«المكان إذا لم يُؤنَّث لا يُعوَّل عليه»، حسبما يقول مُحيى الدين بن عربى فى إحدى رسائله. وباستلهامٍ يُجرّد الرؤيةَ ويُعمّمها، يُمكن القول إنّ «كلّ ما لا يُؤنَّث لا يُعوَّل عليه»؛ فالأنوثةُ روحُ العالم وجوهره البهىّ، من حيث كونها آيةَ الخصب والنماء، واللمسةَ السماوية التى تُلطِّف القُبحَ وتُروِّض إيقاعَ الأيام. هكذا منذ أنشأتها الإرادةُ العليَّة شريكًا لآدم ومُكمِّلاً لنواقصه، على ما تُورِد الميثولوجيا وسرديَّات الأديان السماوية، ومنذ عمَّدتها الحياةُ عنوانًا لصيرورتها وبقاء أنواعها، وفقَ ما استقرّ فى التاريخ وفِقه الواقع. وقد كابدت المرأةُ كلَّ اختناقات الدراما البشرية، ومُورِست عليها صنوفُ القهر والإبعاد؛ وما تشوَّهت روحُها ولا قصَّرت فى أدوارها. كأنها نُذِرَت لمهمَّةٍ قُدسيّة، تمتزجُ فيها خلاصةُ التفانى بأعلى صور الرضا وإنكار الذات، واختارت بقصدٍ ومحبَّة أن تحترق صمتًا لتُنيرَ الدنيا، وتحفظَ للآدميِّين إنسانيّتَهم نَديّةً وصافية، حتى أنها تتعهَّد خزانةَ الرحمة دون يأسٍ أو كلل، ومهما اشتطّ الذكورُ وأوجعوها بالضغوط والحروب والتقاليد البالية.
عاينتُ القداسةَ على القُرب، ورأيتُها رأىَ العين؛ عندما طرقَ ملكُ الموت بابَ بيتنا؛ فطار أبى بجناحين أسودين، وصادقت أُمِّى ملابسَ الحداد منذ ثلاثة عقود إلى اليوم. المرأةُ التى ترمَّلت فى مُنتصف عمرها، على ثلاثة أطفالٍ أكبرهم فى آخر سنوات الابتدائية، قدَّمت برهانًا عمليًّا على أن الكون محروس بهشاشته، ولولا النساء ما كان للرجال أن يقفوا على ناصية الزمن، مُتوهّمين أنهم عبروا إلى البأس والسيادة بأسبقيّة النوع، أو لفضلٍ مُدَّعَى فى ذواتهم. مُنِحتُ عُمرًا كاملاً من سيّدةٍ ريفية لم تُكمل تعليمها، وأُجبِرَت كغيرها من فتيات زمانها على الإلحاق بعصمةِ زوجٍ يكبُرها قبل أن تغتسلَ من طفولتها، ولقاء هذا منحناها يومًا فى السنة نقول لها: عيد أُمّ سعيد. حتى التهنئة مُلحَقة بالذكورة على معنىً من معانيها؛ إذ تُقَدَّم لهنّ تأسيسًا على كونهنّ زوجاتٍ وأرحامًا ولّادة، وأنهنّ حقَّقن مُرادَ الآباء فى الذرّية وتخليد الاسم والسيرة، بينما لا يبقى منهن فى الذاكرة إلّا لحظات حميميّة خاصة، لا تُخلِّدها الأوراقُ الثبوتية ولا تنسيبُ العوائل الذى أدمن إسقاطَ النساء من حساباته. كان أبى طيّبًا؛ على ما تيسَّر لى معرفته فى رفقتنا القصيرة؛ لكنّ أُمّى كانت كلَّ شىءٍ تقريبًا، وما زالت. وهى أكبرُ وأَجَلّ من أن يحتويها يومٌ أو تكفيها تهنئة.
ربما وقع اختيار الحادى والعشرين بالمُصادفة؛ لكنّه اليوم الأمثل للقعود عند أقدام الأُمّهات. لعلَّ مارس شهر النسوية بجدارةٍ واستحقاق؛ اتّصالاً بما رتّبه له التاريخ القريب، وما خصَّته به الطبيعةُ من منشأها السحيق. وبينما يختلفُ العالمُ فى احتفالاته بالأُمومة؛ فيُحييها بعضُهم فى فبراير أو ديسمبر، وأكثريّتهم فى مايو. كان انتقاء المصريين للمَوعد عبقريًّا شديدَ الدلالة. والدعوة التى أثارها مصطفى أمين فى عموده «فكرة» مُنتصفَ أربعينيات القرن الماضى، سوَّقت نفسها بمنطق الضرورة والاحتياج، واتّخذت هيئتها العملية بمشورة القرّاء، فكان الاتفاق على أن تتّحد الأنوثةُ المادية بمعناها الرمزى، كاتّحاد اللفظ والدلالة؛ فيصير افتتاحُ الربيع بألوانه ومباهجه تاجًا يُكلِّل هامات حواء وبناتها. وإلى الارتباط بالسنة الشمسية، والفصلِ الذى تُجدِّد فيه الحياةُ ملامحَها؛ فإنّ للشهر نفسه ذاكرةً أعمق اتّصالاً بالمرأة فى خصوصيتها المحلّية، وفى سياقها العالمى الذى تتكامل حلقاتُ نضاله لتُشِكّل سلسلةً من الجهد والمُثابرة، حرَّرت المرأةَ من مُعادلات القسوة المفروضة عليها أوّلاً؛ ثمّ أدمجتها فى مسار التحرُّر الواسع على معناه الوطنى والإنسانى.
قبل أيّام احتفلت مصر بيوم المرأة العالمى، بحضور قرينة رئيس الجمهورية، ومشاركة باقةٍ من الناجحات والمُلهمات. وتعودُ قصّة المناسبة إلى نحو مائة وسبعين سنة، عندما خرجت مجموعاتٌ من نساء نيويورك فى 8 مارس 1856 احتجاجًا على ظروف أشغالهن غير الإنسانية، والتفرقة فى الأجور والامتيازات. وتدخَّل الكونجرس بتعديل بعض القوانين، ثمّ تجدَّدت الموجة بعد خمسة عقود تحت عنوان «خبز وورود»؛ طلبًا لتقليص ساعات العمل ومنع عمالة الأطفال، ونتج عن ذلك تعديلٌ آخر للتشريعات فى 1908، وإقرار الذكرى من العام التالى يومًا للمرأة، إلى أن اعتمدته الأُمم المتحدة بالعام 1977. أمَّا محليًّا فكان 16 مارس يومًا مشهودًا؛ إذ قادت هدى شعراوى تظاهرةً ضد الاحتلال الإنجليزى مع 300 سيدة من رفيقاتها إبان ثورة 1919، وسقطت عدّة شهيدات، منهن: حميدة خليل، وفاطمة محمود، ويمنى صبيح، وحميدة سليمان، ونعمات محمد، ونعيمة عبد الحميد. بعدها بأربعةِ أعوامٍ تأسَّس الاتحاد النسائى فى التاريخ نفسه، وخاض نضالاتٍ محلّيةً وعالمية عديدةً فى مسار البحث عن الاستقلال، وبعد 33 سنة حصلت المصريات على حقِّهن فى الترشُّح والانتخاب، وصارت الذكرى يومًا للمرأة المصرية.
ومن مجموع المناسبات يكتسب مارس صِفتَه الوديعة؛ أن يكون شهرًا للتأنيث على معناه الليِّن الرحيم، وللإناث تخليدًا لكفاحهن من أجل الخاص والعام؛ أى إحقاق العدالة واستخلاص حقوقهنّ، وأن يُصبحن شريكًا فاعلاً فى الغلاف الاجتماعى وتحت راية المصالح الجماعية. وإذا كان الشائعُ أنّ الغربيّات تجاوزن رواسب الماضى، وحصَّلن كاملَ ديونهن القديمة لدى مُجتمعاتهن؛ فالواقع أنّ الصورة ليست ورديّةً فى العالم الأوّل، دون إنكار أن ميراث الشرقيّات أثقلُ وأشدُّ وطأةً؛ لأنهنّ يُحاربن رُكامًا من التقاليد والعادات الرجعيّة، وذخيرةً ترعاها الأُصوليَّات الدينية المُتطرفة من النصوص البشرية المحمولة على قداسة الاعتقاد، وتتشدَّد فى الحطِّ من أقدار النساء، وحَبسهن داخل خيامٍ بدويّة تجاوزها العصرُ ونضجُ الإنسانية الحديثة. لكنّ الإيجابى أنَّ المنطقة لم تعُد سجينةَ الهواجس القديمة، وتُبدِى مُقاومةً وتمرُّدًا على القيود الموروثة، عبر رؤىً أكثر تقدُّمية، وخطوات تصحيحية لا تستكين للأثقال العتيقة، كما لا تنفضها دفعةً واحدة؛ حرقًا للمراحل وقفزًا على منطق التطوير من الداخل، وإنضاج تجربةٍ عمليّة للتحسُّن المُتدرِّج. والصيغة الشرقية وإن بدت بطيئةً وغير مثاليّة تمامًا؛ فإنها لا تُكرِّر أخطاء التجارب السابقة، كما لا تُنكر الأزمةَ، وتجتهد فى شَقّ مساراتٍ مُمهَّدة وآمنةٍ باتجاه التعافى الكامل.
بالتزامن مع الاحتفال العالمى، أدان الأمينُ العام للأُمم المُتحدة الأوضاعَ المُختلّة فيما يخصّ حقوقَ المرأة. وقال ما معناه أن القِيَم المُعلَنة لم تأخذ مسارَها للتطبيق، والإيقاع الراهن يتطلَّب 300 سنة تقريبًا لتحقيق المساواة الكاملة. والدبلوماسى البرتغالى كان يتحدَّث من موقعه الأُممىّ والأوروبى، ويخصُّ الحالةَ الغربية على التحديد. وبالمنطق؛ فإن القرون المُؤجَّلة فى دول الشمال قد تتضاعف إذا نزلنا جنوبًا؛ إنّما فى التصوُّر العملىّ قد يبدو الأمرُ مُختلفًا؛ لناحية أنهم هناك بدأوا من نقطةٍ انقلابية قادتهم فى وُجهةٍ مُشوّهة، والمجتمعات النامية تبدأ مسيرتَها من محطّةٍ أكثر انغلاقًا وأقلّ تطرُّفًا، وأمامها حصيلة التجارب التى سبقتها بحُلوها ومُرِّها، ما يُتيح لها الانتقاء وتعديل الخيارات والبدائل؛ بما يُحقِّق الغايات المطلوبة، ويُقلِّص الآثار الضارة، ولا يضطرّ المجتمع لاستهلاك الوقت فى تجاربَ تُعادِى مرجعيَّاتها، أو تجهلُ غاياتها وما تفرضه عليها اللحظة من أولويات.
افترَقت سُبُل الشرق والغرب؛ لكنَّ تأثيراتهما على النساء ظلَّت شِبه مُتطابقة. المَدنيَّة الغربية دفعت المرأةَ فى اتّجاه التسليع بمنطقٍ عَولمىّ تجارىّ، والرجعيّة الشرقية أسكنتها غُرفًا مُظلمة بمنطقٍ قبائلىّ احتكارى. وعلى معنىً قد يشوبه التبسيط؛ فإنّ الانفتاح المُتطرِّف صار مُساويًا للانغلاق المُتشدِّد. ومعايير الذكور تسلَّطت على الإناث فى رَسم الأدوار التى يتعيَّن عليهنّ التحضُّر لها. فريق رَبطَ الجدارةَ بمعيار الرواج ومُخاطبة تفضيلات الرجال، والآخر ربطَها بالاحتجاب القريب من المِلكيّة الكاملة. ولا فارقَ بين المايوه والنقاب؛ فالأوَّل يرى فى المرأةِ سِلعةً قَيّمة تستحقُّ الاجتهادَ فى تسويقها، والآخرُ يعتبرُها سِلعةً تكتسبُ قيمتَها من الحَجب وتعطيش السوق. ومن هذا المُنطلَق فإنَّ انتهاك النساء، بتحويلهنّ إلى آلاتٍ لإرضاء الفاعلين الاقتصاديّين فى الأسواق المفتوحة، لا يختلفُ عن انتهاكهنّ بالقَمع والوصاية وانعدام المساواة. وبينما يتطلَّبُ التصحيح هناك أن يعودَ المجتمعُ للخلف قليلاً؛ فإنَّ تصحيح سياقنا الشرقىّ يُوجِب التحرُّكَ للأمام. وربما مهمَّتنا أسهلُ وأقرب إلى التحقُّق.
فى الغرب آلت أعيادُ المرأة إلى مناسبةٍ اجتماعية منزوعة من سياقها؛ كأنّ المقصود تغييب الرمزية النضالية التى تأسَّس عليها الاحتفال. أمَّا مصريًّا فما زال الحدث مَشبوكًا ببيئته وتاريخه؛ وإذ يُقام الاحتفالُ فى اليوم العالمى فإنه يستلهمُ نضالَ العاملات قديمًا من أجل الرزق والحياة، وفى يوم المرأة المصرية بعده بنحو أسبوعٍ يستعيدُ ذكرى سيِّدات الحركة الوطنية، بما يُمثِّلن من قيمةٍ فى ذاكرة التحرُّر وتشكيل الهوية على وجهٍ مُعاصر، وفى عيد الأُمّ يُعاد الاعتبار لقُدسيّة الرسالة الأسمى على وجه الأرض. والثلاثيةُ تتكامل معًا لتُلخِّص مفهوم المصريين، رسميًّا وشعبيًّا، عن مركزية دور المرأة فى حياتهم؛ ولو أنكرها البعض أو جهلها آخرون. قبل سبع سنواتٍ أعلن الرئيس السيسى 2017 عامًا للمرأة، ومن يومها تحقَّقت طفراتٌ نسوية فى التعليم والتشغيل والتمكين السياسى والاقتصادى، وما زال المسار صاعدًا بوتيرة مُنتظمة.
حالُ المرأة مقياسٌ تترتَّب عليه مواضع المجتمعات وتتحدَّد أحوالها. وما كُنّا فيه لعقودٍ طويلة لم يكن إيجابيًّا، وما انتقلنا إليه تضمَّن إصلاحًا لكثير من الأعطاب القديمة، ويُبشّر بانتقالاتٍ أعمق وأكثر اتّساعًا. وإذ يأتى «الربيعُ الطلقُ يختالُ ضاحكًا»، على ما قال البحترى شعرًا؛ فإن حُسْن «مارس» الذى يكاد أن يتكلَّم نستمدّه من النساء، إذ هو شهرهُنّ بجدارةٍ كاملة، وما خالطت الأنوثةُ شيئًا إلا زيّنته وجمَّلت تفاصيله، وهكذا تصيرُ الحياة أجملَ بكل أُمٍّ وبنتٍ وحبيبة وزميلة وأُخت؛ فسلامًا على الأُمّهات من حواء إلى أصغر حفيداتها، اليوم وفى كلِّ وقتٍ وحين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة