كان الدكتور طه حسين من الأصدقاء المقربين لعالم الفيزياء الفذ الدكتور على مصطفى مشرفة، وحين أختير طه حسين وزيرا للمعارف فى يناير 1950، اتصل به «مشرفة» لتهنئته، وداعبه: «خلاص يا طه عملت وزير وستترك العلم»، وفقا للكاتب الصحفى محسن عبدالعزيز فى مقاله «أسطورة على مشرفة، 11 أكتوبر 2021».
توفى «مشرفة» يوم 16 يناير، 1950 وفجع طه حسين، كما تشير كلمته فى حفل تأبين الفقيد يوم، 8 مارس، مثل هذا اليوم، 1950، والمنشور نصها بجريدة «الدستور، 18 يوليو 2018»، للكاتبة زينب إبراهيم: وقال فيها: «يرحمك الله أيها الصديق الكريم والزميل العزيز والأخ الوفى، الذى لم يعرف إخاؤه ضعفًا ولا وهنًا على اختلاف الظروف، وإنى لأذكر ذلك الحديث الذى تحدثت به إلىّ فى التليفون ذات مساء حين أخذ النهار ينقضى مجررًا أذياله الشاحبة، وحين أخذ الليل يقبل مرسلًا ظلماته القاتمة، دعوتنى فأسرعت إلى التليفون وتحدثت إلىّ، فكان صوتك بعيدًا وكان صوتك ضعيفًا، وكان أشبه الأصوات بصوت المتحدث حين يتحرك القطار، يتحدث من النافذة فيستمع إليه الواقفون، وإن حديثه ليتناثر شيئًا فشيئًا.
كنت ترسل إلى تحياتك من بعيد، وكنت تنبئنى بأنك مريض، وبأن المرض هو الذى أخّر زيارتك لى، وبأنك ترجو أن تخرج غدًا أو بعد غد، ثم تزورنى، فما أكثر ما بينك وبينى من حديث، وكنت ألح عليك فى ألا تتعجل الخروج، فإن خروج المرضى قبل أن يتم لهم البُرء، خطر بغيض، ثم أصبح فأسمع نعيك يأتى من بعيد، فيصعقنى، كما جاءتنى أمسُ تحياتك من بعيد فملأت قلبى وهنًا وذكرى، ثم نسعى فنشيع جنازتك ذاهلين، تسعى أقدامنا وتتحرك أجسامنا ولا تصدق عقولنا، ثم تمضى الساعات وتمضى الأيام ونفتقدك فلا نراك.
لم يكذب النعى إذن! ولم نكن حالمين حين شيعنا جنازتك فى ضحى يوم من الأيام، حقًا إن مصر قد فقدتك، وإن أصدقاءك قد فقدوك، وإن كليتك قد فقدتك وإن العلم قد فقدك أيضًا، كل هذا حق، وليس فى هذا شىء من الغرابة، فإن الموت حق، كما أن الحياة حق، ووعد الله حق، وهو أقوى وأثبت من الموت والحياة جميعًا.
كنت مودعًا إذن، وكنت على شاطئ البحر تضع إحدى قدميك على السُلم الذى سترقى فيه إلى هذه السفينة التى نعرف متى تترك الساحل، ثم لا نعرف متى تبلغ الساحل الآخر، كانت تحية وداع إذن! ولم يكن ما تم بينك وبينى من الموعد إلا غرور من غرور الحياة - وهل الحياة الدنيا إلا متاع الغرور؟!
لست أدرى عن أى حزن نستطيع أن نعبّر، حزن الأصدقاء أم حزن الزملاء أم حزن الطلاب والتلاميذ أم حزن العِلم الذى لايحسن التعبير عن فجيعته حين تلم به الملمات، نعم أيها السادة فقد فارقنا مشرفة فلم نمتحن فيما كانت قلوبنا تضم من ود ومن حب، ولم نمتحن فيما كنا نستمتع به من زمالة وإخاء فحسب، ولكن مصر كلها امتحنت فى عَلم من أعلامها، بل ومن أعظم أعلامها ارتفاعًا وبُعد ذكر فى الآفاق، وشر المحن هو هذه المحن التى لا سبيل إلى تعويضها، ثم لا سبيل إلى العزاء عنها.
فأمثال مشرفة من النابهين الذين يرفعون ذكر أوطانهم، والذين يضيئون منار الإنسانية بالعلم والمعرفة – أمثاله قليلون، إذا خسرهم فلابد له من صبر طويل وانتظار مستطل قبل أن يظفر بمن يخلفهم، وإذا فقدهم العلم فلابد له كذلك من الانتظار حتى يجد من يتم ما بدأوه، ولكن ما الذى نستطيع أن نصنع!!
ليس فى طاقة الإنسان أن يستبقى الزميل والصديق، وأن يؤخر موته حتى يودعه كما يجب أن يكون الوداع، وليت فى طاقة الجامعة والكليات أن تستبقى الزميل والأستاذ حتى يتم ما بدأ من تكوين لجيل من أجيال الشباب، وليت فى طاقة العِلم أن يستبقى العلماء حتى يتموا ما بدأوا من البناء، ولكن ما قيمة ليت وما عائدتها؟! وقد قال الشاعر قديما: «ليت وهل تنفع شيئًا؟ ليت ليت شبابًا بيع فاشتريت»، كان يأسف لأنه لا يستطيع أن يشترى الشباب، على حين أن الإنسانية كلها تستطيع أن تأسف لأنها لاتستطيع أن تؤخر الموت.
أيها السادة - ليت للعزاء عن مشرفة من سبيل، وليت للحزن على مشرفة من فائدة، وإنما سبيلنا وسبيل الزملاء أن يصبروا وأن يذكروا أن وعد الله حق، وأن زميلهم سبقهم إلى مورد هم واردوه من غير شك، وسبيل الطلاب أن يجدّوا ويجتهدوا ويتصوروا أستاذهم مثلًا قائمًا للجد والدرس والتضحية فى سبيل العلم، مثابرًا على المكروه فى سبيل العلم والطموح المتصل الذى لايعرف الضعف ولا الوهن فى الوصول إلى المثل العليا، واتخاذ المادة وسيلة لاغاية، وسبيل مصر أن تصبر على هذه المحنة، وما أكثر ما تعلمت مصر أن تصبر على المحن».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة