمسُّك بعدم خسارة ما تبقَّى من أوسلو؛ أى أن يظل لفلسطين غطاءٌ سياسى يحوز اعترافَ العالم، ولا يسهُل على العدو أن يُسقِطَه بهجمته الدعائية ضد حماس وحُلفائها.. وليس بالإمكان الخروج من المأزق؛ طالما يختلفون مع القاتل نظريًّا، ويتبنّون سرديَّته فى الممارسة العملية.
مسألةُ الانقسام كانت رياضةً خطابية بين الضفَّة والقطاع؛ لكنها صارت لسبع عشرة سنة رصاصة رابحة فى بندقية إسرائيل. وإلى اليوم، يجرى توظيفها لخدمة الرؤية الصهيونية الساعية لتغييب الشريك، واختزال القضية فى واحدٍ من ألوانها العديدة. وإذا كان ترتيبُ البيت واستعادة وحدته ممَّا يُهدِّد خُطَط «كابينت الحرب» لدى تل أبيب فى مداها القريب؛ فإنه الشرط اللازم لقَفز الحركات الفلسطينية على مُعضلة اللحظة، وهشاشة البرنامجين السياسى والعسكرى منذ اندلاع الحرب. وبوضوحٍ أكبر؛ فليس مُهمًّا الآن طبيعة التهدئة المُرتقَبة، ولا النقطة التى ستسكُت عندها البنادقُ ويبدأ الحوار؛ طالما أن أُفق التفاوض غير واضحٍ فى أذهان الفلسطينيين، ولا يتّفقون على الصيغة الجديدة لفَضّ التشابُك بين السلاح والدبلوماسية، وتحديد المِفصل الذى يتعيَّن أن يتوقَّف عنده الأوَّل، وأن تنشط الثانية وتتقدَّم لواجهة الصورة، والتركيبة التى تُحقِّق أوسعَ تمثيلٍ فصائلى من دون إثارة الغريم والضامنين، أو تكبيد المرحلة المُقبلة أعباءَ الوَصْم والإنكار التى باتت تُلاحِق بعضَ أطياف المقاومة.
كان غريبًا أن تُهاجم «حماس» مشروعَ الحكومة الجديدة، ولم تتّضح ملامحُه الكاملة. الأسابيعُ السابقة شهدت توافقًا غير مُعلَن على إعادة بناء مرافق السلطة، ودارت نقاشاتٌ فى القاهرة، ثم فى الدوحة بوساطةٍ قطرية على هامش زيارة الرئيس أبو مازن وبعض قيادات اللجنة المركزية، وبعدها جاءت لقاءات موسكو بحضور أغلب الحركات، بما فيها «فتح» ومُمثّلون عن منظّمة التحرير. وتمحورت أغلبُ الرؤى حول تكوين حكومة تكنوقراط غير مُلوَّنة، تمهيدًا لانخراط حماس والجهاد فى المُنظّمة باعتبارها الممثل الشرعى والوحيد للشعب، واستخلاص وجهٍ إجماعى يصلُح لإدارة المرحلة التالية، وقَطع الطريق على مُناورات إسرائيل لتمرير اقتراحات الاحتلال الدائم، أو السيطرة الأمنية، أو استدعاء قوَّات خارجية تحت مظلَّة إقليمية أو أُمميَّة. وبمُوجب التفاهمات استقال محمد أشتية، وتردَّد اسم رجل الأعمال محمد مصطفى، وعلمت به قيادات الخارج والوفود الذاهبة إلى روسيا قبل سفرها، وعندما جاء التكليف فِعليًّا تصنَّعت بعضُ التيارات حالَ الصدمة، وصوَّرت الأمر كما لو أنه تحايلٌ من رام الله على غزَّة؛ بينما الواقعُ أن المحنة واقعةٌ فى القطاع، والمَخرَج لا يُمكن أن يتأتَّى إلَّا من طريق الضفّة، وطبيعى أن يكون على شرطها، وبدون بصمة قسَّامية واضحة على النسخة المُعدَّلة؛ حتى لا تتّخذها تل أبيب ذريعةً للتصويب على المسار الجديد.
تحدَّث قادةُ الفنادق والخنادق لغةً واحدة؛ رغم وتيرة الخلافات التى خيَّمت على مُفاوضات الهُدنة وكادت تخرُج للعلن. وقالت «حماس» فى أحاديثها وبياناتها إنّ التكليف الرئاسى يحتكرُ القرار ويُغذِّى الانقسام، وينفردُ برَسم ملامح المرحلة من دون الشركاء الفعليِّين فى البيت وعلى الأرض. وفى المقابل ردَّت «فتح» بلهجةٍ حادة وجارحة؛ فاتّهمت غريمتَها بأنها سببُ الفُرقة أصلاً، وتُقدِّم تنازلاتٍ انفراديّةً لإسرائيل، مثلما صنعت نكبةَ القطاع بقرارٍ أُحادىّ من دون استشارةٍ أو تنسيق، وكما ترهنُ المسألةَ الوطنية لإرادة إيران وأذرُعها فى تيَّار الممانعة، والحقيقة أن فى كلام الطرفين جانبًا من الصحة، وفى بعضه تبسيطًا وتحامُلاً، وفى أحسن التقديرات يُحمَل أغلبُه على اللجج لا البلاغة، وهو ممَّا لا تحتمله اللحظة ويُقال فى غير السياق والأوان المُناسبين.
مُقاربة المنطق لا يُمكن أن تتغافل عن يد «حماس» العُليا فى الانقسام، منذ اختطفت القطاع وألقت خصومها الفتحاويين من أعالى البنايات، كما لا يصحّ القفز على رخاوة السلطة وتكلُّس مفاصلها، وحاجتها المُلحّة للضبط والإصلاح قبل «طوفان الأقصى» وبعدها. أمَّا تسوية الخلافات القديمة فليس مطلوبًا أن تُدار على قاعدة الماضى، ولا أن يبدأ الطرفان جَردةَ الحساب بتقليب الرواسب واستعراض الديون القديمة؛ إنما أن يُنظَر للمسألة من زاويةِ المُعضلة القائمة، وأَوفَق السُّبل لتصفيتها، على أن يتقدَّم الطرفُ الأصلحُ للقيادة، أو على الأقل أن يتأخَّر الفريقُ الذى لا يملك ما يُقدّمه، أو يُخشَى من أن يكون خاصرةً ضعيفة يتيسَّر للعدوِّ إتيان القضية منها، أو استكمال عدوانه العسكرى الفادح بعدوانٍ سياسى لا يقل رُعبًا وتدميرًا؛ إذ يستفيد من حَشر الفصائل الموصومة فى مشهد الحُكم، بدلا من سَترها برداء السلطة الشرعية.
أعلنت إسرائيلُ أنها قتلت مروان عيسى، الرجل الثالث فى منظومة «السنوار» والأنفاق، وأكَّد الأمريكيون الخبر. وربما تعى «حماس» اليوم أكثر من أى وقتٍ مضى أنها خسرت الحرب تكتيكًا واستراتيجية. صحيح أن إسرائيل نزفت كثيرًا من اقتصادها وقوَّتها ودعاياتها الأخلاقية، وتشقَّقت صورةُ الردع التى تعيش عليها، وتُمثِّل عقدَها الاجتماعى مع مواطنيها؛ لكنها دمَّرت غزَّة وحوَّلتها إلى بيئةٍ غير صالحة للحياة، وإعادة تأهيلها مرهونةٌ أوّلاً بترويض جنون اليمين الصهيونى، ثمّ بتنشيط ورشة الإعمار وإقناع المانحين بالعودة إلى جغرافيا لم تتوقّف فيها الحرب إلَّا لتندلع من جديد. وبينما تبدو المهمّة اعتياديّةً وسابقةَ التجربة؛ فإنها فى الواقع صعبة ومُتعثّرة فى الجولة الراهنة. أوّلاً لأن الاحتلال يرفضُ أن تبقى قبضة حماس حاكمةً للقطاع، ثم إن القادرين على التمويل لن يُغامروا بإلقاء أموالهم قبل التأكد من انطفاء النار وصعوبة تجدُّدها سريعًا، وتحقيق الأمرين معناه تغيير التركيبة القائمة تمامًا، ومن دونهما لا مَغنم للفصائل الغزّية لو بقيت مُهيمنةً فوق الأطلال وتلال الركام والجثث.
موقفُ السلطة يسيرُ فى مسارٍ مُنتظِم ولو كان محل ملاحظة واعتراض؛ فلم تتَخلّ عن وجهها السياسى أو تتورَّط فى إدانة المقاومة، ومنذ اللحظة الأولى أكَّدت جاهزيّتها لاستلام غزَّة؛ على شرط أن يكون ذلك فى إطار ترتيباتٍ سياسية شاملة. لكن العقل الحاكم للقطاع استدار على نفسه أكثر من مرَّة؛ فقال ما معناه أنه فى مواجهةٍ وجودية لا عودةَ عنها ولا تفريط فى غاياتها، ثمّ أبرمَ هُدنةً بمكاسب أقل ممَّا كان يُبشِّر به، وتقلَّب بعدها على مُنحدر هابطٍ طوال أسابيع من مفاوضات البحث عن وقفةٍ ثانية، بدأها بإيقاف الحرب وخروج قوات الاحتلال كاملةً مع تبييض السجون من آلاف المُعتقلين، وتضاءلت آماله أخيرًا لمستوى التهدئة المُؤقّتة وإخلاء شارعى الرشيد وصلاح الدين، وتحرير خمسين سجينًا فقط مقابل كلّ أسير. فكأنها تتراجعُ أمام إسرائيل وتتشدَّد مع السلطة، وهذا ممّا يخدمُ رُؤيةَ العدوّ بتأكيد فاعلية التفاوض تحت النار، وضمان أن يستمر الانقسام بكلِّ آثاره المُوجِعة للجغرافيا والبشر. وقطعًا لا يُمكن الطعن فى نوايا المقاومة واستقامتها الوطنية والخُلقية؛ لكنّ الصورة تبدو كما لو أنهم يقبلون الخسارة لصالح نتنياهو، ويُحاولون تعويضها من رصيد عباس والمُنظّمة. أى أنَّ القسَّاميين أدركوا أنهم لم يخرجوا من المغامرة بما أرادوا؛ فقرَّروا أن يُترجِموا هشاشتهم فى الميدان إلى تصلُّبٍ فى مرافق الحُكم، ومن دون سداد التزامات العضوية والشراكة؛ إذ ما زالت «حماس» خارج منظمّة التحرير ولا تعترف بشرعيتها، ومن غير المنطقى أن تسعى لمُقاسمتها فيما يقع تحت ولايتها، ثمّ تنفرد وحدها بما يخصّ السلاح وقرارات الحروب والهُدَن، والتحالفات مع ميليشيات الخارج وخريطة المذهبيات المُتمدِّدة فى الإقليم.
كانت «طوفان الأقصى» تحرُّكًا مقبولاً بمنطق الحقوق العادلة والمقاومة المشروعة؛ لكنه كان خاطئًا بحِسبة الجدوى والمصالح الاستراتيجية. والأزمةُ أن الدمار الواقع على القطاع يُقدِّم دليلاً قاطعًا على المحنة والفشل، والخطاب الطالع من الأنفاق يُكابر ويعيش حالةَ إنكارٍ بائسة.. وإذ تُلام السلطةُ على تكوين حكومتها خارج وصاية القسَّام؛ فإن الذين أطلقوا الطوفان نسَّقوا مع حُلفاء الخارج وأبلغوا حسن نصر الله قبل الهجوم، ولم يُخطروا أشقاء الداخل أو يضعوهم فى صورة العملية وما بعدها، وللآن يُديرون مفاوضات الهُدنة بتغييبٍ كامل للضفّة؛ ثم ينتقدون أنهم استُبعدوا من قرار تشكيل الحكومة. وأقربُ الصيغ لهذا ما يفعله حزب الله بلبنان؛ إذ يفرض وصايتَه على الدولة بسلاحه غير الشرعى، ويحتكرُ قرار الحرب والتهدئة وترسيم الحدود، ثمّ يُعطّل الدستور والدولاب التنفيذى لإنفاذ إرادته فى اختيار الرئيس ولو بقى قصر بعبدا خاليا لأكثر من 17 شهرًا.. وإن كان سياقُ الاستقلال وامتلاك بِنية مُؤسَّسية، ولو هشَّة، يسمح بإبقاء لبنان فى تلك الحالة دون أن يطفو أو يغرق؛ فإنّ فلسطين الضائعة بين بطش الاحتلال وأطماع المحاور والفصائل، لا تحتملُ رفاهيةَ التسلُّط المجنون على وُجودها الشبحىّ، بينما تسعى لاكتساب جسدٍ مادىّ منظور، لا يُمكن أن يتحقَّق تحت غطاءٍ عقائدى بامتداداتٍ فوق وطنية، وبرصيدٍ وافر من العداوات والمواقف الغربية المُتشدِّدة.
السجالُ الأخير يكشف عن أزمةٍ أعمق من الامتحان القائم؛ إذ الإشارة فيه أن الشكوك تتقدَّم على الشراكة فى الأرض والمَظلمة، ويترتَّب عليها افتقادٌ حاد للحصافة فى توزيع الأدوار وتوظيف كامل القوّة. السُلطة عندما تعرّضت لانتقادات لم ترُدّ، ولا ردَّت مُنظّمة التحرير، وتكفّلت «فتح» بإصدار البيان الحارق، هذا التناغم بين ثلاثةِ محاور تُشكِّل البناء العام، ويُمكن اتّخاذ المواقف من خلالها أو التراجع عنها وإنكارها أيضًا، لا يتحقّق على الجانب المُقابل، فتبدو «حماس» كما لو أنها تضع البيضَ فى سلةٍ واحدة، وتسعى لإجبار الجميع على السلوك نفسه رغم عواره. وإن كان لا سبيلَ للمُقاومة الفعّالة من دون الوحدة؛ فإنه لا بديلَ عن تنشيط السياسة وإعلائها فوق السلاح؛ مرحليًّا على الأقل، واعتراف كل طرفٍ بأخطائه، والتوقّف عن ادعاء البطولات العاطفية بينما تُباد غزَّة وتُقتلَع من جذورها. قرَّر القسَّاميون إشعالَ النار بإرادة مفردة، وعليهم أن يتقبّلوا اليوم أن يتقدَّم السياسيّون لتنظيف آثار العملية وإبقاء البيت آمنًا من الهدم الكامل.
الملاحظاتُ عديدةٌ على كلّ الأطراف؛ إنّما المُهمّ ألّا تنسحب الحسابات الظرفية والمصالح الشخصية وإرادة الرعاة الخارجيين على المشهد، وأن يُعاد تكوينُ التركيبة الحاكمة بأعلى قدرٍ من التوافق، وأقلِّ مستوىٍ من الشُّبهة والاعتراض والملاحظات. وإذا كانت البندقية أخفقت وخلَّفت وراءها أكثر من مائة ألف شهيد وجريح؛ فإن عليها أن تتقهقر قليلاً، وأن تُقِرّ بأنها دُفِعَت لمغامرة غير محسوبة وغير صائبة، وأن النضال غايته الأرض والبشر، ولا مفازةَ لو بقى المُقاتل وذخيرته، واحترقت الجغرافيا وأُبيد الناس.