خطوةٌ إصلاحية واسعة قطعها البنك المركزى، بقراره فى اجتماع استثنائى، صباح أمس الأربعاء، تحريك سعر الفائدة صعودًا بواقع 600 نقطة أساس، مع ترك سعر الصرف للتحديد وفق آليات السوق، ما يُنهى فترةً طويلة من الترقُّب توحَّشت فيها السوق المُوازية، وخلقت ضغطًا قاسيًا على موارد النقد الأجنبى، بجانب تصعيد الآثار التضخّمية على أسعار السلع والخدمات، وتُمثّل حركةُ التصحيح الأخيرة بدايةً لإنهاء حال التشوُّه التى كانت قائمةً، لناحية ازدواجية التسعير، وتحوُّل الدولار إلى سلعةٍ وأداة تحوُّط، بدلاً من طبيعته كعُملة تداولٍ تُواكب الاقتصاد الحقيقى، ولا تتحكَّمُ فيه بمعزلٍ عن مُعادلات الإنتاج والموارد والتقييم العادل بمعايير مُوحَّدة، وإن بدا الأمر مُربكًا فى أوَّله؛ فمن المُنتظر أن يقودَ فى المديين المُتوسّط والبعيد إلى استعادة الانضباط، وخَلق التوازن المفقود بين الجنيه وسلَّة العملات الدولية، اتّصالاً بإجراءاتٍ مُوازية تنفتحُ على صيغٍ جديدة للشراكة والعمل مع أسواق وتحالفات اقتصادية فاعلة.
تشهدُ المرحلةُ الراهنة تفاهماتٍ نوعيّةً على صعيد التمويل، فضلاً عن بروتوكولاتٍ للتبادُل التجارى بالعملات المحلية مع بعض الدول، وخطواتٍ شبيهة تسير إليها تجمُّعات اقتصادية مثل «بريكس +» التى انضمَّت لها مصر مطلع العام الجارى، ومع تأمين الاحتياجات الدولارية العاجلة، وشقِّ مساراتٍ إضافية لناحية تقليص هيمنة الدولار على المعاملات الوطنية؛ فإنَّ الأمورَ تتّجه إلى الاعتدال فيما يخصُّ الوفاءَ بالالتزامات، وتأمين غطاء المُتطلّبات الاستراتيجية، وسدّ القنوات المُوازية التى كان يتسرَّب إليها الدولار وفائض القيمة من مجموع الأنشطة الإنتاجية والتجارية، لصالح فئةٍ ضيّقة من المُضاربين فى سوق النقد. ويترافق مع ذلك تحسين مُؤشِّرات الأداء، ورفع جاذبية الاستثمار، والتخلُّص من الأوضاع التى كانت تمتصُّ تحويلات المُغتربين، وتُعطّل التدفُّقات الخارجية، أو تُغذى تحفُّظ المُستثمرين على قرار دخول السوق عند نقطةٍ لا يرونها مثاليةً أو معبّرةً عن الواقع.
بعد ساعاتٍ من القرار، قالت وكالة «رويترز» إن سندات مصر الدولية سجَّلت تحسُّنًا ملحوظًا، وأكَّدت «فوربس» النظرة المُتفائلة للإجراء، وقد أظهرت بيانات «تريد ويب» أنَّ الإصدارات الأطول أجلاً أحرزت مكاسب مُرتفعة؛ إذ زادت السندات المُستحقّة فى العام 2047 بما يُقارب ثلاثة سنتات، وصولاً إلى 82.3 سنت، كما ربحت البورصة مع بدء التداول وسجّل مؤشر EGX30 للأسهم القيادية نموًّا بنحو 4.8%، والأرجحُ أن يتواصل مسارُ التعافى مع إنهاء مناخ الازدواجية، ونموِّ الطلب على الجنيه بأثر التقييد النقدى وحصار موجة التضخُّم، ونتاج ذلك أن تتوقَّف حالة الهَدر التى كانت قائمةً بسبب تثبيت السعر الرسمى، وتتلاشى تأثيراتُ المضاربة التى خلقتها السوق المُوازية، وسيكون بمقدور الدولة تلبية الطلب على الدولار من حصيلة التدفُّقات الأخيرة، ثم تعويض الفاقد وتجديد مخزونها عبر استعادة حصَّة من تحويلات المصريين بالخارج، وما قد يتحقَّق عبر اجتذاب استثمارات مُباشرة، وإبرام مزيدٍ من الاتفاقات مع الشركاء من الجهات المانحة ومُؤسَّسات التمويل.
خلال الشهر الماضى أقرَّت القمة الأوروبية فى بروكسل دعمًا ماليًّا إضافيًّا لمصر، بحسب ما أُبلِغ وزير الخارجية سامح شكرى من مُفوّض الاتحاد لسياسة الجوار أوليفر فارهيلى، والأسابيع الأخيرة شهدت إنجاز عناصر الاتفاق الأساسية مع صندوق النقد الدولى، وأعلن رئيس الوزراء عن توقيعه بالفعل، ما يسمح باستكمال بنود التمويل السابق بنحو 3 مليارات دولار، وربما ترقيته إلى ما بين 6 و10 مليارات. يُضاف لذلك ما توافر من مواردٍ عبر صفقة تنمية رأس الحكمة مع شركة «القابضة ADQ» الإماراتية بإجمالى 35 مليار دولار: 24 منها عبارة عن ضخٍّ طازج، و11 مليارًا قيمة وديعة ستُصرَف بالجنيه؛ لتنزل من حساب الدين الخارجى. ومجموعُ التطوُّرات أن الملاءةَ مُستقرّةٌ بفضل الموارد المتاحة مع الأُصول وعناصر الجذب، وشُحّ السيولة لم يعُد قائمًا وقد أُتِيحت مداخيل دولارية كافية لتغطية الالتزامات الحاضرة، وتلبية الطلب لحين الخروج من مرحلة الارتباك واستعادة استقرار السوق.
الرفعُ الأخير للفائدة هو الأكبر خلال عقدٍ كامل، ولا يُقاربه إلَّا التحريك فى 2016 بالتزامن مع خطَّة الإصلاح الهيكلى للاقتصاد بنحو 550 نقطة أساس، والإشارة هنا أننا إزاء قفزةٍ إصلاحية لا تقلُّ عما كان قبل ثمانى سنوات، مع فارق أنها تبدأ من نقطةِ تشديدٍ أصلاً، وتستهدفُ القضاءَ الكامل على الازدواجية وتشوُّهات سوق النقد، بعدما صرَّح البنكُ المركزى بتَرك السعر لآليات السوق، بما يعنى الاحتكام للعرض والطلب، مع ضمان أن يكون التداول مضبوطًا بالمعروض الذى يُوفّره البنك، وبما لا يسمح لمافيا السوق المُوازية بالمناورة وفَتح مساراتٍ فرعية جديدة للتداول المُنفلت خارج الجهاز المصرفى. فى العام 2014 كانت الفائدةُ عند مستوى 9.25% للإيداع و10.25 للإقراض، وقفزت بعدها بعامين إلى 14.75 و15.75 على التوالى، و100 نقطة أساس فى العام التالى، ثمّ تراجعت 200 نقطة فى 2018 مع تحسُّن مُؤشِّرات الاقتصاد، واستمر التيسير فى 2019 بواقع 450 نقطة، ثم 400 نقطة فى 2020 وصولاً إلى 8.25% للإيداع و9.25 للإقراض. لكنّ تداعيات أزمة كورونا وما نشأ عن الحرب الأوكرانية من ضغوطٍ، أعادا مسارَ التشديد؛ فقفزت الفائدة 800 نقطة أساس فى 2022، إذ خرجت وقتها نحو 22 مليار دولار من الأموال الساخنة، وفى 2023 بلغ الارتفاع 300 نقطة أساس، ومنذ مطلع فبراير الماضى 800 نقطة، بما فيها زيادة أمس. وتحليلُ المُؤشِّرات يُؤكِّد أن فاعليّة البرنامج الإصلاحى كانت واضحةً فى سعر العائد؛ لولا الأزمات الطارئة التى خلقت وضعًا استثنائيًّا، أعاد خلطَ الأوراق وجعل التشديد خيارَ الضرورة الذى لا بديل عنه.
سعرُ الصرف ليس غايةً فى ذاته؛ حتى مع التسليم بآثاره على الأسواق الناشئة، لا سيما فى ظلِّ اختلال الميزان التجارى وارتباط تكلفة السلع والخدمات بالدولار.
المهمُّ أن يكون أداءُ العملة مُرتبطًا بتقييمها الحقيقى، ومن دون فجوات يملؤها المُضاربون من خارج القنوات الرسمية، بصورةٍ تضغط على الاقتصاد وتستنزف موارد الدولة فى لُعبةٍ غير عادلة. والحاصلُ خلال الشهور الأخيرة أن تُجّار السوق السوداء نفخوا السعر إلى مستوى 70 جنيهًا للدولار، وحتى الذين حصلوا على تمويلاتٍ بالسعر الرسمى باعوا بضائعهم وخدماتهم بالمُعامل الحسابى المُوازى، وهكذا كان نزيف الدولار الحكومى مُستمرًّا، والمواطن يدفع بدولارٍ آخر، والفارق يذهب إلى جيوب المُحتكرين والمُتلاعبين وحدهم. أمَّا الوصول إلى نقطةٍ وسيطة بين الحالين؛ فإنه يُرشِّد خسائر المالية العامة، ويُنهى هيمنة العصابات على السوق، ولا يُرتِّب أعباء إضافيّةً على المُستهلك النهائى حاضرًا، مع إفساح المجال لحركات تصحيحٍ فى الأسعار مُستقبلاً، حالما تتواكب السياساتُ النقدية مع كفاءةٍ مالية وتعزيزٍ للرقابة وآليات ضبط الأسواق.
لم يكن مُمكنًا السير باتجاه التصويب الكامل من دون كُتلةٍ دولارية حاضرة. فإذا كانت العِلَّة فى شُحّ النقد الأجنبى، وعجز البنوك عن تلبية احتياجات القطاعات الاقتصادية والأفراد؛ فإنَّ الحلَّ الوحيد فى تعزيز الموارد، وأن يتوافر معروضٌ يسمح بتوجيه قدرة التسعير من السوق الموازية إلى المصارف ظاهرًا، وفى الجوهر من ألاعيب الاحتكار والتعطيش، إلى توازن العرض والطلب على شرط الإتاحة. وقد لعبت صفقةُ رأس الحكمة دورًا إيجابيًّا فى تهيئة البيئة اللازمة لاتخاذ القرار، وساعد على ذلك استقرارُ مُعدَّلات البطالة، وحزمةُ المزايا الاجتماعية التى أطلقها الرئيس قبل أسابيع، والحاجةُ الماسَّة إلى التدخُّل لضبط مُؤشِّر أسعار المُستهلكين. والمعروف أن التضخُّم المحلىَّ فى أغلبه مدفوعٌ من جانب العرض، فبعضُه ناشئ عن تشوّه سعرِ الصرف والبعض مُستورَدٌ من أسواق المنشأ، إذ ما زالت أغلب الاقتصادات الكبرى تُكافح وتنتهج مسارات التشديد، وتنقلُ تضخُّمَها بطبيعة الحال إلى المُستوردين والأسواق الناشئة. وإذا كان الجزءُ الوافد ممَّا لا يدَ لنا فيه؛ فإن مسألة المعروض تنضبطُ وجوبيًّا بسدِّ الفجوة النقدية، وتوحيد السعر بما يُقلِّص هوامشَ التلاعب إلى حدِّها الأدنى.
عمليةُ «الدولرة» التى استشرت فى السوق، حوَّلت الدولار إلى سلعةٍ يطلبها الناسُ للادخار والاستثمار؛ فكان حاضرًا فى السوق عمليًّا وغائبًا عن التداول المُثمر اقتصاديًّا، وإعادة المُعادلة إلى نصابها السليم ستضمن تجفيفَ الطلب الزائف على النقد، وعدم حبس الفوائض الدولارية أو المُضاربة عليها، والأهمّ أن عملية تدبير التمويل وفتح الاعتمادات وضمان تدفُّق السلع ستعود إلى طبيعتها، وبشائرُ القرار أن السوق تستعدُّ للإفراج عن وارداتٍ بأكثر من مليارى دولار، والبنك المركزى وجَّه المصارف بإنهاء القيود على بطاقات الائتمان وفتح حدود استخدامها بالعُملات الأجنبية، ومع تقريب العائد الحقيقى على الجنيه من المستويات الإيجابية، سيزداد الطلبُ على العملة الوطنية، وينشط الادّخارُ والاستثمار غير المباشر؛ لأن الفائدة لن يأكلها التضخُّمُ، كما لن يكون هناك هامش غير مرئى بين تكلفة دخول السوق والخروج منها، أو تفاوتٌ فى تقييم الأُصول وتكاليف الإنتاج، بما يُربك القرارات الاستثمارية ودراسات الجدوى.. والعصابات التى نشطت فى تجارة العملة بين المُغتربين لن تُوفِّر ميزةً أكبر ممَّا فى البنوك، فيعود التدفُّق إلى مستوياته المُنتظمة، وقد سجَّل أرقامًا قياسية ما قبل الأزمة الأخيرة.
كان تصويبُ المسار واجبًا؛ إذ اتّسعت الفجوة وزاد جشعُ السوق السوداء. ولم يكن منطقيًّا أن تُهدِر الدولةُ مواردَها الدولارية بسعرٍ غير حقيقى؛ ليتربَّح منها تجُّارٌ يبيعون بأسعارٍ منفوخة، بالاصطناع أو اختلال التوازن. والإجراءاتُ الأخيرة سمحت بإزاحة السوق السوداء للوراء كثيرًا، من مستوى يتجاوز 70 جنيهًا للدولار إلى أكثر من 40 بقليل، لتكون النقطة المُناسبة للدخول التصحيحى مع ضِيق الهامش بين السوقين. والأيام الأولى قد تشهد حالةً من الريبة والاستكشاف ثم تستقيمُ الأوضاع. فى جولة 2016 تجاوز السعر 22 جنيهًا قبل أن يأخذ اتجاها تصحيحيًّا؛ ليستقر عند أقل من 16 جنيهًا، صحيح أنه كان تعويمًا مُدارًا وليس مرونةً كاملة؛ إلّا أن القدرة على مواكبة السوق لن تغيب تمامًا، ربما لا تتّخذ شكل القرار كما فى السابق، لكنها ستتحقَّق عبر الإتاحة، وتوظيف الموارد الدولارية فى تعزيز المعروض بديناميكية وكفاءة، وصولاً إلى تقويم الطلب مع ضبط الأولويات، وترشيد الإنفاق الحكومى والمشروعات ذات المُكوِّن الدولارى، وبعدما تتلاشى إغراءات الاحتفاظ بالنقد الأجنبى أو التربُّح من تجارته خارج القنوات الرسمية.
شرحت لجنةُ السياسة النقدية فى بيانها تفاصيل المشهد، وبالتزامن مع مثول الجريدة للطبع سيكون مُؤتمر البنك المركزى، مع مزيدٍ من الشروحات والإجراءات وما يخصُّ إطار الاتفاق مع صندوق النقد والرؤية المُقرَّرة للمرحلة المقبلة. واللجنةُ أوضحت أن الاقتصاد كان مُتأثّرًا بنقص العملات الأجنبية، وتداعيات التضخُّم العالمى، فضلاً على تأثير صدمات العرض ومناخ عدم اليقين، لذا فإنها عملت على ردم الفجوة بقراراتها التصحيحية، مع الالتزام بالحفاظ على الأسعار فى المدى المُتوسّط، وإرساء إطارٍ مَرن لاستهداف التضخُّم باعتباره مُرتكزًا أساسيًّا للسياسة النقدية، وبما يُواكبه السماح لسعر الصرف أن يتحرَّك صعودًا وهبوطًا وفق آليّات السوق. والخُلاصة أنها جراحةٌ اضطرارية لاستعادة المسار، وفكّ قبضة السوق الموازية على حركة النقد الأجنبى، وتفعيل إمكانات الدولة عبر تنسيقٍ فعّال بين السياستين المالية والنقدية، وامتصاص انعكاسات البيئة الدولية وتوتُّراتها على الاقتصاد المحلى. والواقع أنَّ فِطام أسواق الصرف عن الحاضنة القديمة باختلالاتها المعروفة، سيسمحُ بهامشٍ أوسع للحركة، ويُقلّص أثر القلاقل الجيوسياسية بالإقليم، وارتباك سلاسل الإمداد عالميًّا، على الأقل بتحرير التجارة من استغلال حلقات التربُّح المُتعدّدة على حساب الموازنة العامة ومداخيل الأفراد، عبر لعبة النقد ومُناورات العرض والتسعير. لقد رسمت الدولةُ ملامحَ خطّة العلاج الناجع، والقادم أفضل فى كلِّ الأحوال؛ لأن ما كان يذهب إلى الجيوب السوداء بغير حقٍّ، لن يعود مُستباحًا أو خاصمًا من قدرات الحكومة والمواطنين لصالح التجّار، وسرعان ما ستتنفّسُ السوقُ هواءً طبيعيًّا خالصًا من الألاعيب، وتعتدل الموازين بمنطقٍ مفهومٍ، وقادرٍ على سدِّ الثغرات أوّلاً بأوّل، وتوليد الفرص المُحفّزة للاستثمار والإنتاج واستدامة موارد النقد الأجنبى.