من حق كل شعب أن يحيا آمنًا مستقرًا على أراضيه كاملة، وفق قواعده وقوانينه، وعاداته وأذواقه، وفى المقابل ليس من حق أى دولة من الدول أن تهدد جيرانها وتجور على حقوقهم وفق مخططات استعمارية توسعية، ومغالطات تاريخية تحمل شعار «إعادة إرث الأجداد» ومشاريع دينية تؤمن بها وتسكن خيالها، ولا وجود لها فى الواقع!
وما يحدث حاليا فى منطقة الشرق الأوسط، هو استخراج المخططات والمشاريع الدينية من الخزائن، ومحاولة تنفيذها بقوة السلاح، ويمكن القول وفق المعطيات وقراءة جيدة للأحداث المغلفة بخلفية تاريخية قديمة ومعاصرة، أن صدام إيران وإسرائيل، لن يشعل النار فى أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل سيكون بداية حقيقية لحرب عالمية ثالثة لا محالة، فالدولتان تحملان مشاريع دينية، متقاطعة المذهب، متشابهة الأهداف، وهنا مكمن الخطورة البالغ، واحياء لحروب وصراعات دينية «كهنوتية» قديمة، كانت المنطقة، ومن قبلها العالم قد تجاوزها، بفعل الزمن وتغيير فقه أولوياته.
وفى ظل أن النيران تحت الرماد عاودت الاشتعال بفعل الرياح السياسية العاتية بدءا من تعنت الحكومة الإسرائيلية للاستمرار فى حربها بغزة، ومرورا بالتحرش بدول المنطقة مثل إيران وسوريا ولبنان، فأكاد أجزم بكل ضمير حى، وواقعية مفرطة، ومتابعة دقيقة للأحداث فى الإقليم كله، أن مصر الدولة الوحيدة التى تدرك حجم المخاطر المحدقة بالمنطقة، وتعى بعمق حضارتها ووعيها الثقافى والسياسى والعسكرى الضارب بجذوره فى التاريخ حجم الدمار والخراب فى حالة اندلاع حرب إقليمية، تجر العالم لا محالة لحرب عالمية ثالثة، مختلفة عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، فالسلاح «كهنوتى» علاوة على سهولة التنقل والتواصل والمتابعة، كون العالم صار قرية صغيرة، بجانب وهو الأخطر، انتشار التنظيمات والجماعات والميليشيات المسلحة تسليحًا يفوق تسليح الدول، وحينها يدخل العالم أجمع فى مرحلة الفناء وتدمير أمن وأمان واستقرار الكوكب!
وفى هذا السياق، كنت قد كتبت مقالا بتاريخ 31 ديسمبر 2023 بعنوان «مصر مطافئ حرائق المنطقة.. تضحية وعمل شاق لإنقاذ الإنسانية».. أكدتُ فيه أن مصر الدولة الوحيدة التى تلعب دور رجل المطافئ، وتبذل جهودا مضنية لإطفاء حرائق المنطقة، فى حين أن دولا أخرى فقدت القدرة على تقدير الموقف، وخطورة اللعب بالنار وتحويل المنطقة لبركان متفجر، سيدفع الجميع ثمنه غاليا من أمن واستقرار بلاده بالدرجة الأولى!
والشىء بالشىء يذكر، فإننى أيضا كنت قد كتبت مقالا تحذيريا من أن الذى يحدث فى غزة سيشعل نار الصراع فى المنطقة، وذلك بتاريخ 20 يناير 2024 تحت عنوان «عصر السلام المستقر انتهى.. الجغرافيا السياسية اشتعلت وحرب عالمية على الأبواب!» ذكرت فيه أن المتابع للمشهد فى المنطقة، وتحديدا فى غزة وما حولها من جيران، لا يحتاج لقريحة العباقرة فى التحليل السياسى، وقراءة المشهد الدولى بشكل دقيق، ولا يحتاج أن يكون دارسا فى جامعة هارفارد الأمريكية العريقة، ليشحن عقله بالنظريات السياسية المعقدة، لكى يتمكن من تفكيك وتركيب الألغاز وما يدور خلف كواليس المسرح السياسى العالمى، إنما يحتاج فقط لرصد ومتابعة الأحداث صوتا وصورة، فى عالم صارت فيها التكنولوجيا ناقلة لأدق التفاصيل، وكاشفة لكل الكواليس، وأنه من خلال جهاز التليفون «المحمول» فى «اليد» يتعرف المرء على كل ما يدور فى العالم الآن، ويعى أن الجغرافيا السياسية فى منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، اشتعلت براكينها، مهددة بحرب عالمية كهنوتية ثالثة قاسية.
أيضا أكدت أن شرارة النيران بدأت تتمدد وتنتقل من غزة إلى ما هو أبعد من دول الجوار، وكما قال «ابن قيم الجوزية» فى الشطر الثانى من البيت الأول لقصيدة له: «ومعظم النار من مستصغر الشرر».
والآن الشرارة بدأت تكبر وتنتشر وتتسع دوائرها، وأن صداها تجاوز البحر الأحمر وصار التخبط الآن هو سيد الموقف، فالولايات المتحدة الأمريكية - ومن خلفها بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا - فشلت فى تقديراتها الجيدة لنتائج الحرب الوحشية الإسرائيلية فى غزة، وسارت خلف بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، الذى ارتدى عباءة شمشون، لهدم المعبد على رؤوس الجميع، فزاد تخبطها، ويستشعر الجميع أن أمريكا تحديدا فقدت القدرة على إطفاء الحرائق، ومنع تسللها، وتعقدت الأمور بين يديها، وصارت فى «حيص بيص».
الأمر ذاته، إيران بدأت تتخبط، وحساباتها تعقدت، فقررت إشعال النار فى مناطق أخرى مستخدمة أذرع لها، تحارب نيابة عنها.
هذه النيران المشتعلة، وصفها وزير الدفاع البريطانى جرانت شابس، منذ ما يقرب من 4 أشهر، توصيفا جيدا، عبر تصريحات له عن المناورات الضخمة التى كان يجريها الحلف الأطلسى «ناتو» حينذاك، عندما قال نصا: «عصر السلام المستقر انتهى».
الأمر صار أخطر من كل التوقعات، وأن شرارة النار يوما بعد يوم تتنقل من بقعة إلى أخرى بسرعة، والتهديدات فى زيادة، وسط حالة ترهل نفوذ القوى التقليدية، ولم تعد هناك قوة ذات ثقل وتأثير قادرة على إطفاء الحرائق، فى ظل المنافسة والعداء المتصاعد بين القوى الأكبر فى العالم، أمريكا والصين وروسيا.