قال تعالى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 185)، وحث المسلم على قراءة القرآن ينبغي أن يكون مشفوعًا بالتدبر، والغاية من وراء ذلك أن يخرج الإنسان من القراءة بالحكمة والموعظة التي تسهم بصورة فاعلة في تزكية النفس، وتساعده في أن يبتعد بشكل مستدام عن كل ما يؤدي إلى السلوك غير القويم؛ فيصعب على النفس أن تثبت على الطاعة دون مناخ إيجابي يشكل سياج رعاية وحماية للفرد من الوقوع في المعاصي والآثام.
ولا نبالغ إذ نقول إن الصيام في مكنونه خير معين على التقوى، وتلك غاية كبرى، لو وصل إليها الإنسان لحققت له كل أسباب الخير؛ حيث يتجنب كافة الأمور التي تتعلق بالتقصير؛ فيعمل جادًا مجتهدًا، ويخلص فيما يؤدي ويحرص على الوصول لمستوى الإتقان؛ ليرضى عن نفسه ويتلمس رضا الله، ويترك النواهي عن قناعة وليس الخوف دافعه الرئيس؛ لكن طلب رضا المولى عز وجل وصفاء النفس في مقدمة ما يتمنى، ومن ثم لا تلين العزيمة نحو المضي في طريق النور؛ فيستمتع بمفردات الحياة كاملة، ويجني ثواب الآخرة مرضيًا.
ومن مسببات الغلفة أن تنفصل عن الغير؛ فلا تشعر بمتاعبهم وما يمرون به من مصاعب وعثرات، ويأتي الصيام ليحيي في وجدان الإنسان ماهية التراحم وتلبية احتياجات ذوي العوز، وهذا ليس من قبيل المنحة والمساواة؛ لكن من قبيل التعبد والتقرب لله بأعمال صالحات، يكسر بها تغول النفس وإقبالها على الشهوات، وتثنيها عن ممارسة الرذائل، وتسمو بها ليعمل القلب مرتبطًا بالفكر ما يتوجب عليه من أعمال طيبة وأذكار محمودة تنير جنباته، وتزيل الغشاوة عنه وترقق مكنونه؛ فيرقى الفكر بقلب سليم معافًا يسع في داخله الخير والمحبة وسائر الخُلق الكريم التي تسارع الجوارح في تطبيقها.
وإذا ما أراد الإنسان أن يجني ثمرات الدارين، لا بد من أن يتمسك بمكارم الأخلاق، وهذا الشهر الكريم خير معين لأن يراجع الفرد نفسه، ويقف عند مواطن الضعف ويعمل على معالجتها، ويستكشف نقاط القوة؛ فيعززها؛ ليزداد ثباتًا وهداية بما يجعله يسير على الخطى التي رسمها المنهج الإسلامي، وأكد عليها من خلال أركانه الخمس، وعندما يدرك الإنسان أنه قادر على تغيير سلوكه من صورته السلبية للإيجابية؛ فإنه يستشعر العزة والصمود والقدرة على هجرة ما ينص عليه حياته من أفعال وأقوال تخالف تعاليم عقيدته، ويصبح للصيام الأثر الطيب الذي يحقق المنزلة المستحقة لمن يجمع بين العبادة والعمل.
وشمائل المكارم بهذا الشهر الفضيل عديدة ومتنوعة؛ فالإمساك عن جميع المفطرات مقرون بالإمساك عن كل ما من شأنه يقلل من المثوبة من أفعال وممارسات غير مقبولة، وهناك يستطيع الفرد أن يحد من جموح النزوات والشهوات، ويخفض من حالة الطلب المشروعة عن كافة المشتهيات، ويحظر في المقابل شتى أنواع المشتهيات غير المشروعة، وهذا التدريب الممنهج يعطي الذات المقدرة على الإصلاح التلقائي إذا ما انحرفت عن الصواب أو الطريق السليم؛ لتصبح حياة الإنسان مليئة بجوانب الخير، يندر فيها ما يعيق مسار الإصلاح المنشود والمستدام.
ويشكل الصيام في العقائد السماوية غاية راقية تتمثل في صعوبة تمكن قوى الشر من الطبيعة الإنسانية؛ فنرى أن الحد من المأكل والمشرب، ومنع بعض المباحات في وقت الصوم؛ فإن هذا يقوى من العزيمة، ويجبر الطبيعة الجامحة للانصياع لدروب الخير، ومن ثم يصل لمرحلة التقوى، ويبلغ منابر الأبرار الذين يبذلون الغالي والنفيس في سبيل تحقيق الخير للجميع ويحرصون على شويع المحبة والتكافل بين العباد؛ فينكرون أنفسهم، ويقدمون الصالحات من الأعمال في السر والعلن.
وحتى في رخصة الإفطار نتيجة لمرض أو سفر أو غير ذلك من الأعذار التي أقرها الشرع؛ فقد جعلت الكفارة من قبيل تعميم الفائدة والمثوبة والاستشعار بقيمة الصوم والمشاركة في طقوسه التي تحمل ثمرات مادية ومعنوية؛ فلا مجال للعزلة أو الانصراف عن ضروب ومسارات وأوجه الخير في شهر مكارم الأخلاق؛ فيزداد الترابط ويعلو الأمل، وتعم نسائم الرحمات والغفران على الجميع.
وفي ضوء ما نمر به من زخم الحياة وانشغالاتها التي لا تنتهي، يحضنا شهر الخير إلى أهمية الترابط والتواصل؛ لتنمو أواصر التراحم، ونتلافى أوجه القصور والتقصير لصلة الرحم؛ حيث إن محاسن الأخلاق يعلوها صلة الرحم؛ فقد حذر كلام الله في قرآنه من قطع الرحم، ودعى إلى صلة الأرحام؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ له فِي رِزْقِهِ، وأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وفي ذلك دعوة صريحة للاصطفاف والترابط والمحبة. بارك الله أيامك يا شهر المكارم.. ودي ومحبتي للجميع.
حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.
__________
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة