في الوقت الذي تقترب فيه الانتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة، مع احتمالات عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تبدو العديد من التعقيدات، التي باتت تشوب النظام الدولي، في مرحلة المخاض التي يمر بها، والتي لا تقتصر بأي حال من الأحوال على مجرد القضايا المثارة، وتصعيد الصراعات، كما هو الحال مؤخرا في العدوان غير المسبوق على قطاع غزة، في أعقاب "طوفان الأقصى"، في السابع من أكتوبر الماضي، بل وانتقالها إلى مناطق آمنة نوعا ما، على غرار الأزمة الأوكرانية، والتي نقلت دائرة الصراع العسكري المباشر جغرافيا، من مناطق العالم النامي، نحو أوروبا المتقدمة، وهو ما يعكس تغييرات عميقة في المشهد العالمي، خلال حقبة زمنية لم تتجاوز الأربع سنوات، هي مدة جلوس الرئيس جو بايدن، على العرش الأمريكي.
وبالنظر إلى سنوات بايدن، ومقارنتها بسلفه ترامب، والذي قد يصبح أيضا خليفته في سابقة تاريخية بالولايات المتحدة، إن تحققت، نجد أن ثمة حالة من العجز الأمريكي، شابت السنوات الأخيرة، في تقديم أي قدر من الحماية للحلفاء، خاصة في أوروبا الغربية، وهو ما بدا في تصاعد الأوضاع في أوكرانيا، حيث باتت دول المعسكر الغربي نظريا تحت التهديد المباشر جراء احتمالات تمدد الصراع، في حين لم تسعفهم واشنطن جراء نضوب الغاز، وذلك فى إطار انتقامي من قبل روسيا، بسبب موالاتهم للحليف الأمريكي، وإصرارهم على دعمه فيما يتعلق بالعقوبات المفروضة عليها، بينما عمليا فقد أصبح النفوذ الذي تحظى به روسيا يتجاوز في واقع الأمر القوى الرئيسية في القارة العجوز، خاصة مع تحركاتها القائمة على تعزيز العلاقات مع الصين، والتي تعد المنافس الأشرس لواشنطن، ناهيك عن قدرتها على فرض كلمتها على محيطها الجغرافي، والوقوف أمام دول الناتو.
تصاعد النفوذ الروسي عالميا، يمثل في حقيقه الأمر، أحد المنطلقات التي تبناها الديمقراطيين، في إطار انتقاداتهم للرئيس السابق، قبل وخلال الانتخابات الرئاسية الماضية، حيث اعتمدوا على النهج الهادئ لترامب في التعامل مع موسكو، والوصول معها إلى درجة متقدمة من الحوار، تجلت في أبهى صورها في قمة هلسنكي، والتي عقدت في 2018، والتي صورها إعلام خصومه السياسيين، بمثابة الخيانة العظمى في ذلك الوقت، إلا أن الملاحظ في هذا الإطار أن التهديد الذي تمثله موسكو على الحلفاء الأوروبيين في تلك الفترة، كان شبه معدوما، وذلك بالرغم من الخلافات العميقة، بين إدارته وأوروبا الغربية، فيما يتعلق بالعديد من القضايا الأخرى، بدءً من المناخ، مرورا بالناتو، وحتى الإجراءات الحمائية المرتبطة بالتجارة، وهي الأمور التي مازالت تثير قلقا أوروبيا، جراء احتمالات عودة الرجل مجددا إلى البيت الأبيض، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن غطاء الحماية الأمريكي للحلفاء فى أوروبا لم يتم انتزاعه فى حقبة ترامب، وإن تغيرت الصورة، بسبب الخطاب الخشن الذي تبنته إدارته تجاههم.
وفي الواقع، يبدو استمرار القيادة الأمريكية لدول المعسكر الغربي، في المرحلة المقبلة، محل جدل كبير، في ضوء محصلة ما شهدته العلاقات، خلال ثماني سنوات كاملة، بين تعنت ترامب، وعجز بايدن، وهو ما يعكس حالة الانقسام داخل أروقة أوروبا حول جدوى استمرار الدوران في فلك واشنطن، خاصة مع انفتاح الساحة الدولية، نحو استيعاب قوى جديدة يمكنها التأثير على مراكز صناعة القرار العالمي، ناهيك عن قدرة أوروبا نفسها، ككتلة موحدة، على الصعود، وعدم الالتزام بالدور المرسوم لها كتابع يكتفي بالتصديق على التوجهات والرؤى التي تتبناها واشنطن.
الخروج عن عباءة واشنطن، يبدو أنه يتشكل أوروبيا، على المسار الأمني، عبر الحديث الذي بدا متواترا عن الحاجة إلى بناء جيش موحد، وهي الفكرة التي أطلقها أولا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عام 2018، لتثار بعد ذلك، بين الحين والآخر، من قبل دول أخرى، أحدثها إيطاليا، في حين ارتكزت سياسات بعض الدول على دعم الفكرة بصورة غير مباشرة، على غرار ألمانيا، والتي سعت إلى تطوير القدرات الدفاعية لها بصورة كبيرة، في الآونة الأخيرة، مع تعزيز التعاون العسكري مع قوى أوروبية أخرى، بشكل غير مسبوق.
المسار الاقتصادي كذلك يعد أحد أهم مسارات العمل الأوروبي، في ضوء توسيع دائرة التعاون، والبحث الدائم على شركاء يمكنهم تضييق الفجوة الناجمة عن التخلي الأمريكي، وهو ما يبدو في التعاون مع الصين، والتي باتت تراها الولايات المتحدة أحد ألد أعدائها، وهو ما يعكس خروجا، ولو على استحياء، عن التبعية المطلقة للولايات المتحدة.
ولكن ثمة متطلبات أخرى، باتت أوروبا في حاجة لها، لتعزيز استقلاليتها، واتخاذ مدارها الخاص في الفلك العالمي، إذا ما أرادت المشاركة بفاعلية في صناعة القرار العالمي، ربما تبدو في جزء منها في المواقف السياسية تجاه القضايا العالمية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والتي شهدت انقساما، يبدو إيجابيا، ليس فقط في مصلحة فلسطين، وإنما في واقع الأمر يصب في صالح أوروبا نفسها، في ظل الحاجة إلى تبني مواقف متوازنة، من شأنها تعزيز علاقات القارة العجوز، بالأقاليم الأخرى، وفي القلب منها منطقة الشرق الأوسط، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن ثمة التوافقات "العابرة للأقاليم" باتت أمرا محوريا وحاسما، في تعزيز الأدوار التي تلعبها القوى الإقليمية، في إدارة مناطقها الجغرافية.
فلو نظرنا إلى الأزمة الأوكرانية، على سبيل المثال، نجد أن معضلة أوروبا تتجلى في الاعتماد المطلق على واشنطن، بينما يبقى الحل الإقليمي أكثر نجاعة، ربما منذ قبل اندلاع العملية العسكرية، عبر التوصل إلى توافقات، مع طرفي الصراع، من جانب، وواشنطن من جانب آخر، حول ضمانات أمنية تراها موسكو ضرورة، بينما يبقى الأمر مازال مرهونا بالقدرة الأوروبية على احتواء الأزمة التي تهدد القارة، بعيدا عن سياسة العقوبات، والاستعداء، والتحول نحو سياسات احتوائية، عبر تدشين توافقات، وتعزيز المصالح، خاصة إذا ما نظرنا إلى أزمة الغاز الروسى، الذي مثل عبئا كبيرا عليها، منذ بداية الأزمة، حيث أثبتت العقوبات انعدام جدواها في تحقيق أية مكاسب.
وهنا يمكننا القول بأن التوافق الأوروبي حول القضايا الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، يمثل فرصة استثنائية للقارة العجوز لتحقيق قدر من الاستقلالية عن الولايات المتحدة، في اللحظة الراهنة، في ضوء صعود أصوات باتت تنادي بمزيد من التوازن، على غرار أسبانيا وبلجيكا، وغيرهما، خاصة مع ضبابية المستقبل، فيما يتعلق بمستقبل العلاقة بين الطرفين، في ظل احتمالات عودة ترامب من ناحية، أو عجز بايدن عن حماية حلفاءه من ناحية أخرى، وهو ما يتطلب المزيد من العمل داخل القارة للوصول إلى توافقات كبيرة في المستقبل القريب فيما يتعلق بالقضايا الخلافية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة