أهمّ من اتّخاذ قرار الذهاب للحرب؛ أن تعرفَ طريقَ الرجوع منها. والمُعضلة ألّا يكون لك خيارٌ فى الأمرين؛ فتنزلق إلى دائرة النار دون قرارٍ، ولا تملك وسيلةً لإطفائها. والحال أن المشهد الذى افتتحته غزة، وامتدّ مئات الأميال بعيدًا منها، تثبُتُ فيه صِفةُ الارتباك بحقّ أطرافه المُباشرين من دون استثناء؛ إمَّا لأنهم افتقدوا المُبادأة، أو لعجزهم عن مُجاراة الأحداث، أو الدخول فى دوّامةٍ تُفضى كلُّ انحناءةٍ فيها إلى مُنعطَفٍ أضيق، وتغيمُ المخارجُ فى عيون الجميع. هنا تُصبح المُواجهةُ صِفريّةً، وتستفحل كُلفتُها عندما تتّخذ هيئةَ المُباريات الجماهيرية فى وعى المُتحاربين؛ فيكون التشجيع المحموم بديلاً عن الحَسم المُثمِر، والاستعراض وإثبات المهارة كافيين للإشباع النفسى. كأنَّ الخصوم اختلفوا وجوديًّا فى كلِّ شىءٍ، واتّفقوا تلفيقًا على الاستنزاف المُتبادَل ومُغازلة عواطف المتفرجين.
يتحقَّق الارتجالُ والتخبُّط بأوضح الصور فى الجولة الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة. لكنهما كانا حاضرين منذ الخطوة الأُولى قبل ستّة أشهر. لقد تقاطع القديمُ والجديد من خطوط اللعبة فى ساحة غزّة، بقصدٍ أو باعتباط؛ بينما ينتقلُ القطاعُ من محنةٍ لتاليتها، وتتضاءل قدرتُه على تحريك الدراما، بالتزامن مع إفلات الخيوط من أصابع العدوّ والحليف معًا. وهكذا تبدَّلت الجولةُ من صراعٍ إلى إبادة، ومن رغبةٍ فى اقتحام المشهد إلى تهديدٍ بالخروج الكامل منه، ودخلت على الخطِّ أطرافٌ طالما استثمرت فى القضية؛ لكنها لا تملك ما تقدّمه فعليًّا للمُرابطين على الثغور، ولا ما تستبقى به ورقةَ التوازن الحرج سليمةً وفعَّالة. وفى الحروب تحتاج دائمًا إلى القُدرات الخفيَّة، والإيحاء بخطوط الإمداد الكافية لإحداث التحوُّل المُفاجئ؛ إنما عندما وُضِعَت كلُّ الأوراق على الطاولة، بات معلومًا أنه لا فرصةَ لتغيير المُعادلة من الداخل، وأن الجميع يلعبون على المكشوف.
اليوم، يُمكن النظر إلى «طوفان الأقصى» على وجهٍ مُغاير. إنَّ حقَّ المُقاومة المشروع يظلُّ مرهونًا بأن يُضيفَ للمسار لا أن يخصم منه. وعندما أطلقت حماس وحُلفاؤها العمليةَ الواسعة فى غلاف غزّة؛ إنما كانوا يسعون لتحريك القضية بعد خمولٍ طويل، والتوقيع بالحضور مُجدّدًا فى دفتر النزاع مع إسرائيل. ولعلّ الأهداف الأساسية تحقَّقت فعلاً؛ لكنّ كمالَ فاعليّتها أن تجدَ مَن يُلاقيها عند المُفترَق، ويجنى ثمارَها بنفسه أو يتأكَّد من وصولها لمُستحقّيها الفعليِّين. والتتابعُ اللاحق يكشف عن تناقضاتٍ عِدّة؛ إذ لا يبدو أن «السنوار» ورجاله وضعوا فى حساباتهم ما يُمكن أن يصل إليه جنون نتنياهو وعصابة اليمين الصهيونى، أو أنهم راهنوا على أن يقدحوا الشَّرَر؛ فتندلعُ بقيّة الجبهات بالتزامن. كلا الأمرين آخر ما كان يحتاجه الظرفُ الفلسطينى الراهن؛ حتى مع الإقرار بأنّ اليأس من الجمود وخطط التصفية يُمكن أن يدفع إلى مساراتٍ خاطئة.
تضخَّمَ الهجومُ بشكلٍ مُفاجئ، وربما على غير رغبة القادة القسَّاميين. فما دون ذلك التصوُّر تستتبعه أسئلةٌ كُبرى عن الجاهزية العسكرية والمدنية، وعن الأُفق السياسى المُواكب لحركةٍ بهذا الحجم. كما يضع كثيرًا من علامات الاستفهام والدهشة على مُطالباتٍ حماسيّة مُبكّرة بتفعيل «وحدة الساحات» مع محور المُمانعة، ثمّ سَحبها، ثمّ التنسيق والعمل مع حزب الله من جنوب لبنان والإعلان عن فرعٍ قسَّامى هناك، قبل الرجوع بأثر الغضب اللبنانى العارم، وبعدها الدعوة لثوير الشارع العربى، وصولاً لتحريض الأُردنيين على الفوضى كما فعل خالد مشعل مُؤخّرًا. وربما لا يكون كلُّ ذلك من باب سُوء النيّة؛ لكنه لا يُحمَل إلَّا على خِفّة الإعداد وغياب البدائل الموضوعية، لا سيّما أنّ الخبرة الطويلة بالصهاينة لا تُوفّر فرصةً للظنّ بأنهم لن يستغلوا الفرصة، ولن يذهبوا فى مسار البطش والإفناء إلى آخره. والافتراضُ الوحيد العاقل أنَّ الفصائل الغزِّية تعرَّضت للخداع وخيانة الحلفاء؛ ليس شرطًا أن يكونا على صيغة نقض اتّفاق قريبٍ بشأن الصدام الأخير، وإنما بالعودة عن تطميناتٍ سابقة بشأن الإسناد وشراكة السلاح ووحدة المصير.
لم يكن دخول «حزب الله» فى المواجهة من يومها التالى مُبادرةً أو تطوُّعًا؛ بل الحدّ الأدنى من الوفاء بالتزاماتٍ سَبقَ الاتفاق عليها، وأقصى هامشٍ يُمكن أن تُقدّمه قيادةُ المحور الشيعى للحليف الفلسطينى المغدور. أمَّا الخللُ المُركَّب هنا؛ فأنّهم افترضوا إمكانيةَ الرقص على الحبل دون السقوط فى أحد الجانبين. بمعنى أن العمامةَ الشيعية الكُبرى سعت لإيهام الحركات الغزِّية بأنها على العهد معهم، وفى الوقت نفسه تقول لإسرائيل، والولايات المتحدة من خلفها، إنها تصون شروطَ النزاع الإقليمى، ولم تخترق قواعدَ الاشتباك أو تسعى لإعادة صياغة توازناته القائمة. وبينما تلقَّت واشنطن الرسالةَ باصطناعِ القناعة، واكتفت بالردِّ على الميليشيّات فى بيئاتها دون المساس بالوجود الإيرانى المُباشر؛ قفزت تل أبيب بعيدًا للأمام واستهدفت الرأسَ بقدر استهدافها للأطراف؛ فكانت عشرات الجولات فى فضاء سوريا على مدى شهور، واغتيال قادةٍ نظاميِّين بالحرس الثورى، بالوتيرة نفسها، وربما أعلى ممَّا أطاحت رموزًا حماسيّة وحزبية فى غزّة والضاحية وجنوب لبنان.
انطلاقًا من مُباغتة إسرائيل بتعديل ضوابط الميدان؛ كان على طهران أن تنخرطَ فى ساحة اللعب دفاعًا عن المكانة المعنوية، وحتى لا تُصاغ مُعادلةُ ردعٍ تستنزفُ رصيدها العاطفى، ويستحيلُ تقويمُها مُستقبلاً.. وبهذا التصور؛ لا يُمكن عَزل الردِّ على استهداف القنصلية مطلع الشهر الجارى، بإطلاق مئات المُسيّرات والصواريخ ليل السبت/ الأحد، عن مجريات الأحداث فى غزّة؛ لكنه بالأساس كان استجابةً مُباشرة لامتحاناتٍ شخصية. أى أنه جاء فى سياق حرب القطاع؛ لأن تل أبيب أرادته هكذا؛ وليس لأن قلب محور المُمانعة اختار تفعيل إمكاناته المركزية لخدمة أطرافه المأزومة. وهنا تحديدًا تبزغُ المُشكلة الكبرى؛ لأنّ الحرس الثورى استُدعِى للمُواجهة على غير رغبته، والاحتلال وحده يملك مفاتيحَ إبقاء الجبهات مُتّصلةً أو عَزلها عن بعضها. وحال أن يردَّ على الردِّ الإيرانى، ثمّ يتلقّى تعقيبًا إضافيًّا مُتوقَّعًا، بإمكانه الاستمرار فى الدائرة الجديدة أو تطويقها وامتصاص فائض طاقتها، دون أن ينعكس هذا على حال غزّة؛ بل ربما يُساعده على ترشيد لوثة الميليشيات، من العراق واليمن لسوريا وخط لبنان الأزرق. باختصار؛ تمنح التطوُّرات لنتنياهو فرصةَ أن يضع البيض فى سلّة واحدة، ويفتتح حربًا وجوديّة يثقُ فى أنه لن يفقد فيها دعمَ الولايات المُتّحدة، أو أن يقطع بعضَ أذرع الأُخطبوط المحيط به، وينفرد بالغزِّيين كما كان، وربما بدرجةٍ أكبر.
ومكمنُ الخطورة أنَّ تدافُع الأحداث والعلامات قد يُنتِج قراءاتٍ خاطئة، وأكثر احتمالاتها إزعاجًا ما يخصّ القطاع بالتحديد. لو كان الرهان الأصيل أن تُعَاد القضية للواجهة، وأن يستعيد الفلسطينيون زمامَ أمرهم؛ فالواجب أن يكونوا فى خصامٍ وقطيعة جِذريَّين مع كلِّ ما يحرفُ النظرَ عن المأساة، وما يُبقِى الانقسامَ والنزاعات البينية تتحكَّم فى حاضرهم وتحكُمُ مُستقبلَهم. وعمليًّا فإنّ تعطُّل التفاهمات مع السلطة ومنظمّة التحرير يُترجم ديناميكيات «فوق فلسطينية»، يستجيبُ لها بعضُ الداخل بأكثر ممَّا يستجيبون للشواغل الوطنية المشتركة، كما أنَّ العودة عن بعض بنود الهُدنة المُقترَحة إلى شروطٍ أقلّ تقدُّمًا؛ إنما يشى برغبةٍ فى إبطاء المسار انتظارًا لما ستُسفر عنه الأيام. كأنه رهانٌ جديد على اشتعال الجبهات المُحيطة، كما كانت الغايةُ المُضمَرة قبل نصف سنةٍ من الآن.
كانت «حماس» قد توصَّلت، بعد جولات باريس والقاهرة والدوحة، إلى مُبادلة أربعين أسيرًا بعدَّة مئاتٍ من الفلسطينيين فى سجون إسرائيل، مُقابل التهدئة لستة أسابيع، وتعديل خريطة انتشار جيش الاحتلال، مع الاختلاف بشأن الوَقف الدائم للنار، وهل يكون مُعلَنًا بصياغةٍ مُعجَّلة أو تُنتجه مُحادثات المرحلة التالية.
ومُؤخّرًا تردَّد أنهم عدَّلوا التصوُّر إلى عشرين أسيرًا بالشروط نفسها، وهو ما لا يُرجَّحُ أن تقبله إسرائيل، فضلاً على أن نتنياهو يتشدَّد أصلاً فى المُفاوضات ولا يُريد الوصول لتسوية. ثمّة احتمال أنّ الحركة لا تحوزُ العددَ المطلوب؛ إمَّا لمقتل بقيّة الرهائن أو لعجزها عن استخلاصِهم من أيدى الفصائل الشريكة، لكنَّ احتمالاً آخر أنهم يستقطعون وقتًا فى انتظار التطوُّرات على خطِّ النزاع بين تل أبيب وطهران. وهم إن كانوا يفعلون ذلك بقرارٍ فردى، أو بتنسيقٍ مع الرُّعاة فى محور الممانعة؛ فالأغلب أنهم لن يُستشارَوا فى أىِّ اتفاقٍ للتهدئة بين الطرفين قريبًا. وقتها قد يجدون أنفسهم أمام محنةٍ ثُلاثية مُركّبة: تغطية جنون العدو، وتعطيل مسار الوساطة، وأن يُلدَغوا من جُحر «خيانة الحليف» مرّتين.
لن تنتهى حروبُ إسرائيل؛ وهى فى عُمق الوعى وفلسفة التأسيس بلدٌ يعيش على حدِّ السيف، ويربحُ من الشِّقاق بأكثر ممّا يُفيده التوافق. مرّة وحيدة خرجت من الميدان خاسرةً؛ كان ذلك فى حرب أكتوبر قبل نصف القرن، ومن بعدها تفتتحُ الحروبَ وتختمها وتحصد المكاسبَ وحدها. والآن تعيش امتحانًا وجوديًّا صعبًا، وما عاينته فى طوفان الأقصى ستستميتُ لكى لا يتكرّر. يُرجّح ذلك أن تفتعل صدامًا إفنائيًّا مع حزب الله فى حدودها الشمالية، وأن تستثمر التناقُض لتُجهِز على بقيّة الميليشيات الخطرة بيدٍ أمريكية، وستصل مع إيران لصدامٍ ولو بدا مُؤجّلاً اليوم. ومهمّة الفاعلين فيما بين النهر والبحر الفلسطينيِّيْن؛ أن يبحثوا عن الفُرص الكفيلة باستثمار السياق الإقليمى، لا أن يتورّطوا فى أشدّ نقاطه سوداويّة وانغلاقًا. من الداخل يُمكن أن تتعدّل الأوضاع بالسلاح والسياسة والديموغرافيا؛ أمّا من الخارج تصيرُ فلسطين هامشًا على حربٍ عقائدية أُصوليّة؛ لا موضوعًا مُستقلاًّ للنزاع. وإذا كانت غاية التحرُّر اليوم بعيدةً بأثر اختلال الموازين البينيّة؛ فإنها تبتعدُ أكثر كُلّما أُلحِقت القضيةُ على تيّارٍ أو وُضِعت تحت عمامة.
صراعاتُ البشر كُلها تُحسَم عاجلاً أم آجلاً؛ أمّا محارقُ الأُصوليّات فلا يُنهيها سلاحٌ أو قانون. والحربُ الدائرة حاليًا أقرب إلى متاهةٍ مُغلقة، والذين يُزمجرون ويزأرون داخلها أضاعوا المفاتيح. لا أقصد غزّة؛ لأنها لا تملك قرار الابتعاد عن بطش العدو وإملاء الحليف؛ لكنّ القاتل لا يعرفُ كيف يخرج من الميدان، وفى الحقيقية لا يُريد، والمُتاجر إمّا أن ينتحر فى الفخّ الذى أعدّه الغريم، أو يناضل لآخر قطرة دمٍ فلسطينية. سيروحُ ويجىء بين ثلجٍ ونار، وقد يُصعِّد فى مرحلةٍ ويبتلع الصفعات فى غيرها؛ لكنه لن يتخلّى عن البيئة الفلسطينية كنطاقٍ للتعبير عن البأس ومُختبَرٍ لرسائله الساخنة. تلك الحلقة الفولاذية الخانقة يتعيّن أن تنكسر؛ لا بحسابات المحاور والعواصم وعلى ساعاتها؛ إنما بحسبة فلسطين وتوقيت غزّة ورام الله. التاجرُ يقيم السوق ويفُضّها على شرط الربح، والقاتل قد يطال غريمه المراوغ فى دمشق والضاحية وغيرهما، لكنّ انتقامه الدائم يقع على مساكين القطاع، وكلما عجز عن تصفية الصراع هناك يصفيه هنا؛ وإذا لم تنتفع بمزايا الشراكة فمن الغباء أن تستمر فيها وتُسدّد خسائرها الباهظة.. إنها كمّاشة مُحكمة من العدوّ والحليف معًا، ولا بديل عن الإفلات منها؛ على الأقل لأجل أن تصفو وجيعةُ الأرض من وقاحات الوَصم والاستقطاب والابتزاز والمُزايدات الفجّة.