فى أحد أيام عام 1922 استدعت مسز كارتر، مديرة مدرسة السنية، عبدالرحمن أفندى محمد الموظف بهيئة المساحة، ووالد الطالبة توحيدة، لتخبره بأنه وقع الاختيارعلى ابنته المتفوقة للسفر فى بعثة تعليمية لإنجلترا لدراسة الطب، اختير لها 6 فتيات متفوقات وبتوجيهات من الملك فؤاد، لتكون هذه البعثة نواة لأول طبيبات مصريات تحت اسم «بعثه كيتشنر »، وأن مدة هذه البعث ستكون 10 سنوات، تقضيها ابنته التى لم يتجاوز عمرها 16 عاما بعيدا عن وطنها وأهلها.
دارت الدنيا برأس عبدالرحمن أفندى، الرجل المستنير والخطاط المتمكن، الذى نسخ القرآن بيده بالرسم العثمانى 18 مرة، ومرة بالرسم المغربى، ثم اشترى مطبعة على نفقته لطباعة المصحف، فعلى الرغم من استنارته ونظرته التقدمية للمرأة وحرصه على تعليم بنتيه توحيدة ومفيدة- الأولى أصبحت أول طبيبة والثانية أول محامية- فى وقت لم يكن تعليم البنات منتشرا، إلا أن أفكارا كثيرة دارت فى رأسه حين أخبرته مسز كارتر بموضوع البعثة، وبأن ابنته سوف تغترب بعيدا عن أسرتها فى بلاد بعيدة طوال 10 سنوات، فطلب من المديرة مهلة للتفكير لعرض الأمر على ابنته توحيدة ووالدتها، الغريب أنه تصادف فى نفس اليوم الذى وقع فيه الأب فى هذه الحيرة، زادت حيرته حين طلب منه أحد أصدقائه يد ابنته ليتزوجها ابنه العريس المناسب بكل المقاييس.
عاد عبدالرحمن أفندى إلى بيته، وفى رأسه مئات الأفكار والأسئلة، وفقا لما حكاه الحفيد محمد محمود عبداللطيف الابن الأصغر للراحلة الدكتورة توحيدة عبدالرحمن فى عدد من الحوارات التليفزيونية والصحفية، وما ورد فى كتاب الدكتورة للكاتب الصحفى مؤمن المحمدى.
عرض الأب الأمر على توحيدة ووالدتها السيدة زكية وكان قرار الجميع السفر للحصول على البعثة، ردت الأم على الفور بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم قائلة: «اطلبوا العلم ولو فى الصين »، وكان رد توحيدة حاسما قاطعا دون تفكير لتسافر الفتاة إلى بريطانيا عام 1922، وتجتهد وتكافح وتتفوق تفوقا يلفت أنظار أساتذتها، الذين عرضوا عليها البقاء فى بريطانيا والحصول على الجنسية، إلا أنها اعتذرت مؤكدة أنها تعلمت على نفقة الحكومة المصرية، وهدفها خدمة وطنها، لتعود عام 1932 إلى مصر ويتم تعيينها كأول طبيبة فى الحكومة المصرية.
رحلة توحيدة.. ولدت الدكتورة توحيدة عبدالرحمن عام 1906 وحرص والدها على تعليم ابنته، فألحقها بالمدرسة السنية، كما فعل بعد ذلك مع شقيقتها مفيدة التى أصبحت أول محامية، وتميزت توحيدة بالذكاء والاجتهاد وتفوقت فى اللغة الإنجليزية، وكانت شغوفة بالقراءة فى كل المجالات، وحرص والدها على تشجيعها فكان يحضر لها الكتب الدينية والتراثية، فتميزت الابنة بالثقافة الواسعة، واجتازت امتحان البكالوريا بتفوق عام 1922 فرشحتها مديرة المدرسة لبعثة دراسة الطب فى بريطانيا، التى اختير لها 6 فتيات.
ذهب عبدالرحمن أفندى لتوصيل ابنته إلى ميناء بورسعيد حتى تحملها السفينة إلى بريطانيا، حيث كانت الرحلة تستغرق 17 يوما فى البحر، ثم تقضى الابنة 10 سنوات كاملة بعيدة عن أسرتها تدرس الطب، وقبل أن يودعها الأب طلب منها أن تخلع اليشمك، وأن ترتدى الملابس العصرية حتى لا تبدو شاذة فى المجتمع الإنجليزى- وفقا لما حكاه ابنها فى حواراته- ودعها الأب تاركا معها أمالا عريضة ومخاوف كثيرة وهو يقول: «ربنا ينصرنى بيكى يا توحيدة ».
وصلت توحيدة إنجلترا ومنذ اليوم الأول بدأت تكتب مذكراتها ومشاهداتها فى هذا البلد، حيث كانت تتمتع بميول أدبية إلى جانب تفوقها العلمى وحبها لدراسة الطب، فكتبت عن السيدة العجوز التى وقفت أمامها فى طابور طويل بأحد متاجر بريطانيا لتدفع حساب بعض مشترياتها، لتفاجأ توحيدة بأن هذه السيدة هى ملكة بريطانيا العظمى، جاءت بنفسها لتشترى بعض أغراضها ولم تتجاوز دورها فى الطابور كأى مواطن، فتعلمت أنه لا مكان للوساطة والمحسوبية فى حياتها، كما تعلمت الكثير خلال هذه الرحلة وما عاشته من مواقف وأحداث.
تفوقت توحيدة فى كل سنوات دراستها وكانت تحصل على أعلى الدرجات- كما ذكر ابنها وكما أثبتت الوثائق التى حصل عليها الابن من بريطانيا بعد وفاة والدته- وهو ما لفت أنظار أساتذتها الإنجليز، فعرضوا عليها البقاء فى بريطانيا والعمل فى أكبر مستشفياتها والحصول على الجنسية الإنجليزية، ولكنها اعتذرت، مفضلة العودة لمصر وخدمة وطنها، وكان والدها يزورها زيارات قليلة متقطعة خلال فترة بقائها فى بريطانيا.
العودة للوطن.. وبعد انتهاء البعثة، عادت الدكتورة توحيدة إلى مصر عام 1932 واحتفت بها الصحف، فنشرت مجلة «اللطائف المصورة» عن هذا الحدث قائلة: «وردت الأنباء التلغرافية أن الآنسة توحيدة عبدالرحمن اجتازت امتحان الدكتوراة فى الطب من إنجلترا، وفازت بهذه الشهادة العالية، وبذلك أصبحت ثانى آنسة مصرية تحوزها بعد هيلانة سيداروس، زميلتها فى البعثة، التى عادت قبلها بأسابيع»
وأوضح ابنها محمد محمود عبداللطيف، أن الدكتورة هيلانة سيداروس عادت قبل والدته بـ8 أشهر وأصبحت أول طبيبة، ولكنها لم تعين فى الحكومة المصرية، وفور وصول توحيدة قدم لها والدها، الذى لم تسعه الفرحة بابنته الطبيبة، هدية احتفالا بعودتها وتخرجها، وكانت الهدية عيادة طبية مجهزة فى شارع عدلى بوسط البلد، ولكن الابنة أرادت أن تعمل فى الحكومة ومستشفياتها حتى يستفيد الفقراء والبسطاء من علمها، فشكرت والدها على الهدية، وبالفعل كانت أول طبيبة يتم تعيينها فى وزارة الصحة بمستشفى كتشنر الخيرى عام 1932 وقامت بتدريب الأطباء والطبيبات على آخر مستجدات الطب الحديث فى العلم، لتكون بذلك أول طبيبة فى الحكومة المصرية.
وكشف الابن فى حوار مع جريدة الوفد، أن الملك منح والدته لقب «هانم » بسبب نشاطها وعملها الدؤوب، ولم يكن هذا اللقب يمنح إلا لسيدات الأسرة المالكة والطبقة الحاكمة، وتم الاتصال بها لإبلاغها بالخبر فتقبلت الأمر بشكل عاد، وأرسلت مدير مكتبها ليتسلم البراءة الخاصة بلقب الهانم، نظرا لانشغالها بالعمل، وتوجه بها إلى مكتبها فوضعتها فى آخر درج وبعد فترة وهى توقع «البوسطة »، فوجئت بأن الأوراق الرسمية التى توقع عليها مزيلة بلقب هانم، فانفعلت وأبدت اعتراضها على وضع لقب هانم على الأوراق الرسمية، وقالت لمدير مكتبها: «أنا دكتورة ولست هانم تغربت 10 سنوات حتى أفيد بلدى بالعلم الحديث، ولكن الهانم هى التى تجلس فى البيت وتمارس الأعمال الخيرية »، وطلبت منه إعادة كتابة كل الخطابات مرة أخرى بلقب الدكتورةـ على ألا يكتب نهائيا لقب الهانم مستقبلا.
تدرجت الدكتورة توحيدة فى المناصب الحكومية حتى وصلت لمنصب كبيرة طبيبات وزارة المعارف، ومديرة الصحة المدرسية، وأصرت أن يأخذ جميع الأطفال التغذية الأساسية، فكانت الوجبات المدرسية خلال عملها شيئا أساسيا، وكانت تمنح الأطفال الوجبات ليأخذوها معهم إلى المنزل، وفقا لما ذكره ابنها، وسافرت فى بعثات للخارج لدراسة أحدث ما وصل إليه مجال الصحة المدرسية لتطبيقه فى مصر.
وأشار الابن إلى الصدام الذى أدى إلى أن تقدم والدته استقالتها من منصبها وتسوية معاشها، حيث تقدمت إحدى الطبيبات بطلب نقل إلى الدكتورة توحيدة فرفضت الطلب، بعدما رأت أن حاجة العمل لا تسمح بالنقل، وأنه لا يوجد سبب يستدعى تنفيذه، وبعد أيام وجدت الطلب المرفوض على مكتبها من جديد، بعد أن حمل تأشيرة الوزير، بما يعنى أن عليها أن توافق فورا على الطلب، وفى هذه اللحظة قررت أن تعيد الطلب للوزير وعليه قرار منها برفضه من جديد لأسباب موضوعية حددتها، ومع الطلب المرفوض قدمت استقالة من منصبها وطلب بتسوية معاشها، وحاولت قيادات فى الحكومة إثناءها عن هذا القرار، ورأوا أمام إصرارها أن يعلقوا القرار حتى تهدأ، ولما ذهبت بعد ثلاثة أشهر لتسوية معاشها، فوجئت بأن راتبها تجمع فى حسابها وأصبح مبلغا كبيرا، فسحبت راتب الشهور الثلاثة وحولته فى حوالة بريدية إلى الوزارة، وأصرت على الاستقالة.
الدكتورة والمستشار.. تزوجت الدكتورة توحيدة من المستشار محمود عبداللطيف، وعن قصة زواجها، قال محمد أصغر أبنائها، الذى تخرج فى الكلية الحربية، وشارك بحرب أكتوبر فى حوار لـ «اليوم السابع »: والدى المستشار محمود محمد عبداللطيف كان أصغر وكيل نيابة فى مصر، وتقدم لخطبة أمى حيث كان والده جارا لهم وصديقا لوالدها، وذهب أبى ليطلب يدها ومعه شقيقه الأكبر محمد، نظرا لوفاة والده، وعند سؤالها وقتها رفضت، وقالت إنها لا تفكر فى الزواج بسبب انشغالها فى عملها، وعندما رأته وافقت من النظرة الأولى، حيث شعرت بذكائه واستنارته وتقديره لكفاحها، وتزوج شقيقه الأكبر محمد لاحقا بشقيقتها الصغرى مفيدة، التى أصبحت فيما بعد المحامية الشهيرة بمصر وعلى مستوى العالم العربى، وتمت خطبة الدكتورة توحيدة والمستشار محمود فى يناير 1933، وفى فتره الخطبة قام الخطيب برحلة إلى إنجلترا ليزور نفس الأماكن التى عاشت فيها خطيبته فى سنوات بعثتها، ليكون أكثر فهما لعقلية وثقافة المرأة التى اختارها شريكة لحياته، وتزوج المستشار والدكتورة وأنجبا 7 من الأبناء «هدى، سميحة، صافيناز، محمود، أميمة، فؤاد، محمد ».
وارتبط اسم المستشار محمود محمد عبداللطيف بعدد من القضايا الشهيرة، وهو على منصة القضاء ومنها قضية البطريرك وقضية سفاح الإسكندرية والجاسوسية الكبرى وقضية السيارة الجيب عام 1951، وكان عضو اليمين فى المحكمة التى حكمت بالإدانة على عدد كبير من أعضاء جماعة الإخوان، كما كشفت عن جرائم تنظيمها المسلح، ولذلك قررت الجماعة الانتقام منه واغتياله بإطلاق الرصاص عليه فى الڤيلا المقيم بها بحى المعادى، وبالصدفة كان وقتها فى الصعيد فى مهمة قضائية، ولم يكن بالفيلا سوى زوجته الدكتورة توحيدة، التى نجت من الموت بأعجوبة، وتصدر الخبر الصحف العالمية ووكالات الأنباء، حيث وصفته الصحف العالمية بـ «الرجل القوى شديد الذكاء »- كما أشار ابنه- وكان يتحدث الإنجليزية بطلاقة، وذاع صيته بسبب هذه القضايا، وتدرج فى المناصب حتى وصل لرئيس محكمة استئناف القاهرة بدرجة وزير، وكانت له مكانة وتقدير كبير، حتى إن الرئيس جمال عبدالناصر حضر حفل زفاف ابنته سميحة عام 1959 بنادى الجلاء وتعرف على أفراد أسرته.
رحل المستشار محمود عبداللطيف فى 6 أغسطس 1972 ولم تحتمل الدكتورة توحيدة فراقه فمرضت مرضا شديدا، حيث أصيبت بالسرطان وسافرت إلى بريطانيا، حيث يقيم ابنها الدكتور فؤاد، الذى كان يعمل طبيبا هناك، وكانت حالتها متأخرة، وتوفت هناك فى 10 سبتمبر عام 1974.
وأشار محمد، أصغر أبناء الدكتورة توحيدة وأكثرهم ارتباطا بها، إلى أنه بعد رحيلها بسنوات طويلة عثر على خطاب أرسلته لوالدها خلال بعثتها عام 1927 فقرر السفر إلى لندن، وتحديدا إلى المستشفى الذى درست فيه، وكان ذلك فى شتاء عام 2000، ليكتشف أن ملف والدته ما زال محفوظا فى سجلات المستشفى البريطانى، وتمكن من جمع عدد من الوثائق النادرة التى تخصها، ثم بدأ رحلة بحث أخرى فى أرشيف الدولة المصرية بوزارة الصحة ووزارة التربية والتعليم والسجلات المحفوظة فى دار المحفوظات وإدارة التأمينات والمعاشات، ليجمع مادة كتاب يحمل سيرة ومسيرة والدته صدر عام 2016 تحت عنوان «الدكتورة.. لما كانت مصر مصر » بمناسبة مرور 110 عاما على مولدها، وخصص عائدات الكتاب لمستشفى سرطان الأطفال، وأطلقت محافظة القاهرة اسم الدكتورة توحيدة عبدالرحمن على شارع بمصر الجديدة، تقديرا لدورها ومكانتها العلمية والإنسانية كواحدة من رواد الطب وتحرر المرأة.