عرفت خبر رحيل الفنان صلاح السعدني من أبي قبل أن أتلقاه من وسائل الإعلام، حرص أبي أن يخبرني باسمه كاملًا كما سمعه من إحدى محطات الإذاعة: "صلاح الدين عثمان إبراهيم السعدني"، وأن يرشدني كذلك إلى جذوره:"أصوله ريفية من المنوفية"، بدا أبي كما لو كان يرسخ لجيله من خلال "صلاح" أحد البارزين فيه، صحيح الصدفة جمعتهما في نفس الاسم ونفس الدراسة وهي الزراعة، لكن الأهم سمات جيل عاش أزمنة متباينة، من الزمن الستيني وفيمه وأنساقه الفكرية التي سعت للتحرر والوحدة العربية والاشتراكية في ظل هوية خاصة، إلى الزمن السبعيني ومنظومته الانفتاحية التي سعت نحو الاندماج في النظام الرأسمالي العالمي عبر التبعية وتذويب الهوية، إلى زمننا هذا بكل ما حمله من إنعطافات جامحة، سريعة، عنيفة، جعلت صلاح السعدني يختار في سنواته الأخيرة ترسيم حياته بهدوء بعيدًا عن الفوضى الخارجية، ربما أثرت فيه وفاة شقيقه الأكبر الكاتب محمود السعدني "الولد الشقي"، أحد كبار كُتابنا الساخرين وأكثرهم عمقًا في التعبير عن الشخصية المصرية بسخرية غالبًا تعبر عن أحوال المصريين، فالموت لا يختطف أصدقاء وأحبّة فقط وإنما يصيب الأحياء بوجع أو خيبة، ويزرع في النفس والقلب والروح معًا جرحًا إضافيًا من جروح الحياة، جرح لا يندمل بسهولة، لذا فإن اختيار صلاح بالابتعاد قد يكون مفهومًا وإن حدث بعد وفاة شقيقه بثلاثة سنوات وتحديدًا منذ العام 2013، العام الذي اختتم فيه مسيرته الفنية الحافلة بمسلسل القاصرات إخراج مجدي أبو عميرة، حين اكتفى بنصيبه الهائل من الأضواء وابتعد خطوات قليلة عن الكادر، بما يتيح له ربما بعض التأمل في الحياة العاصفة وأيضًا الاحتفاظ بمساحته الإنسانية الخاصة.
لم يأت صلاح السعدني من جهة هادئة ولم يكن يومًا سلبيًا في التواصل مع أحوال مجتمعه ووطنه، بل كان فاعلًا مثل جيله الذي نشأ وازدهر في أجواء عامة كان لها تأثيرها في العملية الإبداعية إجمالًا: كتابة وصورة.. جمعتني المهنة به أكثر من مرة في مواقع تصوير مختلفة، كنت أشهد حيويته وحرفيته في فهم الدور وحفظ الحوار بسهولة وربما من قراءته أول مرة، أخبرني مرارًا أن السياسة كانت كل اهتمامات جيله، بل حياتهم كالماء والهواء، قال:"أنا لا أدعي أنني سياسي ولكنني مهموم بقضايا وطني، يحزنني جدًا أي تراجع على أي مستوى. لذا أثور على أي خطأ ولا أخشى في الله لومة لائم، وهذا ينعكس بوضوح في اختياراتي لأعمالي التي أقدمها على الشاشة".
رثاء وتأمل ...
إنه قدر الإنسان. للرحيل الأخير ألف سبب وسبب، وللذكريات من بعده ألف حكاية تُروى. إذًا فإن صلاح السعدني، رحل اليوم الجمعة (19 ابريل 2024) إثر أزمة صحية طويلة ـ أحد أعمدة التمثيل المصري، غادر الحياة عن 81 عامًا، هذه لحظة قاسية تستدعي رثاء يليق به، كما تتطلّب أيضًا شيئًا من إعادة قراءة المعنى التمثيلي لفنان شغف بالفن والحياة، أتذكر صوته جيدًا الآن حين أخبرني ذات مرة في كواليس تصويره مسلسل عمارة يعقوبيان مع المخرج أحمد صقر (2007): "أشعر أنه ما زال أمامي الكثير لأنجزه"، لا أعرف لماذا شعرت حينذاك أنني أمام فنان اختبر الحياة وتسكع في دهاليزها غرامًا وحنينًا وحتى عذابات وغربة، إلى أن احتواها واحتوته، لذا فهو ليس في عجلة من أمره، ما زال في ريعان الشباب مهما توالت السنون ومهما اقتات الفن من شبابه وعمره، ما زال أمامه الكثير بالفعل لينجزه.
بعيدًا عن التصنيفات النقدية التقليدية، فإننا أمام "العمدة" أحد أبرز أدواره وأكثرها حضورًا في المشهد التمثيلي المصري والعربي، سليمان غانم الذي نصبه حسب كتابات نقدية وصحفية عدة ليكون "عمدة الدراما العربية"، مع أن هناك عمدة شهير أخر هو العمدة عتمان الذي جسده الفنان صلاح منصور في "الزوجة التانية" للمخرج صلاح أبو سيف، لكن سليمان غانم العمدة مختلف في "ليالى الحلمية" تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج اسماعيل عبد الحافظ، مع مراعاة الفارق بين النموذجين وكذلك الحالة السينمائية والحالة التليفزيونية، لأن سليمان غانم في المسلسل ذائع الصيت والجماهيرية كان مثالًا للشخصية الجارفة الطيبة والسماحة وخفة الظل، رغم قسوتها الظاهرية خصوصًا في التعامل مع الغفر والعاملين معه، بل أن هذا التناقض الخارجي والداخلي كان أكثر ما يفجر السخرية وما يتبعها من ضحك، وقد أداه السعدني بإيقاع يكشف عن أصالة الشخصية الإقليمية، يتنفس من خلاله بمحلية واضحة وصريحة وغير مفتعلة.
في بدايات مشواره الحافل فرض لنفسه مكانة بأدوار ثانوية أو مساعدة، بملامح وجهه وإطلالته المصرية ونبرته الأدائية الطالعة من عمق الذات وصلابة الحضور، قدّم نحو 211 عملًا بين الإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما، يحتلّ بعضها موقعًا بارزًا في التاريخ الحديث لصناعة الدراما المصرية بكافة أنواعها، من أدوار صغيرة كما سبق أن أشرت، مثل دوره في "القاهرة والناس" إخراج محمد فاضل، علواني في فيلم "الأرض" إخراج يوسف شاهين، مسعد في "أغنية على الممر" إخراج علي عبد الخالق، وأدوار أخرى كثيرة متفاوتة في المساحة ولكنها تكشف عن ممثل لديه طاقات تمثيلية هائلة، فمن ينسى مثلًا سمير في طائر الليل الحزين إخراج يحيي العلمي، عاطف في مسلسل "أبنائي الأعزاء شكرًا" إخراج محمد فاضل، فتحي في مسلسل "لسة بحلم بيوم" إخراج يوسف مرزوق، الشيخ محمد النجار في مسلسل "أديب" إخراج يحيي العلمي، سمير في فيلم "فتوة الناس الغلابة" إخراج نيازي مصطفى، عبد الواحد في "فوزية البرجوازية" إخراج إبراهيم الشقنقيري، وفيق في فيلم "زمن حاتم زهران" إخراج محمد النجار، محمود في "أحلام صغيرة" إخراج خالد الحجر، عزوز عبد التواب في "كونشيرتو درب سعادة" إخراج أسماء البكري، عبد القادر في "كفر عسكر" إخراج نادر جلال ، نصر وهدان القط في مسلسل "حلم الجنوبي" إخراج جمال عبد الحميد، أو مسرحية "الملك هو الملك" إخراج مراد منير، أو نسيم "شارع المواردي" والعمدة سليمان غانم "ليالي الحلمية" وحسن النعماني "أرابيسك"، دكتور عزيز محفوظ "الأصدقاء"، أعماله وحضوره المتوهج مع المخرج إسماعيل عبد الحافظ، وأعمال أخرى كثيرة مفتوح القوس عليها عن آخره.
جاذبيته الإنسانية عكست حضوره الفني بتألّق وتأثير واضح في قلب المُشاهد وعقله، كممثل أدرك كيفية الوصول إلى عمق الأسئلة اليومية المعلّقة، وعرف آلية البحث في التفاصيل الصغيرة التي شكلت لحظات المتعة التمثيلية عنده، ذلك أن صلاح السعدني في تصوري يبقى واحدًا من قلّة جمعت الحسّ الوجودي في اقتباسه التمثيلي، بالأبعاد المختلفة للإنسان الفرد في مواجهته اليومية حقائق ذاته وعلاقاته بها وبالجماعة، هذا الجمع التفصيلي شكل أدائه التمثيلي ودفعه للانخراط في المشروع الدرامي نحو أفق مفتوح على حكايات عدة، لعلّ اختباره المسرح وميكروفون الإذاعة فضلًا عن كاميرتي التليفزيون والسينما، كل ذلك منحه تدريبًا وخبرة في تقديمه نماذج لشخصيات مختلفة، إستطاع أن يُطوعها لتكون أكثر حيوية.
من هذا نجدنا أمام تفصيل من تفاصيل كثيرة في مشروع صلاح السعدني، بما يؤكد أنه يحتاج إلى ما هو أبعد من الرثاء، وأعمق من مقال مكتوب بعُجالة بمناسبة حزينة كهذه، أعماله العديدة تعكس صدق تجربته بما احتوته من حساسية ورهافة وجمالية وأدوار ذات مضامين إنسانية واجتماعية ما تشير إلى أنه لم يبقَ أسير نمط واحد، أو نوع واحد، هنا أتذكر صوته مجددًا في أحد حواراتي الصحفية معه، حين قال:"أهم شيء أحرص عليه قبل اختياري للعمل، يتمثل في معرفتي الفكرة وهل هي تمس المجتمع وهمومه، هل هي من صميم الشخصيات الموجودة في الحياة، فلا يمكن أن أوافق علي عمل يتحدث عن فكرة غير مطابقة لواقعنا، ولا تلمس المواطن البسيط، فأنا أحب أن أقدم كل شرائح المجتمع وكل النفوس، ولا أحب أن أكرر نفسي، فعندما أقدم الشرير يجب أن أقدم كذلك الطيب المتسامح".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة