كان أسبوعا حاشدًا فى مسار الانتقال من النظرى إلى التطبيقى، لو تصوَّرنا «الحوار الوطنى» كائنًا حيًّا؛ فإن جسده العفىَّ فى اللجان واللقاءات العامة، وعقله الحصيف والمُتبصِّر تستحضره الجلسات التخصُّصية، وقد أفضت جولته الأُولى قبل وقفة الانتخابات الرئاسية إلى وجودٍ مادىّ بارز، وخُلاصات عمليّة صالحة للإجراء على مُرتكزاتٍ فنية وموضوعية مُقنعة، والجولة الثانية افتُتِحَت بما تبقَّى من مسائل الاقتصاد، وما فرضته اللحظة بتحدِّياتها الطارئة، وقد أُثيرت فى الأيام الأخيرة العناوينُ التى لها درجة عالية من الإلحاح، وكانت غائبةً عن انشغالات بعض التيارات، عندما وضعت السياسى فوق الاجتماعى. والعودةُ إليها كأولوية تتقدَّم على غيرها؛ إنما تؤكّد انحلالَ حالة الاستقطاب بكلِّ ما فيها من رواسب الأيديولوجيا والصراعات الضيِّقة، وتخليص التجربة من عبء أن تكون منصَّةً للتعبير عن الشِّقاق، وإذكاء المعارك الحزبية أو صَرف فوائضها لصالح فريقٍ ض د آخر. وآيةُ ذلك الانطلاق من نقطةٍ تتجاوز الماضى، فلا تُساقُ فيها الأزماتُ سلاحًا طائشًا بين المختلفين؛ بقدر ما تصير موضوعًا للبحث بتعمُّقٍ وجدّية، وباعثًا على التكامل بانفتاحٍ مسؤول، ومدخلاً لمداواة الاعتلال دون إنكارٍ أو تبادُلٍ للاتهامات.
صار الحوارُ مُؤسسةً لها بِنيةٌ ونظام تشغيل، وترسَّخت فيها تقاليد يُمكن استخلاصُها ممَّا فى الذاكرة القريبة، وما أفرزته العودةُ الهادئة بعد استراحةٍ فرضها جدولُ الحياة السياسية؛ لكنها كانت فرصةً للنظر الفاحص والتقييم المُتعقِّل، واستكشاف كلِّ طَرفٍ لأهمية الورشة الجامعة، وما أحدثته من تغيُّراتٍ فى الرؤى، والحيوية التى أضفتها على خطابات المُعارضة والموالاة، ونظرة الحكومة لنفسها من الداخل، وفى مرايا خصومها وداعميها.. بدأ الجميعُ من زوايا مُتقابلة، وما زالت الاختلافاتُ حاضرةً بالطبع؛ لكن الجلوس إلى مائدةٍ واحدة، وإنضاج لُغةٍ مُشتركة وقادرة على خلق الاتصال وتمكينه وإدامته، تضافرا معًا لبناء جسرٍ عبر عليه المشاركون إلى الضفاف الأخرى، واختبر كلٌّ منهم مواقفَ الباقين وقناعاتهم، وصار بالإمكان الحديث عن مُقارباتٍ نسبية، واقتراحاتٍ لا تنطلق من يقينٍ مُطلق، وعن شىءٍ من الفهم المُتبادَل على أرضيَّة أنَّ كلَّ المُنخرطين فى الحوار يسعون للمصلحة العامة، ويتقبَّلون أن الغاية قبل الوسيلة، وأن الوسائل كلَّها شريفةٌ طالما تقصَّدت الهدف نفسه؛ لذا لا مُصادرة مُسبقة بإعلان الطلاق البائن، ولا لاحقة بالتعالى والوَصْم والتسفيه.
منذ دعا الرئيسُ للفكرة قبل نحو سنتين، كان جَليًّا أن القيادةَ تُعبِّد الطريقَ إلى مُمارسة سياسية غير ما أنتجته سنواتُ الارتباك الطويلة، لم تكن الأجواءُ صحيّةً قبل 2011، وفيما بعدها تكفَّلت الفوضى وصعودُ الرجعية الإخوانية، ثم هجمة الإرهاب الشرسة، بإبقاء العِلَّة وتأخير التعافى، لقد وجدت الدولةُ نفسَها إزاء امتحانٍ وجودى، وكان الشارع إلى جانبها فى واحدةٍ من أندر لحظات الإجماع الوطنى، بينما تشقَّقت كُتلة السياسة بين الأُصوليّة وحُلفائها، والذين راهنوا على بقائهم وانسحقوا أمامهم، وجناحٍ ثالث عجز عن استيعاب الظَّرف والتجاوب معه، واستدعى صراعًا وهميًّا بين تنظيراته المُعقَّمة نخبويًّا وإرادة الجمهور الهادرة. وبعيدًا من ذاكرة الأحداث وإخفاقات الأحزاب؛ فقد أتت الدعوةُ لتردم الهِوّة بين وعى السياسيين القديم وواقعهم الجديد، وإن عبَّرت عن حاجةٍ لاستعادة طاقة الجدل الخلَّاق، والشراكة المُباشرة فى التصدِّى لأوضاع طارئة؛ فإنها فى الوقت عينه كانت فُسحةً للمُراجعة الذاتية، وحَصر كلِّ تيَّار لأخطائه، والالتحاق بمسيرةٍ جماعية، قد لا تُتيح التصويب فى الماضى؛ لكنها تُحصِّن من تكرارها فى الراهن والمستقبل.
لم يحظَ الحوارُ بمظلَّةٍ رئاسية فحسب؛ لكن الرئيس بدا طوال الوقت الأكثر اهتمامًا به وإصرارًا عليه.. تُرِك الملفُّ كاملاً لمجلس أمناء يتحقَّق فيه التنوُّع، وقد استغرقوا شهورًا للاتفاق على المحاور واللجان والعناوين محلّ البحث، فسَّر ضياء رشوان الأمرَ بأنهم كانوا يبنون جسورًا مُقطَّعة، ويُذيبون ميراثًا من التوجُّس وسوء الفهم. تلك المخاوف لم تكن حاضرةً عند رأس السلطة، فتعهَّد السيسى فى أكثر من موقفٍ بإنفاذ المُخرجات ذات الصفة التنفيذية دون قيدٍ أو شرط، ودَفْع ما يحتاجُ عملاً تشريعيًّا إلى البرلمان مشفوعًا بمشروعات قوانين تقترحُها الحكومة، وعندما فاز بالاستحقاق الرئاسى أواخر ديسمبر، كان التمسُّك بالحوار فى قلب خطاب النصر، وجدَّد الدعوة لتنشيطه بنكهةٍ اقتصادية ترعى الشواغل المُستجدّة، وبالتزامن شكَّل مجلسُ الوزراء لجنةً تتعهَّد مُقترحات الجولة الأولى، واشتبك عضويًّا مع ترتيب طاولة العودة.
اثنتا عشرة جلسةً عُقِدت على مدار أربعة أيام، حضرها سبعةُ وزراء، وطابورٌ طويل من مُعاونيهم والصفوف القيادية بالحكومة، بجانب عشرات من مُمثِّلى الأحزاب والقوى السياسية، والخبراء الحزبيِّين والمُستقلين. خُصِّصَ يومٌ لكلِّ محور: التضخُّم، الديون، الاستثمارات العامة والعدالة الاجتماعية، وتحتها نُوقِشت موضوعات: الغلاء وضبط الأسواق، مُعوِّقات الإنتاج والتصدير، والسياسة النقدية ونقص الدولار. وعجز الموازنة، والدَّيْن الخارجى، والسياسات الضريبية. ودور الدولة، وترشيد إنفاقها، وبدائل التمويل، والحماية الاجتماعية، والتمكين، وسياسات التوزيع، وكانت قطاعاتُ الزراعة والصناعة والسياحة محلَّ نقاشٍ طويل، فضلاً على سياسة ملكية الدولة وتخارُجها من المشروعات، وشُموليّة المُوازنة وهَيكلة محفظة الديون، وموقف السندات والحوكمة واستغلال الأصول، والبورصة والاستثمار المباشر والأموال الساخنة، والأجور والمعاشات وأوضاع العمالة غير المنتظمة ومهام المجتمع المدنى، وقد طُرِحَت حلولٌ وأفكارٌ تستجيب للحاجات المُلحّة، دونما افتئاتٍ على الأُطر الاقتصادية المرعيّة، وبعضها خالطته العاطفة والشعبوية فى قليلٍ أو كثير؛ لكنَّ خُلاصاتها جميعًا أن الحضور من كلِّ التيارات يقفون على أرضٍ مُشتركة، فى الوعى بالأزمة، وتوصيف عناصرها، ووُجوب البحث عن مخارج دقيقة وغير تقليدية، تُصلِح الأضرارَ القائمة، ولا تُنشئ ما هو أكبر منها أو يتعذَّر إصلاحه لاحقًا.
ممَّا طرحه البعضُ أن تضع الحكومة أسعارًا إلزامية لكلِّ السلع والخدمات، وكانت المسألةُ محلَّ خلاف، وفى محاولةٍ لتقريب الرؤى منحها آحادُ المشاركين صفةَ «الأسعار العادلة» بدلاً من الجبرية. والفكرة ليست جديدة؛ إذ طبّقتها الحكومة مع سبع سِلعٍ أساسية بالفترة الماضية، ولم تكن مُثمرةً فى ضَبط التداول أو حصار ألاعيب التجّار. أمَّا التعميم فإنه يبدو إصلاحًا فى جانبٍ وتخريبًا فى آخر؛ إذ الهدف أن تُوضَع السوقُ على مسارٍ ديناميكى يتحقَّق توازنُه من الداخل، لا بإملاءٍ خارجىّ أو قراراتٍ فوقية، والسبيل الوحيد عبر اجتذاب الاستثمارات وتنشيط الإنتاج، وقد يتنافى ذلك مع رَدع المُستثمرين استباقًا، بمبدأ أنهم سيُجبَرون على تسعير بضائعهم بمعزلٍ عن المنافسة ومعايير العَرض والطلب، وبالمنطق نفسه بدت بعضُ التصوُّرات كما لو أنها مُستدعاة من الماضى، وفى ضوء ثوابت أيديولوجية أو أخلاقية تصلحُ للتنظير والعمل الخيرى؛ لكنها تنفصل عن واقع الاقتصاد، ومنطق الليبرالية فى بناء نموذجها على الجدلية الساخنة بين المُنتج والمستهلك، وأن ينحصر دورُ الدولة فى التنظيم والرقابة، وتوظيف سياساتها المالية والنقدية والتنموية لخلق التوازن، وضمان ألَّا يتغوَّل التضخُّم أو يتعطَّل النمو.. وحالُ البلد لا تختلفُ عن المواطن؛ فإن كان ترشيدُ إنفاقها مَطلبًا وَجيهًا وعاجلاً، فيتعيَّن ألَّا يضغط على الشرايين التى تُولِّد الدَّخل والوظائف وتغرى رؤوسَ الأموال.
لحُسنِ الحظّ أنَّ أُسبوع الحوار جاء تاليًا للإعلان عن صفقة رأس الحكمة، والاتفاق الضخم يضخُّ 24 مليار دولار أموالاً طازجة، ويُحرِّر وديعةً بأحد عشر مليارًا تنزل من حساب الدين الخارجى. وبجانب الانتعاشة المالية التى ترخى قيودَ الشُّحّ الدولارى قليلاً، وتُتيح للحكوميِّين والخبراء التفكير والتحرُّك بأريحيّة أكبر؛ فإنَّ المشروع يُعيد التذكيرَ بأهمية الاستثمارات العامة فى البنية التحتية وتأهيل نطاقات الجذب المُخطَّطة، كما جرى فى محو قناة السويس وقد استقطب تدفُّقات حاضرةً ومُستهدَفة بعشرات المليارات، وإذا كان الشريكُ الإماراتى قرَّر توجيه وديعته بنحو 340 مليار جنيه للعقارات ومشروعاتٍ رئيسية أخرى؛ فما كان ذلك مُمكنًا لولا شبكة الطرق وطفرة المرافق، ولا أن يضخَّ ضعف ذلك على ساحل المُتوسِّط من دون حيوية الشمال الغربى، وما أضافته العلمين الجديدة وحركة البناء والعمران والزراعة والطاقة من قيمةٍ نوعية للمنطقة.
كان مقصودًا فى أوَّل الورشة الحوارية ألَّا تحضرَ الحكومةُ طرفًا؛ لمَنحها طابعًا مُجتمعيًّا يشتبكُ فيه أهل الرأى والمعنيّون المُباشرون مع السياسات التنفيذية والقائمين عليها. وقد أُنجِز المطلوبُ من شهور التأسيس، وصارت المسألةُ فى شِقّها الاقتصادى بحثًا عن التوافق واستخلاص أفضل البدائل، وليس وضع ورقة مُستقلّة فى مُواجهة أخرى حكومية. لذا فإنَّ حضور الوزراء والمسؤولين يُمثّل تقدُّمًا باتّجاه النضج الكامل للتجربة؛ كما يُحقِّق فائدةً إضافيّة أعمق، فالمعنى أنَّ الورشةَ انتقلت من الحوار إلى القرار، ما يضمنُ أن تخرج الأفكارُ جامعةً للرؤى ومُتخلِّصةً من الذاتية المحضة وآثار التشدُّد فى الرأى، فتسلُك مسارَها إلى التطبيق مشفوعةً بالدمج بين المُمكن والمأمول، أى أنَّ التمثيل الرسمى يستدعى عنصرَ الإنجاز على رأس الطاولة، ويُطمئن إلى أن ما يُكلِّله التوافق لن يُعطّله التحفُّظ وبطء البيروقراطية. ومن مجموع الجولة التى كانت شعبيّةً خالصة، ثم ما تلاها بالاندماج مع الحكومة؛ يُمكن أن تصير الجولات المُقبلة أكثر كفاءةً وفاعليّة، فلا يعود نقاشُ النخبة معزولاً عن واقع الإدارة، ولا هموم الشارع فى احتياجٍ لوساطة تنقلها إلى سلطة التنفيذ.
تتحدَّث الحكومةُ من دون حساسيةٍ عن العمل على تصحيح المسار، لا إنكارَ للأزمة وحجمها، وبعضها يخصُّ الداخل بقدر ما أن البعض وارد الخارج، بأثر ما تبقَّى من إغلاق كورونا، ثمّ الحرب الأوكرانية وصولاً لمحنة غزَّة وتوتُّرات البحر الأحمر، وإن كان جوهرُ المشكلة نابعًا من تقلُّص الموارد الدولارية، وضغوطها على الأسعار مُضافةً للتضخُّم المُستورَد، وأوَّل ما ينصرف إليه الذهن ضرورة التقشُّف وضبط الأولويات؛ فإنّ صفقة «رأس الحكمة» نموذجًا ربما تُشير لأبوابٍ أُخرى غير الخيارات الصفرية والحلول المُتشدِّدة، إنَّ فيها دليلاً على قيمة الاستثمارات العامة، وصلاحية ما أُنفِق منها لخَلق الفُرص وتوليد المداخيل، ويجب أن ينعكس ذلك على كلِّ مُقاربةٍ تنظرُ فى حال الاقتصاد؛ ليتحقَّق التوازن بين العلاج الواجب والاستدامة المطلوبة، فلا نُقصِّر فى إصلاحٍ نحتاجه سريعًا وشاملاً، ولا نُضحّى بمزايا وآفاقٍ مُستقبلية يتعيَّن ألَّا نغفل عنها أو نُصادرها، وكما أثمر الحوارُ سابقًا فى موضوعات العفو الرئاسى وإشراف القضاء على الانتخابات؛ فإنه قادرٌ على تكرار تجربته الناضجة فى سياق الحالة الاقتصادية، وفيما تبقَّى من عناوين الموسم الأول أو قد يُضاف لها لاحقًا، الورشةُ فعّالة وجديرةٌ بالاستمرار والتطوير؛ ليس لغرض الاتفاق الكامل أو إلغاء التمايُز والاختلافات؛ إنما لأنها تُفعِّل منطقَ السياسة فى التجريب والحركة الدائبة، وفى التدرُّج من حالٍ لحال بالطاقة الناتجة عن الفهم والنضج والتراكم الخلّاق، فلا يعود المُعارضُ حبيسَ كهفه الضيِّق، ولا الأغلبية مُكتفيةً بأصواتها، كما لا تعود الحكومة لقناعاتها القديمة وقد أخذت وردَّت واشتبكت واشتُبِك معها. الجميعُ لن يخرجوا من الحوار كما دخلوه؛ ستجرى الدماء فى العقول، وتصير الأرواح أكثر اتساعًا، وينزل كلُّ تيّارٍ عن علياء الانعزال دخولاً فى اللعبة الحيَّة، وعن ذاتيّته المُفرطة اعترافًا بالتنوُّع العريض، وتقبُّلاً للآخر مهما كان مُختلفًا. والربح دائمًا للمُتحاورين والحياة السياسية أوّلاً، ثم لمصر والمصريين جميعًا؛ الساكت قبل الناطق، والمُزايد المُتضخِّم قبل الموضوعيين والمُتواضعين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة