شاءت الأقدار السعيدة أن أزور مدينة سانت كاترين في جنوب سيناء هذا الأسبوع خلال فترة إجازة عيد الفطر المبارك التي قضيتها في مدينة شرم الشيخ الأنيقة والمبهجة والمدللة دوما من الجميع.
وقررت أن أزور مدينة الأديان.. مدينة التجلي.. سانت كاترين.. لم يكن الأمر وليد صدفة، وإنما كان حلما ومشروعا إنسانيا ينمو لديّ كل يوم، شجعني عليه الخبير السياحي الوطني الدكتور عاطف عبد اللطيف، الذي يُطلق عليه أهالي سانت كاترين "سفينة الصحراء"، ورأيته من خلال كتابه عن سانت كاترين "مدينة الأسرار المقدسة" عرابا مخلصا لهذه المدينة الروحانية، حيث ندهته سانت كاترين كنداهة يوسف إدريس في روايته الشهيرة، فجاء لها منذ أكثر من 30 عاما، وأنشأ فيها مشروعه الإنساني والسياحي والذي يعتبر المنتجع السياحي البيئي الأول والأهم في سانت كاترين حاليا، ويعمل مع فريقه وتلاميذه من أجل تشجيع الاستثمار السياحي في جنوب سيناء عموما وبسانت كاترين خصوصا، معتمدا على خبرته السياحية والإعلامية لعقود طويلة.
فالرجل شغوف بسانت كاترين ويدعو الجميع إلى الذهاب إليها، وبصفة خاصة الشباب وطلاب الجامعات، ليتعرفوا على مدينة الأسرار المقدسة، ومنها تزداد معرفتنا بمصر وهوية مصر الثرية الجامعة المانعة كملتقى الأديان ومهد الحضارات والثقافات.
وعملت بنصيحة د. عاطف وذهبت إلى سانت كاترين في زيارة قصيرة، وهناك كانت اللحظة الاستثنائية أن أقف "خالعة النعلين" في الوادي المقدس طوى، حيثما تجلي المولى عز وجل وكلم النبي موسى عليه السلام.
فكافة الدراسات أكدت أن في هذا الموقع تجلّى الله فأنار، وتجلّى فهدم، حيث تجلّى سبحانه وتعالى عند شجرة العليقة المقدسة - وموقعها حالياً داخل دير سانت كاترين - لنبيه موسى في رحلته الأولى في سيناء وحيدًا، فأنار من وراء العليقة المقدسة، وقال له "إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادِ المقدس طوى"، وتجلى سبحانه وتعالى لنبيه موسى وشعبه في رحلته الثانية للجبل فدك الجبل، مصداقًا لقوله "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا".
ومنذ اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدماك لهذه المدينة تشعر بالتجلي الإلهي، من خلال مشاهد الجبال الملونة الشاهقة التي تنطق نورا ورهبة، ودير سانت كاترين الشهير يقبع شامخا دافئا في منتصف الوادي المقدس آمنا فاتحا أبوابه، ومُرحبا بكل القادمين إليه من كل أنحاء العالم من كل الأديان، محتضنا شجرة موسى العليقة، وزوار الوادي والدير يكتبون أمنياتهم عند صخرة موسى، ويتباركون بماء البئر، ويشعلون الشموع في صحن كنيسة الدير قربا وبركة واحتراما، أيا كانت ديانتهم، والعاملون في الدير مزيج رائع من مسلمين قبل المسيحيين.. والقساوسة لطفاء حكماء ودودون يدعون للجميع بالبركة في صلواتهم.
وخارج الدير أنت في عالم آخر، يكفي أن تجد نفسك في هذه الحالة الروحانية الفريدة، لأنك تقف في نفس الأماكن التي وصفتها بدقة سور القرآن الكريم مثل: "طه، والقصص والنازعات والنساء وغيرها" كلها تحكي مشاهد روحانية لقصة التجلي والمناجاة وجبل الدكة وجبل الراحة وقبر هارون وبني صالح وعجل السامرائي، وترى بعينيك جبل التجلي، وعليه أثر التجلي الإلهي حينما تجلى المولى على الجبل فدك الجبل دكا، حيث أمر الله النبي موسى بأن يخلع نعليه خشوعا وتواضعا للوادي المقدس طوى مسلما مستسلما راضيا لأوامر الله بالإصلاح وحمل الرسالة والتكليف.
أمتار قليلة عن محيط دير سانت كاترين هناك أمام ما يسمى بقبر النبي هارون، تجد العجل السامرائي الذهبي محفورا ومجسدا على جدران الجبل في إعجاز إلهي تذكيرا بقوة رفض النبي موسى وغضبه من قومه في عبادة غير الله الواحد الأحد.
مشاهد روحانية عديدة في كل مكان في مدينة التجلي، حتى أهل المدينة نفسهم وكأنهم ورثوا صفات هذه الحالة الروحانية، فتجدهم متسامحين راضين مبتسمين كرماء للضيف شهداء للحق، والعلاقة في تناغم جميل وتعاون بين أجهزة الدولة الرسمية وبين القبائل أهل المدينة الأصليين، يعرفون بعضهم البعض عن قرب، يتشاركون في الأفراح والأتراح والمشورة، وهناك حالة النداهة تجمع كل من يعمل بها لدرجة أنهم دائما يرددون: "من يأتي إلى مدينة سانت كاترين ينجذب لعشقها ولا يملك أن يغادرها.. فالمكان يختار ناسه"، وفي ذلك هم على حق إلى حد كبير.. فأنا نفسي ومن أيام قليلة صابتني عدوى نداهة العشق للمدينة الروحانية الهادئة "مدينة التجلي"، والجميع هناك يجتمع على حب مدينة سانت كاترين.
وفي مدينة التجلي، رأيت بفخر مشروعا تاريخيا مصريا عظيما يوشك على سطوع شمسه، وهو مشروع التجلي الأعظم الذي تقدمه الدولة المصرية للعالم كله.. مدينة سياحية بيئية شامخة برؤية واضحة تعكس هوية مصر الجامعة المجمعة.. مشروع ضخم يستهدف تقديم مدينة سانت كاترين للعالم بهدفها الإلهي، وهي إنها مدينة كل الأديان.. حيث تجلى المولى ليكلم نبيه موسى عليه السلام، كما ذكر في سورة النساء في النص القرآني الكريم.. قال تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً).
وهذا التجلي هو من المشترك المتفق عليه في الأديان السماوية الثلاثة.. فيأتي هذا المشروع المبهر ليعكس رؤية وهوية مصر في حوار الأديان واحترام الثقافات والبناء على المشترك بين الأديان من أجل الإنسانية.
وعلى جانب آخر هو دليل على الدولة المصرية القوية صاحبة الرؤية والحكمة والهدف، ومالكة الأدوات والقدرة على الفعل والتنفيذ، ورسالة واضحة للعالم على عظمة مصر وقوتها ومكانتها.
تأملت هذا المشروع بإعجاب وسألت الله من أرض التجلي أن يخرج مشروع التجلي الأعظم للنور قريبا كرؤية مصرية تقدم للعالم على قوة مصر وقدرتها الحكيمة على حسن إدارة ملفات حوار الثقافات والأديان بمخزونها الثقافي والديني والتاريخي الكبير، والذي هو روح هوية مصر الحقيقية التي ينشغل بها المخلصون من أبنائها حاليا.
ولكن تبقى كلمة أمانة يجب عليّ أن أقولها في نهاية المقال، فمما شاهدته حاليا هناك من داخل مدينة التجلي سانت كاترين، هذه المدينة الروحية الاستثنائية.. مدينة الأديان السماوية الوحيدة من نوعها في العالم، نجد أنها في حاجة ماسة إلى مزيد من الدعم والتنمية اليوم وليس غدا.. فالمدينة تحتاج إلى كثير من الإمكانيات والتجهيزات والاستثمارات وبصفة خاصة في الانتقالات وتفعيل مطار سانت كاترين، صحيح هناك دعم من الدولة متزايد منذ بدء عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي بالمدينة في إطار اهتمام الدولة بسيناء الغالية، ولكن لا زالت المقومات الأساسية غير كافية للطموح المأمول منها، ولا بحجم ما لهذه المدينة من زخم كبير لتشجيع السياحة لها واستقطاب فئات متنوعة من السائحين إليها، وفي مقدمتهم السياحة الداخلية ليتعرف المصريون، وبصفة خاصة الشباب، على عظمة بلادهم مصر، وقيمتها العظيمة الدينية والتاريخية والثقافية والسياسية.
ويحتاج الأمر إلى رؤية شاملة في مختلف المجالات للتعامل مع "مدينة التجلي" بهذا المفهوم، بمعنى أن الشأن قد يبدو سياحيا للوهلة الأولى، ولكن إذ ما دققنا النظر برؤية أعمق نجد أنه لا بد من تكاتف جميع الجهات، وفي مقدمتها المؤسسات الإعلامية والتعليمية والثقافية والجهات ذات الصلة بالشباب والتنشئة وتعزيز هوية مصر، كما هو متفق عليه بأنها الدعامة الأساسية لتحصين المواطن المصري وبناء الإنسان المتماسك القوي الواعي القادر على المساهمة في التنمية والبناء للجمهورية الجديدة، ولتكن مدينة التجلي في مقدمة مسيرة التنمية في رؤية مصر الجديدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة