يبدو أن القرار الذي أصدره مجلس الأمن الدولي، بالدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، بمثابة مرحلة مهمة وحاسمة، تتجاوز في جوهرها، مجرد الحالة الراهنة، والقائمة على العدوان المستمر منذ ما يقرب من 6 أشهر كاملة، وما شابها من انتهاكات خطيرة، خلفت آلاف الضحايا بين قتيل وجريح، ومعظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، بينما تمتد إلى مستقبل القضية الفلسطينية برمتها، في ضوء حقيقة مفادها أن الاحتلال لم يعد يحظى بالحماية الدولية المطلوبة، والتي ساهمت بصورة كبيرة، في تمرير جرائمه، منذ عقود طويلة من الزمان، دون رادع، تحت العديد من الذرائع، ربما أبرزها "الدفاع عن النفس"، والتي استهلت بها الحملات الدولية المدافعة عن إسرائيل أحاديثها مع بداية الأزمة الراهنة، لتبرير العدوان، على خلفية عملية "طوفان الأقصى".
فلو نظرنا إلى مفارقات التصويت الذي شهده مجلس الأمن، حول قرار وقف إطلاق النار، نجد أن ثمة إجماع بين 14 دولة، بينما تخلفت، كالعادة، واشنطن عن هذا الإجماع، ولكنها آثرت الامتناع عن التصويت، لأول مرة، بعد استخدام الفيتو، من قبل، وهو المشهد الذي يقدم العديد من الدلالات، ربما أبرزها نهاية عصر المعسكرات الدولية، وفي القلب منها "المعسكر الغربي"، والذي يمثل في جوهره أحد بقايا حقبة "الحرب الباردة"، المرتبطة بالمشهد الدولي في صورته الجمعية، والذي اعتمد آلية الدوران في فلك واشنطن، وهو ما يبدو في العديد من الانقسامات، التي شهدتها المواقف من مختلف القضايا الدولية المثارة على الساحة، لتكون غزة أحدث حلقاتها، مما ساهم بقدر ما في تحول الموقف الأمريكي، نحو تحقيق قدر من المواءمة، مع الموقف الدولي الممتعض تجاه الحليف الإسرائيلي.
ولعل الدلالات المرتبطة بالتصويت في مجلس الأمن، تمثل انعكاسا لإرهاصات أخرى، أبرزها التحولات الكبيرة، في إدارة العلاقات بين الدول، بعيدا عن فكر التحالفات التقليدية، والتي تقوم آلية العمل داخلها، على مسارين متوازيين، أولهما التطابق التام، في الرؤى بين أعضاء التحالف، بينما يقوم المسار الآخر، على ما يمكننا تسميته بـ"البحث عن صراع"، حيث ارتبطت تلك الآلية على التحرك الجماعي، في إطار التحالف، من أجل تحقيق الهيمنة، لفريق على حساب الآخر، وهو ما تجلى في أبهى صوره خلال "الحرب الباردة"، بينما استمر الوضع في أعقابها، مع إصرار واشنطن وحلفائها على التضييق على "المارقين" عبر أذرعها السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، بينما كانت الصيغة الجماعية للتحركات الأمريكية، في إطار المعسكر الغربي، السبيل لإضفاء غطاء من الشرعية لها.
التحولات في إدارة العلاقات الدولية تبدو واضحة في الخروج عن النهج القائم، نحو تحقيق أكبر قدر من "التوافقات"، والتي تعتمد مسارات معاكسة للآلية التي اعتمدتها التحالفات، على النحو سالف الذكر، حيث تقوم في الأساس على تعظيم المصالح المشتركة، لتتوارى خلفها الصراعات السياسية، المرتبطة بالمنافسة الدولية، وهو النموذج الذي تجلى بوضوح في منطقة الشرق الأوسط، خلال السنوات الأخيرة، عبر تحويل الخصومة بين العديد من القوى الإقليمية، والتي ساهمت في تأجيج الأوضاع لعقود طويلة من الزمن، إلى حزمة من المصالحات، تقوم في الأساس على تعزيز التعاون فيما يتعلق بالقضايا المشتركة، مما يمهد الطريق نحو الوصول إلى توافقات أكبر بشأن القضايا الخلافية.
والحديث عن التوافقات، يمثل أحد أدوات الانتصار، الذي تحقق داخل أروقة مجلس الأمن، فيما يتعلق بقرار وقف إطلاق النار، وهو الأمر الذي لعبت فيه الدولة المصرية الدور الأكبر والأهم، منذ اندلاع العدوان على غزة، حيث تمكنت منذ البداية، في بناء توافق دولي "عابر للأقاليم"، حول مبادئ بعينها، أبرزها دخول المساعدات، ومنع التهجير القسري، والتركيز على حل الدولتين باعتباره الوسيلة الوحيدة لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، ناهيك عن العمل على تحقيق التهدئة، وذلك خلال قمة "القاهرة للسلام"، في أكتوبر الماضي، بينما حشدت حالة من الإجماع بين دول المنطقة، في إطار عربي – إسلامي، يمثل في ذاته جوهر السياسات التوافقية على أساس إقليمي، حول دعم فلسطين، مما أضفى المزيد من الشرعية على الحق الفلسطيني، بينما دفع العديد من دول الغرب، والمعروف بدعمه المطلق للاحتلال الإسرائيلي، نحو تغيير مواقفهم.
المواقف المتغيرة في المعسكر الموالي لإسرائيل، ساهمت بجلاء، في تغيير بوصلة واشنطن، ولو جزئيا، وهو ما بدا في امتناعها عن التصويت على قرار مجلس الأمن، وعدم اللجوء إلى الفيتو كالعادة، لمناصرة الدولة العبرية، حيث الأمر لم يعد مرتبطا فقط بمجرد الحرج، وإنما ارتبط بالأكثر بمكانة أمريكا الدولية، في ضوء عجزها الكامل، عن إجبار حلفائها على الدوران في فلكها مجددا، من جانب، ناهيك عن عدم قدرتها على إقناع إسرائيل بالمثول فيما يتعلق بتهدئة الأوضاع أو حتى تقديم المزيد من التسهيلات فيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية، وهو ما يعكس خفوتا واضحا لنفوذ واشنطن في دائرة تحالفاتها.
وهنا يمكننا القول بأن صناعة التوافقات الدولية نجحت باقتدار في تحقيق انتصار تاريخي، داخل أروقة مجلس الأمن الدولي، على حساب "الفيتو" التاريخي للولايات المتحدة، حيث تمكنت في إجبار القوى الدولية الكبرى على إعادة توجيه بوصلتها مجددا، بعيدا عن العمل على توجيه الأخرين نحو الدوران في فلكها، وهو ما يمثل منعطفا مهما في العدوان الحالي، وكذلك في تاريخ القضية الفلسطينية برمتها، بينما في الوقت نفسه يمثل خطوة مفصلية مرتبطة بالحقبة الدولية الراهنة ومستقبلها، في إطار كونها أحد إرهاصات مرحلة ما بعد الفيتو
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة