مجدي يعقوب حفيد الفراعنة، المؤمن بقدرته على تحدي المستحيل، ابن مصر البار، الذي لم يسمح للحياة أن تأخذه بعيدا عن أهله، المجتهد والموهوب، نعرفه جراحا عالميا، وإنسانا راقيا، لكن كيف كانت حياته الأولى، وماذا جرى في طفولته؟
لذا سنقرأ معا مذكراته التي صدرت ترجمتها العربية بعنوان "مذكرات مجدي يعقوب.. جراح خارج السرب" عن الدار المصرية اللبنانية، ترجمة أحمد شافع.
أول ما يلفت الانتباه في الكتاب مقدمته والتي جاء فيها "هذه قصة رجل متواضع، عاش يراكم المعرفة مثلما عاش كثير من الناس غيره يراكمون الثروة. هو طبيب يعلي قيمة المجتمع، ويؤمن بالنضال من أجل عالم أكثر إنصافا" لكن ماذا جاء في الكتاب؟
البدايات.. سماحة الأب وصرامة الأم
كان مجدي يعقوب "مختلفًا" منذ البداية، وتلك سمة سوف تصطبغ بها حياته في رشده، وتتشكل بها حياته العملية جراحًا وعالما، ولد في السادس عشر من نوفمبر سنة 1935 بمدينة بلبيس.
كان والد مجدي، واسمه حبيب، جراحًا عاما يعمل في الحكومة، وعمل في وقت لاحق من حياته في الصحة العامة، وكان رجلا سمحا ، أما والدته "مادلين" فكانت ابنة قاض، وكانت أما صارمة فرضت النظام على حياة الأسرة، وأصرت على أن يكون أبناؤها من الناجحين وكانت تعزف على البيانو مقطوعات قليلة.
ودأب والده "حبيب" أن يلقن أبناءه القيم فيقول: "إنني لا أريد أن أورثكم مالا، وليس لدي منه الكثير أصلا، ولكنني أريد لكم قدرًا طيبًا من التعليم والمعرفة. ولن يخذلكم هذا أبدا، وأموت راضيا وقد تركتكم قادرين على تولي أمور أنفسكم".
وفي بلبيس بدأ مجدي على استحياء في مدرسته الحكومية الأولى، وبرز وسط أطفال الصف الأول بضخامة بنيانه، فنقلوه إلى فصل آخر متقدم بسنتين، وبدا هنالك أنه قد انطوى على نفسه، كان ولدا هادئا دائم الجلوس في آخر الفصل، وقد ظن بعض المعلمين أنه "متأخر عقليا".
أحداث غيرت حياة مجدي يعقوب
من أهم الأحداث التي غيرت حياة مجدي يعقوب أنه في عام 1940 توفيت عمته "يوجين" من جراء مرض في القلب، وكانت طالبة في الجامعة لم تتجاوز من العمر اثنين وعشرين عاما، فخيم الغم على الأسرة، ولم تزل لديه ذكريات قوية عن وفاة يوجين التي ملأت نفسه إصرارا، فعقد العزم على أن يصبح جراح قلب.
وبمضى السنوات اكتسب مجدي ثقة في نفسه، بدأ أترابه يدركون خصاله وسجاياه، فيعرفون فيه نضجه وشدة بنيانه القرينة بوداعته، فانتخبوه في المدارس رئيسا لفريق كرة القدم، وحكى أن الأولاد دأبوا على قولهم "إذا حدث مكروه معنا مجدي ينزل بهم العقاب"، كما كان سباحا ماهرا.
في سنة 1948 انتقلت أسرته لتعيش قرابة سنتين في أسوان، وقد تركت فيه المناظر الطبيعية وطبيعة الناس أثرا كبيرا، وقال لنفسه سوف أعود إلى هنا يوما ما.
المرة الأولى في غرفة العمليات
كان خاله طبيبا ودعاه مرة للدخول معه إلى غرفة العمليات، لكنه عندما رأى الدماء أغشي عليه ووقع على الأرض، ويعترف "أنا لا أطيق منظر الدم، لكنني في غرفة العمليات أكون غارقا في التركيز".
تقدم مجدي يعقوب للحصول على منحة في جامعة القاهرة، وجاء ضمن العشرة الأوائل في سنة 1951، وحظي شقيقه جيمي بمنحة أيضا لدراسة الطب في العام نفسه.
وفي عمر الواحد والعشرين حظي على تكريم من الرئيس جمال عبد الناصر بوصفه من المتفوقين في كلية الطب، وقد راقت شعارات ناصر عن المساواة لمجدي يعقوب لكنه لم ينسجم مع الاشتراكية.
في القاهرة كان الأخوان (مجدي وجيمي) يعيشان في شقة مطلة على النيل، وينعمان بحياتهما الجديدة، فهما على قدر طيب من اللياقة والقوة، وقدر متزايد من الانخراط الاجتماعي، فكان مجدي يذهب للسباحة ولعب التنس، ويواصل اهتمامه بالموسيقى الكلاسيكية بتذاكر لا تكلفه غير قروش قلائل في دار الأوبرا الخديوية بوسط القاهرة، كما اشترك في جمعية الموسيقى الكلاسيكية الوليدة في كلية الطب، فاستمتع بالاستماع إلى مقتطفات من دون جيوفاني لموتسارت على الفونوغراف مع شروح للأوبرا نفسها من زملاء له في الكلية. وشأن طلبة الطب في أي مكان في العالم، كان أولئك الطلبة ينعمون بحفلات طيبة. قال مجدي: "لقد كنا نجد في العمل، ونحظى أيضًا بالكثير من المرح".
في الوقت نفسه، بدأ يفكر في الرحيل عن مصر . ففي خطوته الأولى، سافر إلى اسكتلندا، حيث اجتاز الجزء الأول من زمالته، وهي درجة عليا في الجراحة، وذلك في كلية الجراحين الملكية في إدنبرة، وقبل التخرج زار يعقوب أيضا السويد والدنمارك.
غير أن صحة الوالد "حبيب" بدأت تتدهور، من جراء السكري وارتفاع ضغط الدم، وأصابته في ربيع عام 1959 سكتة قلبية حادة مصحوبة بفشل كلوي، ولم تكن التوقعات مبشرة، نقل إلى مستشفى خاص في القاهرة، وظهرت عليه لفترة عابرة بوادر الشفاء، قبل أن يعاني مسكنة قلبية أخرى، وكان يعقوب حاضرا في غرفته عند وفاته.
توفي والده يوم 30 يوليو سنة 1959، وكان في الثامنة والخمسين من عمره، وبعد وفاته والده، واصل يعقوب استعداداته للرحيل إلى بريطانيا خلافا لرغبة أبيه الراحل.
طريق التقدم.. السفر
في يوم مشهود أواخر مايو سنة 1961، استقل مجدي يعقوب القطار من محطة رمسيس في وسط القاهرة متجها إلى ميناء الإسكندرية على بعد أكثر من مئة وخمسين كيلو مترا.
واستغرقت الرحلة قرابة ثلاث ساعات، وبرفقة أخيه جيمي، استقل بعد القطار سفينة من الإسكندرية إلى مرسيليا قاصدًا الندن، وكانا في الليلة السابقة قد ودعا أمهما مادلين وأختهما مهجة وأخاهما الأصغر سامي.
ويمكن القول إنه في الخامسة والعشرين من العمر كانت لدى مجدي بالفعل رؤية لمستقبله، وإن كانت منقوصة، فقد كان يريد أن يخدم مجتمعًا، وسوف تتجلى تلك الرغبة سواء في بريطانيا أو في مصر من خلال توفير خدمات رعاية القلب في قرية هير فيلد المعزولة، أو في مدينة أسوان النائية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة