حسين حمودة

الحقيقة الإبداعية.. والحقيقة التاريخية

الجمعة، 22 مارس 2024 01:13 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

هناك قضايا كثيرة طرحت حول "الرواية التاريخية"، أي الرواية التي تنطلق من بعض الحقائق التاريخية وتتخذها مجالا وساحة لأحداثها.. من هذه القضايا ما يتصل بمدى التزام الكاتب الروائي بـ"الوقائع" والتفاصيل التي أوردها المؤرخون حول الفترة التي يتناولها في عمله الإبداعي، وما يتصل أيضا بمدى الحرية التي يتحرك بها وفيها هذا الكاتب، وبما مسموح له، أو غير مسموح، من عمليات الحذف والإضافة والتعديل والتخيل في تعامله مع الوقائع التاريخية كما وردت في كتب المؤرخين.


النقاشات المطولة حول هذه القضايا انتهت، ببساطة، إلى مجموعة من البديهيات والمسلمات حل علاقة كاتب الرواية التاريخية بالتاريخ الذي يتناوله.. من هذه البديهيات والمسلمات أن هناك دائما مسافة ممكنة بين "الحقيقة التاريخية" و"الحقيقة الروائية" (هذا إذا سلمنا بأن هناك حقيقة تاريخية واحدة ثابتة ومتفق عليها).. بمعنى أن الكاتب الروائي ليس مؤرخا، بل هو مبدع، وأنه في النهاية يقدم "رؤيته" هو للتاريخ، وهذا يعني أنه يستطيع أن يستكمل ما لم يقله التاريخ، حيث يملأ الثغرات الماثلة في كتابات المؤرخين، خلال مخيلته، وحيث يكشف عن عوالم داخلية لشخصيات التاريخ لم يتطرق إليها المؤرخون، بل وحيث يستطيع أن يبتدع شخصيات لا وجود تاريخيا لها، على أن تكون مناسبة للفترة التاريخية التي يتناولها، وعلى ألا تتعارض مع المعلومات المؤكدة عن هذه الفترة؛ كأن يجسد شخصيات عوالم وحياة شخصيات ريفية مثلا لم يهتم بها المؤرخون.. وهكذا.. ومن يقرأ رواية سعد مكاوي (السائرون نياما) يمكن أن يلاحظ هذا.. بل يستطيع الكاتب الروائي أن يبتدع شخصيات وأن ينسب لها نصوصا لم يكن لها حضور تاريخي، كما هو الحال مع ابتداع شخصية رحالة إيطالي، كتب عن القاهرة قبيل وبعد الغزو العثماني، في رواية جمال الغيطاني، التي تحولت إلى مسلسل تليفزيوني (الزيني بركات).


بديهية أو مسلمة أخرى انتهت إليها مناقشات قضايا العلاقة بين الرواية والتاريخ، والرواية التاريخية بوجه عام، هي أن إنتاج معاني ودلالات هذه الرواية إنما يتحرك بين ثلاثة أزمنة: زمن الكاتب الروائي المشغول بقضايا يعيشها في فترته، ينطلق منها ويجد صدى لها في الفترة التي يختارها مادة للكتابة الروائية، وزمن الفترة التاريخية التي يتناولها في عمله الإبداعي، ثم زمن من يتلقى هذا العمل، سواء في فترة قريبة أو فترة بعيدة من وعن زمن كتابة هذا العمل ونشره..
هذا كله يعني تعدد المعاني والدلالات التي تقترن بالرواية التاريخية، خلال كتابتها وخلال تلقيها وخلال الفترة التي تتناولها.. وطبعا يتصل بهذا أن هذه الفترة التاريخية نفسها قابلة للاختلاف وتعدد الرؤى حولها، حتى عند المؤرخين الذين كتبوا عنها، كل مؤرخ من منظوره الخاص.. وقد يصل هذا الاختلاف والتعدد فيما بينهم إلى حد التعارض الواضح.


هذه القضايا التي تحيط بالرواية التاريخية يمكن أن تلتقي مع القضايا التي تحيط بالفيلم التاريخي أو بالمسلسل التاريخي.. فالرؤية التي يطرحها هذا الفيلم أو هذا المسلسل إنما تقدم "حقيقة فنية".. وهي حقيقة يستخلصها المبدعون من قراءة التاريخ، و هذه الحقيقة الفنية تتأسس في صياغتها على قدر من الحرية وقدر من التخيل، وطبعا مع منظورات خاصة بهؤلاء المبدعين..


هذا المعنى ليس غريبا عما كان يقوم به المؤرخون أنفسهم، حيث كان كل مؤرخ منهم يرصد الوقائع من منظوره الخاص.. وفي هذه الوجهة ربما يتفوق المبدعون لفيلم أو لمسلسل على المؤرخ القديم من حيث مقاربة "الحقيقة".. فهؤلاء المبدعون يملكون المعرفة المتعددة التي أتيحت لهم خلال قراءة مقاربات متعددة للتاريخ، شارك فيها أكثر من مؤرخ واحد، وبالتالي هم أقدر على الوصول إلى استخلاصات وخلاصات حول الفترات التاريخية التي يتناولونها، وهم أقدر أيضا على رؤية معالم تلك الفترات من زوايا متنوعة..


وهكذا، في النهاية، يمكن أن تتفوق "الحقيقة الإبداعية"، في دقتها وإحاطتها، على "الحقيقة التاريخية".










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة