هذا العنوان الثقيل، على سبيل التفاصح، وربما أيضا على سبيل الفكاهة، هو تعبير عن ظاهرة متزايدة بات أغلبنا يلاحظها بوضوح، وقد يبتسم بعضنا لها.. تتمثل في عشرات وعشرات من المواقع التي تنشر أقوالا وحكما وخلاصات واقتباسات منسوبة إلى نجيب محفوظ.. تتناثر هذه الأقوال بكثرة وغزارة على مواقع عديدة: "جوجل"، و"يوتيوب"، و"تويتر"، و"تيك توك"، و"فيسبوك".. بعض هذه المواقع ينشر نصوصا مكتوبة، وبعضها يقدم عبارات مرفوعة على لوحات متلاحقة في فيديوهات (وقليل منها مترجم إلى الإنجليزية!).. ولمن لم يلاحظ مدى اتساع وانتشار هذه الظاهرة أن يكتب على "جوجل" عبارة مثل: "أقوال نجيب محفوظ"، وسوف يشهد هذا الاتساع والانتشار..
هذه الأقوال المنسوبة إلى نجيب محفوظ، التي تصاغ غالبا في عبارات "حكمة" قصيرة توحي بأنها تنتمي إلى تأملات أو تتأسس على خلاصات من خبرة طويلة، تمتد لتغطى تجارب متعددة من الحياة والعلاقات الإنسانية.. وهذه الأقوال، بعد أن تزايدت، أصبحت توزّع على تصنيفات محددة: أقوال نجيب محفوظ عن السعادة، أقوال نجيب محفوظ عن الحياة، أقوال نجيب محفوظ عن النجاح، أقوال نجيب محفوظ عن الحب، أقوال نجيب محفوظ عن الخيانة، أقوال نجيب محفوظ عن الصداقة، أقوال نجيب محفوظ عن المرأة، أقوال نجيب محفوظ عن الموت.. إلخ.. وبعض هذه الأقوال يهتم بجوانب جزئية خاصة، ومن ذلك ما نجده مثلا تحت عنوان: "أقوال نجيب محفوظ عن الصمت"..
يمضي أغلب هذه الأقوال، من حيث دقة نسبتها إلى محفوظ، في في وجهة من وجهتين..
.. في وجهة، نلحظ أن القليل من هذه الأقول منتزع بالفعل من بعض روايات نجيب محفوظ، مع إعادة صياغة أحيانا.. والمشكلة الكبرى في هذه الوجهة أنها تقتطع عبارات قالها بعض الشخصيات في سياقات روائية بعينها، ثم تنسبها إلى نجيب محفوظ نفسه.. فتجعلها تنطق بلسانه هو وليس بألسنة الشخصيات التي نطقت بها، وهي شخصيات مستقلة عنه بالطبع وبالضرورة.. (وقد كان استخدام هذه الطريقة سببا من أسباب إساءة قراءة أعمال نجيب محفوظ واتهامه باتهامات باطلة)..
..وفي وجهة أخرى، نلاحظ أن كثرة من هذه الأقوال مختلقة اختلاقا، لكي تعكس تصورات أو لكي تعبر عن تجارب تنتمي إلى من يقومون بعمل "شير" لهذه الأقوال أنفسهم.. فذكرها لم يرد أبدا في أعمال محفوظ، بل هي منتزعة من نصوص أخرى، أو حتى مختلقة من قبل من مروا أو يمرون بعض التجارب، ويجدون أن هذه الأقوال مناسبة للتعبير عن هذه التجارب، فيقومون بـ"تشييرها" بعد أن ينسبوها إلى نجيب محفوظ، وبذلك يجعلون محفوظ متحدثا بألسنتهم، أو يجعلون أنفسهم متحدثين بلسان محفوظ.!
طبعا يمكن أن نلتمس لهذه الظاهرة المتزايدة تفسيرات عديدة.. لعل بعض هذه التفسيرات يتمثل في أن بعض الناس يرتاح عندما يسقط تجربته على تجارب الآخرين، أو عندما يرى أن الآخرين يشاركونه تجربته.. وبعض هذه التفسيرات يتعلق بأن الناس يحتاجون أحيانا إلى إضفاء نبرة الحكمة على آرائهم، فيستندون إلى أن هناك حكمة مبثوثة بالفعل في بعض أعمال نجيب محفوظ.. وبعض هذه التفسيرات يرتبط بأن بعض الناس يسعى إلى الاستناد إلى رسوخ اسم يدعم الأقوال التي تعبر عنهم، ويجدون هذا الرسوخ في اسم نجيب محفوظ.. وطبعا هناك تفسيرات أخرى كثيرة ممكنة.. لنا، أو ربما يجب علينا، التفكير فيها..
هذه الظاهرة تسمح لنا بأن نفكر في بعض التساؤلات التي يمكن أن تطرح حولها:
.. هل تجعلنا هذه الظاهرة نستدعي ظواهر أخرى مشابهة، مثل قيام بعض الناس، في بعض المجتمعات وفي بعض الفترات، بـ"صناعة رمز" يمثّل ويبلور أحلامهم أو آمالهم أو قيمهم، أو يقدم لهم إجابات عما يدور بداخلهم من تساؤلات ؟ (و"صناعة الحكيم" هنا هي وجه آخر من وجوه عديدة متشابهة: "صناعة البطل" أو "صناعة المخلّص" أو "صناعة الأسطورة")..
.. وهل هناك ما يصل بين هذه الظاهرة وبين النزعة الإنسانية المعروفة عند كثير من البشر، الذين يحرصون على إضفاء نوع من المصداقية على آرائهم.. فيؤكدونها ببعض الشواهد من المأثور الذائع؟
.. وهل لهذه الظاهرة صلة بظواهر قديمة كانت حاضرة بوضوح في موروثنا القديم، مثل الروايات المتعددة وأحيانا المختلفة التي كثيرا ما كانت تتواتر وتتراكم عن الواقعة الواحدة أو عن الشخصية الواحدة.. وقد كانت هذه الروايات تتنامي خلال عمليات متوالية من الإضافات، أغلبها لم يكن حقيقيا ؟
.. وأكثر من هذا.. هل هذه الظاهرة تتقاطع مع ظواهر أخرى حاضرة في مجتمعات بشرية وغير بشرية... منها ما نلاحظه مثلا في عالم الطيور، حيث هناك طيور لا ترقد على بيضها أبدا، وإنما تقوم بدسّ هذا البيض (في الخفاء) داخل أعشاش طيور أخرى لترقد عليه، أي لتقوم بدلا منها بالمهمة التي تستلزم قدرا من الدأب والصبر.. (وإن كانت التجربة هنا معكوسة أحيانا) ؟!..
وطبعا هناك إمكان لتساؤلات أخرى.. تمضي في اتجاهات أخرى..
فلبعضنا أن يفكر، ربما على سبيل الفكاهة، في ذلك التساؤل:
.. بعد عقود طويلة، وربما بعد مرور قرون من الزمن، هل سوف يأتي أحد الباحثين لينجز دراسة عنوانها من قبيل: "قضية الاختلاق في أقوال نجيب محفوظ".. ليكشف مدى ابتعاد، أو مدى اقتراب، هذه الأقوال المنسوبة إلى نجيب محفوظ عن، أو من، نجيب محفوظ نفسه ؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة